“البابا”.. استقالات وانقلابات وصراعات داخل الكنيسة

إنه أحد أقوى الرجال في العالم، ويشغل منصبا قائما منذ نحو ألفي عام، ورغم أن العالم يتغير والإيمان يتطور فإن سلطته بقيت صامدة، لقد بدأ الأمر بحواري واحد للمسيح، واليوم يتبع شخصا واحدا نحو 1.2 مليار في كل أنحاء العالم، إنه البابا رأس الكنيسة الكاثوليكية، وهذه قصة صعوده إلى السلطة.

تتعمق هذه السلسلة المكونة من ستة أجزاء في تاريخ أحد أكثر الشخصيات احتراما وتكريما في العالم، وتستكشف كل حلقة فترة زمنية مختلفة وموضوعا شكل دور البابا والكنيسة الكاثوليكية في ما هو عليه اليوم.

 

خاص-الوثائقية

تناقش الحلقة الثانية من سلسلة “البابا” تاريخ استقالات البابوات ابتداء بالبابا الشاب “بنديكت التاسع” في القرن الحادي عشر، وانتهاء بالبابا “بنديكت السادس عشر” وكيف تعددت الباباوية فانقسمت الكنيسة ونشبت الحروب بين أنصار كل بابا.

ففي الحادي عشر من فبراير عام 2013 قام البابا بنديكت السادس عشر بالتخلي عن سلطاته الدينية، وكان الإعلان عن الاستقالة ضمن خطاب باللغة اللاتينية، فأصاب الذهول كل من سمع الخطاب وفهمه، وقد اعتبرت الحادثة صفعة قوية للكنيسة الكاثوليكية وهز بذلك أساس البابوية الذي أتى بها القديس بطرس، وبعد أسبوعين انتخب خليفته البابا فرنسيس لينتقل التاج البابوي له، وبذلك فقد أصبح للمسيحيين باباوان يحملان اللقب، المشكلة تكمن في التساؤل: لمن سيقدم هؤلاء المسيحيون الولاء؟ ومن منهما الذي يجب طاعته؟

كانت استقالة البابا “بنديكت السادس عشر” بعد أن بلغ من العمر عتيا، فقد تجاوز 85 سنة، وخلف وراءه ميراثا ثقيلا من الفوضى المالية والإدارية والاعتداءات الجنسية، لقد كان عاجزا عن حل كل تلك المشاكل.

يعتبر الأسقف “بول تاي” سكرتير المجلس البابوي للثقافة في الفاتيكان أن البابوية من صنع الرب ولا يحق للبابا التخلي عنها، وهذا ما لا ينبغي للبابا أن يفعله.

في الألفي سنة الماضية استقال أربع باباوات فقط، لكن الماضي يشهد على أن وجود باباوين لا ينتج عنه إلا الفوضى.

البابا بنديكت التاسع ابن 19 عاما يقدم استقالته كأول حادثة لا مثيل لها في التاريخ

 

عبث بنديكت المراهق.. أول استقالة في التاريخ

حدثت أول استقالة للبابا في التاريخ في القرن الحادي عشر، ونتجت عن تلك الاستقالة انقسامات كارثية، فقد تولى البابا بنديكت التاسع سلطاته البابوية عام 1032 وهو في ابن 19 عاما فقط، لقد كان من عائلة رومانية ثرية وقوية، وقد أرادت الأسرة تعيينه لتعزيز سيطرتها الإقليمية ولمكاسب مالية.

في ذلك الوقت كانت البابوية مركز السلطات التشريعية، وهي سلطة هائلة ومسؤولية عظيمة في العالم الغربي، وكان إذا أراد أحدهم أن يشتري كنيسة أو أراد آخر الزواج بزوجة أخيه، فعليه أن يأخذ إذن الكنيسة مقابل دفع رسوم.

لم يكن بنديكت التاسع إلا فتى مراهقا لا يكترث بالديمقراطية والخدمة العامة، ولم تكن له سلطة روحية بل كانت البابوية له مجرد باب لفتح الثراء على عائلته، فقد عرف بفساده الأخلاقي وعدم صلاحيته للمنصب، وقد غرق بالجرائم كالسرقة والقتل واستغلال منصبه لجني المال من أهالي روما. يقول “إيمون دافي” صاحب كتاب “قديسون وآثمون”: تُنتج المحسوبية في العادة مجموعة من الطفيليات الأثرياء الذين يعيشون كالنبلاء وهم أيضا رجال دين.

