“البابا”.. ثورة تمزج بين حلة المعاصرة وتاج الأصالة

إنه أحد أقوى الرجال في العالم، ويشغل منصبا قائما منذ نحو ألفي عام، ورغم أن العالم يتغير والإيمان يتطور فإن سلطته بقيت صامدة، لقد بدأ الأمر بحواري واحد للمسيح، واليوم يتبع شخصا واحدا نحو 1.2 مليار في كل أنحاء العالم، إنه البابا رأس الكنيسة الكاثوليكية، وهذه قصة صعوده إلى السلطة.

تتعمق هذه السلسلة المكونة من ستة أجزاء في تاريخ أحد أكثر الشخصيات احتراما وتكريما في العالم، وتستكشف كل حلقة فترة زمنية مختلفة وموضوعا شكل دور البابا والكنيسة الكاثوليكية في ما هو عليه اليوم.

 

خاص-الوثائقية

تأتي الحلقة السادسة والأخيرة من سلسلة “البابا” تحت عنوان “البابوية المعاصرة”، وتتناول دور الفاتيكان والبابا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى زمننا المعاصر.

في هذه الحلقة نتعرف على ذلك الشاب المؤمن الذي واجه بطش الشيوعية، وغير وجه الكنيسة الكاثوليكية، وأعاد صياغة أقدم مؤسسة في التاريخ، إنه بابا الكنيسة الكاثوليكية 264 يوحنا بولس الثاني أشهر باباوات العصر الحديث.

 

“كارول جوزيف فويتيلا”.. ميلاد الشاب الذي غير مسار الكنيسة

في مطلع القرن الماضي كان البابوات يعيشون في برج عاجي منعزلين عن الناس، وكانت تسير حياتهم ضمن معقل للتقاليد القديمة، فقد آثروا الحياد في القضايا الحاسمة كالحروب وحقوق الناس في الحرية والحياة الكريمة، إلى أن جاء البابا يوحنا بولس الثاني -أو كما يعرف ببابا التلفزيون- الذي امتد عهده 28 عاما، وحقق ما لم يحققه بابا من قبله وأوصل الكاثوليكية إلى بيوت الكاثوليك، وغير وجه الكنيسة للأبد وتحول إلى رمز عالمي.

البابا يوحنا بولس الثاني هو ذلك الشاب البولندي المتدين “كارول جوزيف فويتيلا” الذي توفيت والدته وعمره 8 سنوات، ثم توفي شقيقه بعد وقت قصير.

يقول “ريتشارد سبينيلو” مؤلف كتاب “عبقرية يوحنا بولس الثاني”: كان والده صالحا ورعا، حرص على تربيته في بيئة دينية، لذا فقد اعتبر “فويتيلا” بيته مدرسته الأولى، كان يصلي كل يوم وعرف بشدة تدينه حتى في شبابه.

انتقل في سن 18 إلى مدينة كراكوف للدراسة في جامعة ياغيلونيا، وقد أراد أن يدرس المسرح والأدب وأن يصبح ممثلا، لكن بعد عام اجتاح النازيون بولندا وسعوا إلى تغييب الثقافة البولندية وأغلقوا الجامعات.

تعرضت حياة الشاب البولندي لهزة كبيرة، لكنه بقي صامدا وقرر أن ينشئ فرقة للتمثيل مع زملائه، فكانوا يجتمعون سرا ويعرضون مسرحيات عن القضايا الدينية ومقاومة النازية وأطلقوا عليها اسم “المسرح الملحمي”.

وفي يوم من أيام عام 1941 عاد “فويتيلا” إلى منزله ليجد والده قد توفي بأزمة قلبية، وهكذا فقد آخر من كان يسنده في حياته، وبفقدانه فقد كل شيء، الجامعة والعائلة.

عين “كارول جوزيف فويتيلا” في العام 1958 مساعد أسقف كاركوف، ورأى فيه الأساقفة إمكانيات واعدة

 

مساعد أسقف كاركوف.. الثائر الذي واجه النازية والشيوعية

كان على “كارول جوزيف فويتيلا” مقاومة النازية، وفي ذات الوقت أراد أن لا تقتصر الكاثوليكية على الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد، فبدأ في البحث عن عمل في السلك الكهنوتي، وكان عليه أن يختار بأن يصبح كاهنا أو ممثلا، وقرر الاستجابة لنداء الكهنوتية والتحق بمدرسة دينية مجازفا بحياته، إذ لو عثر عليه النازيون في ذلك الوقت لقتلوه.

في عام 1945 حرر الحلفاء بولندا من النازيين، لكن ما إن عادت الحياة إلى البلاد من جديد، حتى جاء النظام الشيوعي ليملأ الفراغ السياسي في البلاد على غرار الاتحاد السوفياتي، فقد كانت للشيوعية اليد العليا في الحكم، وقد اتخذت موقفا عدائيا من الدين، لأنه بحسب ما تعتقد “يسلب الناس دافعهم الإنتاجي”، وأرادت للناس أن يعاملوا الشيوعية كدين.

لم تحظر الشيوعية الدين، لكنها وزعت منشورات معادية له ولاحقت رجالاته، وأمام ذلك اضطرت الكنيسة للعمل بصمت تحت سيطرة الحكومة، لكن “فويتيلا” أصر على أن الإنسان أهم من الدولة، مما وضعه في تحد مع الحكومة التي لم ترحب بأفكاره.