ضاق الكرادلة ذرعا بتصرفات البابا، وفي عام 1044م اتفقوا على أن الكنيسة بحاجة إلى قائد روحي وسياسي حقيقي ولا بد من إجراء تغيير، اجتمع كبير الكرادلة مع البابا الفتى، وطلب منه التنحي من أجل مصلحة الكنيسة وقدم له عرضا ماليا، فما كان من البابا إلا أن قبل العرض وباع البابوية، كان ذلك عملا غير مألوف واستاء الجميع منه، لأن بيع السلطة الكنسية من أسوأ الخطايا في الكاثوليكية.

عاد البابا بنديكت التاسع عن قرار تنازله عن البابوية مرتين فأصبح عدد البابوات ثلاثة

 

اجتياح روما.. فوضى الباباوات الثلاثة

لم تكن الانتخابات السرية قد اخترعت بعد في ذلك العصر، وكان منصب البابا يؤخذ بالقوة الغاشمة، فاجتمع الكرادلة وأخرجوا البابا من روما واختاروا بابا جديدا وأطلقوا عليه اسم سيلفستر الثالث في عام 1045، لكن بعد أسابيع من تسلمه البابوية حدث ما لم يكن بالحسبان، فقد عدل البابا بنديكت التاسع عن رأيه وأراد أن يعود للبابوية.

أصبح هناك باباوان، يدعي كل منهما أنه خليفة القديس بطرس، لكن عائلة بنديكت كانت أكثر ثراء ونفوذا من عائلة “سيلفستر الثالث”، فأمدته بالمال والسلاح وتمكن من اجتياح روما وإسقاط سيلفستر.

يرى “ديرميد مكالوخ” صاحب كتاب “تاريخ المسيحية” أن الأمر محير للغاية، لأن هذا لا يتطابق مع ما كان عليه الحواريون وما ينبغي أن يكون عليه القائد المسيحي، لكن هذا الحال الذي وصلت إليه الكنيسة كان نتاج خليط غير مريح من القوة الروحية والقوة المادية الدنيوية.

بعد ستة أشهر من قبول الرشوة وترك سدة البابوية أعيد بنديكت التاسع بولاية ثانية وأصبح سيلفستر الثالث في المنفى في إحدى القرى خارج روما، وقد خلف الانقسام في روما بين سيلفستر وبنديكت أزمة حادة للكنيسة، وبعد شهر من عودة بنديكت التاسع للبابوية زادت الأمور تعقيدا حين قرر في إحدى نزواته الزواج، وبناء على ذلك قرر تسليم البابوية لوالده الروحي الذي أصبح البابا غريغور السادس.

لكن حدث ما لم يكن متوقعا، ووقعت الفضيحة حين قررت عشيقة بنديكت التاسع تركه وعدم الزواج منه، وقرر هو العودة مرة أخرى للبابوية، وهنا أصبح خلافا بثلاثة رؤوس، ثلاثة باباوات يتنازعون المنصب وكل واحد منهم يدعي أحقيته، ومرة أخرى حسمت عائلة بنديكت التاسع النزاع بقوتها وسطوتها، وتمكنت من إعادته للبابوية للمرة الثالثة في عام 1047م، وأدخل عهد هذا البابا البلاد في فوضى وزعزع الأساس الروحي للبابوية، وفي عام 1048م قرر الكرادلة عزل بنديكت التاسع للأبد واختيار بابا جديد.

بأغلبية ثلثي أصوات الكرادلة تتحقق لانتخاب البابا، كانت تحرق أوراق التصويت فيخرج الدخان الأبيض مبشرا بالنجاح

 

الدخان الأبيض.. قواعد انتخاب البابا

كان اختيار البابا دون أسس واضحة من أهم مشكلات الكنيسة في القرن الحادي عشر، فقد كان يشوبه كثير من الفساد والرشوة والمحسوبية، وأحيانا كان يختار أبناء البابا للمنصب أو من يمتلك قوة عسكرية، وقد أراد الكرادلة حل هذه المعضلة نهائيا وقرروا توحيد قواعد انتخاب الباباوات، فاجتمعوا ونتج عن اجتماعهم واحد من أشهر رموز البابوية، إذ ظهر ما يعرف بالمجمع المغلق أو المفتاح، ويعني أن الكرادلة جميعا معزولون في الداخل لمنع التدخلات الخارجية، وتعقد الانتخابات بشكل سري فيدلون بأصواتهم، ثم يعلنون النتيجة ويطلقون الدخان الأبيض، ويدل ذلك على أن النتيجة حسمت.

يصوت الكرادلة في الفاتيكان مرارا وتكرارا حتى تتحقق أغلبية الثلثين بعدها تحرق أوراق التصويت ومن هنا يخرج الدخان الأبيض، وإن لم يتوصلوا لنتيجة كانوا يضيفون بعض القش في القرون الوسطى ليخرج الدخان باللون الأسود كناية عن فشل الاختيار، أما اليوم فيستخدمون مركبات كيميائية لتلوين الدخان، في الماضي كانت عملية الانتخاب تستغرق شهورا أما اليوم فتحتاج لبضعة أيام فقط.

يقول “ديرميد مكالوخ”: في القرن الثاني عشر، كان الكرادلة في روما يشكلون مجمعا وينتخبون البابا في العلن، وكانت خطوة تنظيمية جيدة لكنها قابلة للتلاعب، وبعد قرنين من الانتخابات العامة المشوبة بالفساد ظهر ما يعرف بالمجمع المغلق وكان ذلك عام 1247.

عرفت انتخابات القرن الثالث عشر بالفساد وتلقي الرشوة، وتأثرت كثيرا بصراعات الملوك والمماطلة والتخريف، وفي عام 1292 حاولوا اختيار بابا، لكن عمق الخلافات والشقاق حال دون ذلك، واستمر المجمع عامين كاملين وسادت الفوضى، يقول “جيرالد ماير” صاحب كتاب “عائلة بورجا.. التاريخ خفية”: مع غياب البابا تمكنت العصابات من السيطرة على المدينة، فلقد كان البابا بمثابة ملك محلي، لذا فقد غرقت روما بالفوضى.

شكلت استقالة البابا المراهق ضربة لمؤسسة البابوية، وقضت على إرث “القديس بطرس”، ثم تلته سلسلة من الباباوات الذين لم تهمهم سوى مصالحهم الشخصية، وهو ما عزز إصرار مجمع الكرادلة عام 1292 على تحديد اختيار البابا على أساس روحي، وأن يكون من عالم النساك بعيدا عن العالم المادي.

قرر الكرادلة انتخاب الناسك “بييترو أنجيليرو” لمنصب البابا في العام 1292م، وأطلقوا عليه لقب “سلستين الخامس”

 

سلستين الخامس.. راهب الكهف الذي خدعه الجميع

كان بييترو أنجيليرو راهبا ناسكا يعيش في أحد الكهوف، وكان لا يأكل إلا الحبوب ولا يقرأ سوى الإنجيل، وقد بعث للكرادلة برسالة مؤثرة اجتمعوا عليها ودرسوها، ثم قرروا انتخابه لمنصب البابا في العام 1292م، وأطلقوا عليه لقب سلستين الخامس أو السماوي، ورغم أنه لم يكن يرغب في البابوية فقد قبل بالمنصب على مضض، وكان يفضل الصلاة بمفرده، ثم ما لبث أن أعلن تقاعده بعد خمسة شهور.

تقول “سوزان وايز باور” مؤلفة كتاب “العالم القديم”: لم يُعرف هل كان البابا سلستين الخامس مدركا لما يدور حوله، فلم تكن حدة ذهنه وقدرته العقلية واضحة، إلا أن ملك فرنسا تلاعب به طوال فترته للحصول على جميع أنواع التنازلات والمزيد من السلطة، مما أثار قلقا في صفوف كرادلة روما.

وقد ساعد في استقالته خليفته البابا بونيفاس الثامن الذي يقال إنه كان يهمس له من خلال فوهة من حجرة الصلاة يوهمه أنه صوت الرب، وطلب منه أن يستقيل ليأخذ مكانه، وقد تعهد سلستين الخامس بعد استقالته طوعا بالعودة إلى التنسك من أجل صحته.

قرر البابا “بونيفاس الثامن” الوقوف في وجه فيليب الرابع ملك فرنسا أقوى ملوك أوروبا واستخدم معه لغة صارمة لتكريس سلطته البابوية

 

نزاعات الباباوات والملوك.. إيطاليا المتذبذبة

رغم الطابع السلمي لاستقالة سلستين الخامس فإن البابا الجديد بونيفاس الثامن حرص على إبعاده عن الأضواء، وفور مغادرته الفاتيكان أرسل إليه البابا الجديد أشخاصا هاجموه وحبسوه، ولم يسمح له بالتحدث والتواصل مع أحد من المناصرين إلى أن توفي في محبسه.

كان الملوك في ذلك العصر تهديدا حقيقيا للباباوات ولم يعرف من المسبب لتلك العلاقة المتوترة، الباباوات أم الملوك؟ لكن في القرن الثالث عشر لم تكن حدود العلاقة واضحة بين الدولة والكنيسة، وشهدت الصراعات كثيرا من المناورات والحيل والتنافس، فلم تكن في إيطاليا دولة مستقلة بذاتها وكانت مستباحة لمن يسيطر عليها، فهناك جزء تسيطر عليه فرنسا وآخر للنورمان وجزء ثالث لألمانيا.

وكانت إيطاليا محطة للنزاعات وكل من يرغب بالسيطرة عليها يخطب ود البابا، ومن أراد أن يحصل على جيش فعليه أن يحصل أيضا على مباركة من البابا، ونظرا للطبيعة المتذبذبة في أوروبا في القرون الوسطى نشأ اعتماد متبادل وتوازنات بين البابوية والملكية المحيطة بها للمحافظة على الاستقرار، لم يكن في يد البابا سوى الإقناع الأخلاقي، لذا كان يعقد تحالفات مع الزعماء والقادة.

اعتاد الكرادلة حياة البذخ التي منحهم إياها الملك الملذات في أفينيون بعد انتقال البابوية إلى فرنسا

 

“لا تصدق من يقول لك إنك الأعلى”.. رسالة إلى فيليب الرابع

في نهاية القرن الثالث عشر كان فيليب الرابع ملك فرنسا أقوى ملوك أوروبا، وعرف بتلاعبه بأملاك وأراضي الكنائس في عهد البابا سلستين الخامس، لكن لم يكن بمقدوره التلاعب بالبابا الجديد بونيفاس الثامن الذي رأى أن الملك تجاوز حدوده، وقرر الوقوف في وجهه واستخدم معه لغة صارمة لتكريس سلطته البابوية.

كتب البابا رسالة للملك، خاطبه فيها بقوله: “اسمع يا بني، لقد بعثنا الرب على رأس الملوك والممالك، ولا تصدق من يقول لك إنك الأعلى شأنا”. كان تصريحا بالغ الوضوح بأنه أعلى شأنا من الملك، لكن الملك كانت له أجندته الخاص ولم يسمح للبابا بالوقوف في طريقه.

كانت الحروب في ذلك الوقت تخاض بشراء الجيوش التي تحتاج لأموال طائلة، لذا كان الملك فيليب بحاجة دائمة للمال وكانت الكنيسة فاحشة الثراء، لذا حرص الملك فيليب بعد وفاة البابا بونيفاس الثامن على أن يُنتخب البابا الذي سيقدم له كل ما يريد، وأخبر مجمع الكرادلة بكل وضوح أنه يريد فوز المرشح الفرنسي، ورغم صعوبة تلك الانتخابات فقد فاز مرشحه في نهاية المطاف.

حمل البابا الجديد اسم كليمنت الخامس، وكان الملك يتحكم به كليا، فقد عرف بضعفه وخوفه من بطش الملك وطاعته العمياء له، ووعد الملك بحصة ثابتة من الضرائب التي تجنيها الكنيسة لتصل مباشرة إلى الخزينة الملكية، كما وافق على طرد اليهود بوصفهم خطرا على الكنيسة، كان البابا مجرد ألعوبة في يد الملك.
لم يكتف الملك القوي فيليب الرابع بالامتيازات التي قدمها له البابا كليمنت الخامس، بل سارع للخطوة التالية التي شكلت ضربة قاصمة للكنيسة في روما، فقد طلب الملك من البابا التخلي عن إرث القديس بطرس في روما ونقل البابوية إلى معقل سلطته في فرنسا.

ضرب الطاعون الأسود أوروبا وكان مرضا فتاكا عاث في أوروبا فسادا، وقضى على معظم السكان

 

الطاعون يفتك بأوروبا

اعتاد الكرادلة حياة البذخ التي منحهم إياها الملك، لكن خارج أسوار القلعة البابوية كانت أوروبا خرابا، تقول سارة دونانت مؤلفة كتاب “في صحبة المحظية”: “ضرب الطاعون الأسود أوروبا وكان مرضا فتاكا عاث في أوروبا فسادا، وقضى على معظم السكان، حتى أن بعض المناطق فقدت 90% من سكانها”.
مع انتشار الطاعون اضطرت البابوية لتقييم دورها ومواجهة الظروف القاسية التي حلت على أوروبا.
عانت روما الكثير بعد خروج البابوية وتراجعت الخدمات في المدينة، إذ كانت تغطي تكاليفها الخزينة البابوية، كما غاب القانون والنظام وانتشرت عمليات النهب والسرقات لعدم وجود حاكم فيها، أدرك السكان أن أزدهار مدينتهم يعتمد على وجود البابوية فيها.
في المقابل، ضاق البابا أوربان الخامس ذرعا من احتجازه في أفينيون، وأدرك أن البابوية فقدت بوصلتها الروحية وقرر العودة إلى روما في عام 1362.
لقد كان البابا الإصلاحي يكره البذخ وانغماس الكرادلة في الملذات في أفينيون، وقرر أن يقدم لهم صنفا واحدا من الطعام بدل العشرة التي كانوا قد اعتادوا عليها، كما أنه لا يريد أن يكون أسير للدولة، لكن التنفيذ لم يكن سهلا .
لم يعجب الكرادلة بالحياة الصعبة في روما، لكن البابا أوربان الخامس وخليفته غريغور الحادي عشر بقيا ثابتين على مبادئهما الروحية في البقاء بجانب قبر القديس بطرس.
كان الكرادلة يعيشون عزلة مريحه وهذا سبب رفضهم لتراجع أسلوب حياتهم، عندما توفي الأب غريغور الحادي قرر بعض الكرادلة العودة إلى فرنسا وطلب منهم أهالي روما تقديم  دليل على أن البابوية تحررت من تبعية فرنسا وأنها تعود لمبادئها الأصيلة.
بعد تولي عدد من البابوات الفرنسين المنصب أصر أهل روما أن يكون البابا إيطاليا، وفي عام ١٣٧٨ انعقد المجمع المغلق وسط صيحات أهالي روما بعودة البابا إلى مدينتهم، كان الكرادلة كانوا يرغبون في العودة إلى حياة افينيون الفارهة، لكنهم خافوا من عواقب ذلك.

 

البابا كليمنت الخامس

 

كليمنت الخامس.. منفى الكرادلة المترفين في أفينيون

يرى “إيمون دافي” أن ضريح القديس بطرس على تلة الفاتيكان كان رمزا لإرثه، إذ كان ينظر للبابا على أنه وريث لتلك القدرة الخارقة التي تؤهله لخلافة ذلك الحواري الذي يعد ضريحه حجر الأساس للبابوية.

نفذ الملك قراره ونقل مقر البابوية إلى أفينيون جنوب فرنسا، مما اعتبر إساءة كبيرة للبابوية، وكانت الكنيسة تمر بأوقات عصيبة على يد ملك متعطش للسلطة وبابا ضعيف سينتهي به المطاف في معقل مغلق خاضع لبلد واحد بعد أن كانت إقامته في فضاء مفتوح يستطيع فيه التصرف باستقلاليته وينشئ التحالفات التي يريدها.

فقدت البابوية سلطتها الدينية على أوروبا بعد مغادرتها روما، وتخلى رجال الدين عن سلطتهم الروحية من أجل الاستمتاع بالمنافع المادية، واشتهر مجمع الكرادلة في أفينيون بالمعيشة بحياة البذخ والحفلات، وأنفقت أموال الكنيسة على متعهم الشخصية.

كان مما يميز أفينيون من وجهة نظر البابا أنها في موقع وسط أوروبا وهو ملائم من الناحية الإدارية، وقد بقي كليمنت الخامس يواصل قيادة الكنيسة حتى توفي عام 1314 في نفس العام الذي توفي فيه الملك فيليب الرابع، وبقي خليفته في فرنسا، وشكل الكرادلة الفرنسيين أغلبية في المجمع، وبقيت البابوية في فرنسا نحو ستين عاما.

البابا أوربان الخامس الذي أعاد البابوية إلى روما بعد أن انتقلت إلى أفينون بفرنسا

 

أوربان الخامس.. عودة البابا الزاهد إلى روما

اعتاد الكرادلة حياة البذخ التي منحهم إياها الملك، لكن خارج أسوار القلعة البابوية كانت أوروبا خرابا. تقول “سارة دونانت” مؤلفة كتاب “في صحبة المحظية”: ضرب الطاعون الأسود أوروبا وكان مرضا فتاكا عاث في أوروبا فسادا، وقضى على معظم السكان، حتى أن بعض المناطق فقدت 90% من سكانها، ومع انتشار الطاعون اضطرت البابوية لتقييم دورها ومواجهة الظروف القاسية التي حلت على أوروبا.

عانت روما الكثير بعد خروج البابوية وتراجعت الخدمات في المدينة، إذ كانت تغطي تكاليفها الخزينة البابوية، كما غاب القانون والنظام وانتشرت عمليات النهب والسرقات لعدم وجود حاكم فيها، وقد أدرك السكان أن ازدهار مدينتهم يعتمد على وجود البابوية فيها، وفي المقابل ضاق البابا أوربان الخامس ذرعا من احتجازه في أفينيون، وأدرك أن البابوية فقدت بوصلتها الروحية، وقرر العودة إلى روما في عام 1362.

لقد كان البابا الإصلاحي يكره البذخ وانغماس الكرادلة في الملذات في أفينيون، وقرر أن يقدم لهم صنفا واحدا من الطعام بدل العشرة التي كانوا قد اعتادوا عليها، كما أنه لا يريد أن يكون أسيرا للدولة، لكن التنفيذ لم يكن سهلا، إذ لم يعجب الكرادلة بالحياة الصعبة في روما، ومع ذلك فإن البابا أوربان الخامس وخليفته غريغور الحادي عشر بقيا ثابتين على مبادئهما الروحية في البقاء بجانب قبر القديس بطرس.

كان الكرادلة يعيشون عزلة مريحة، وهذا سبب رفضهم لتراجع أسلوب حياتهم، وعندما توفي البابا غريغور الحادي عشر قرر بعض الكرادلة العودة إلى فرنسا، وطلب منهم أهالي روما تقديم دليل على أن البابوية تحررت من تبعية فرنسا، وأنها تعود لمبادئها الأصيلة.

البابا أوربان السادس الذي سجن كل من كان خالفه الرأي، وأصبح سببا لانقسام الناس بدل توحيدهم

 

أوربان السادس.. جنون العظمة الذي مزق الكنيسة

بعد تولي عدد من الباباوات الفرنسيين المنصب أصر أهل روما على أن يكون البابا إيطاليا، وفي عام 1378 انعقد المجمع المغلق وسط صيحات أهالي روما بعودة البابا إلى مدينتهم، وقد كان الكرادلة يرغبون في العودة إلى حياة أفينيون الفارهة، لكنهم خافوا من عواقب ذلك.

بعد اختيار البابا أوربان السادس بدت عليه بعض الاضطرابات أثر توليه منصبه. يقول “إيمون دافي”: سرعان ما ظهرت عليه علامات جنون العظمة وأخذ يسجن كل من يخالفه الرأي، وأصبح البابا سببا لانقسام الناس بدل توحيدهم، ووقف نصف الكرادلة في صف البابا، بينما هرب الباقون إلى أفينيون، وهناك انتخبوا بابا آخر هو كليمنت السابع، وهكذا انقسمت الكنيسة الكاثوليكية، وهذا ما أطلق عليه اسم الانشقاق الغربي، ليحمل رجلان لقب البابا في الوقت ذاته.

استمر انقسام الكنيسة على هذا الحال أربعين عاما، وبعد ذلك اضطر الكاثوليك لاختيار الخليفة الحقيقي للقديس بطرس، لأن الانقسام نزع صفة القداسة عن البابا، فهو يعتبر خليفة للحواري بطرس الذي كان رجلا واحدا، وإن وجود أكثر من شخص يعني نسف المسيحية.

في عام 1415 بدأ الكرادلة من الجانبين البحث عن حل لمشكلة الانقسام بينهم، وقد عقدوا اجتماعا بحضور بابا روما غريغور الثاني عشر ونظيره بابا فرنسا بنديكت الثاني عشر، وأجبروهما على الاستقالة، وكانا آخر باباوين يتركان منصبهما وهما على قيد الحياة، قبل استقالة البابا بنديكت السادس عشر عام 2013 التي كانت مفاجأة للكاثوليك بل العالم بأسره.

قناة سي إن إن تعرض خبر استقالة البابا بنديكيت عن منصب البابوية سنة 2013 لصالح البابا فرانسيس

 

باباوات العصر.. بين الوظيفة وحمل صليب الباباوية

على مدار ألفي عام لم يتخل عن منصب البابا سوى أربعة رجال، ثم جاء البابا بنديكت السادس عشر ليتخلى عن المنصب بسلام وبمحض إرادته، ويرى الأب “جيمس ويس” أن الكاثوليك أصيبوا بالذهول، وهذا على نقيض البابا يوحنا بولس الثاني الذي أصر على البابوية حتى الرمق الأخير.

انتهى عهده البابا يوحنا بولس الثاني الذي استمر 27 عاما بالموت بعد صراع طويل مع مرض الشلل الرعاشي، لذا شكلت استقالة بنديكت السادس عشر صدمة غير متوقعة وانتقادا مبطنا لسلفه يوحنا بولس الثاني. في المقابل يرى “إيمون دافي” أن البابا يوحنا رسخ البابوية كصليب حمله على كتفيه لم يتخل عنه، أما “بنديكت” فقد تخلى وتعامل مع البابوية أنها مجرد وظيفة يمكن التخلي عنها وتسليمها لشخص آخر.

يرى آخرون أن بنديكت السادس عشر عند تخليه عن البابوية لتقدمه بالعمر وضع تصورا واضحا حول قدسية المركز البابوي. يقول الأسقف “بول تاي” إنها رسالة لأي شخص في أي منصب يملك سلطة، أي أن الأمر لا يتعلق بي بل بكفاءتي وهل أنا أؤدي عملي؟ هل أقوم بخدمة الكنيسة والناس كما ينبغي؟

وترى “أنثيا بتلر” أن استقالة البابا بعد بلوغه الثمانين يشبه تفكير الرؤساء التنفيذيين للشركات وهذه هدية عظيمة يقدمها البابا للبابوية لأنه حماها من التحول إلى مصيدة.

كانت معانقة البابا بنديكت لخليفته البابا فرانسيس عند هبوطه من الطائرة صورة غير مسبوقة ولا تشبه قصص من سبقه من البابوات الذين تركوا مناصبهم، لقد استقال بمحض إرادته وهو اليوم يعيش بسلام في شقة بالفاتيكان بعد أن سلم التاج للبابا “فرانسيس” ولم يلتفت لكل صراعات الماضي.

يتحدث البابا فرانسيس عن الاستقالة أيضا، لكنه رجل مراوغ، فرغم كونه مسنا فإنه يرغب في تحقيق أجندته الخاصة، وقد يكون خليفة للبابا يوحنا بولس الثاني ويحمل البابوية صليبا على كاهله، وقد يلحق بركب البابا بنديكت السادس عشر ويختار السلام لروحه.