أقام “فويتيلا” صلوات سرية في الجبال، ووعظ الشباب بأهمية التدين والحرية، ولم يكن يرغب بأن يكون كاهن أبرشية فحسب، بل كان يعمل بشكل دؤوب وأصبح محط أنظار الفاتيكان واكتسب احتراما كبيرا هناك، إذ عين في العام 1958 مساعد أسقف كاركوف، ورأى فيه الأساقفة إمكانيات واعدة.

في عام 1962 عقد في كنيسة القديس بطرس اجتماعات كبيرة وسمي هذا المجمع بمجمع الفاتيكان الثاني

 

مجمع الفاتيكان الثاني.. تحولات مفصلية في الكنيسة

شهد عقد الستينيات تغيرا كبيرا في جميع مناحي الحياة، وأصبح بإمكان الراهبات والكهنة المشاركة في المسيرات الداعمة للحقوق الإنسانية، وتخلت الراهبات عن ملابسهن التقليدية، فقد كان العالم يتغير وكان على الكنيسة أن تتغير لتواكب العالم الجديد، وفي عام 1962 عقد في كنيسة القديس بطرس سلسلة من الاجتماعات الكبيرة والهامة، شارك فيها أفراد من كل أنحاء العالم، سمي هذا المجمع بمجمع الفاتيكان الثاني.

يقول الأب “جيمس ويس” الأستاذ المساعد بكلية بوسطن: كان مجمع الفاتيكان الثاني أكبر مجمع تشهده الكنيسة الكاثوليكية خلال القرنين الماضيين، وقد دعوا فيه إلى اللامركزية في سلطة الكنيسة، واخترعوا طرقا جديدة لإدارة الكنيسة.

تمخض عن ذلك الاجتماع قداس تستخدم فيه اللغات الأصلية للمصلين، وبدأوا يتحدثون عن مكانة المرأة، ودعا المؤتمر لتعزيز لغة الحوار مع البروتستانت وغير المسيحيين والتصالح مع اليهود وإلى تعامل البعثات الخارجية مع الثقافة المحلية واحترامها، كانت تلك تحولات مفصلية وتحديثا واضحا للكنيسة الكاثوليكية.

أثار “فويتيلا” الاهتمام في اجتماع الفاتيكان الثاني، فقد تحدث بحماسة وشارك في مناقشات عن الكهنوتية واللاهوت، وأثبت أنه قادر على التحدث عن الدين بشجاعة ووضوح، وقد تميز بشخصية جذابة وقدرة كبيرة على الإقناع، وذلك ما دفع الفاتيكان إلى ترقيته إلى رتبة كاردينال في العام 1967، مما أكسبه زخما إضافيا في كفاحه ضد الشيوعية.

ارتفعت وتيرة الحماس لديه في العمل ضد الشيوعية، وأراد أن يبني كنيسة في مدينة نوفا هوتا في بلده، لكن حكومة الشيوعيين رفضت ذلك، فقام بوضع صليب كبير وسط البلدة فأزاله الشيوعيون، ثم قام بوضع صليب آخر فلم يكن يعرف اليأس مكانا في قلبه، وبعد عقد من الزمان تمكن من بناء الكنيسة بمساعدة مئات المتطوعين، وباتت رمزا للتحدي ضد الشيوعية المستبدة، وواصل “فويتيلا” في كفاحه.

في أكتوبر/تشرين الأول من العام 1978 انتخب “كارول فويتيلا” ليصبح البابا “يوحنا بولس الثاني”

 

يوحنا بولس الثاني.. رسالة من الرب على هيئة بابا

في أغسطس/ آب من عام 1978 انتخب البابا يوحنا بولس الأول، لكنه أصيب بنوبة قلبية مفاجأة وتوفي أثناء نومه بعد شهر واحد من توليه منصب البابوية، وقد اعتقد الكرادلة أن هذه رسالة من السماء للبحث عن وسائل جديدة في اختيار البابا، كالبحث عن بابا غير إيطالي، وفعلا انتخب “كارول فويتيلا” في أكتوبر/تشرين الأول من العام 1978 ليصبح البابا يوحنا بولس الثاني، واختار الاسم تكريما لسلفه، وكان ابن 58 عاما حينئذ.

يقول الكاردينال “دونالد وورل” رئيس أساقفة واشنطن: عندما ظهر البابا على شرفة الكاتدرائية كان الآلاف من الناس ينتظرونه، كان مفعما بالشباب والحيوية وخاطبهم بالقول افتحوا قلوبكم للمسيح، ساد الجمع الغفير الذهول والارتباك، وكانوا يتساءلون من هو “فويتيلا”؟

كان البابا يوحنا بولس الثاني يحمل طموحا يعانق النجوم وطاقة كبيرة اكتسبها من نضاله ضد النازية والشيوعية، وقد أصيب البولنديون بالصدمة الإيجابية عند انتخابه، فقد كان وصوله إلى منصب البابا حدثا استثنائيا، وبدأت خطابات البابا يوحنا بولس الثاني تبث ويسمعها العالم بأسره، واستغل الفرصة ليوجه رسالة إلى مواطنيه في بلده بولندا.

قال لهم لا تخافوا، كان للعبارة أثر هائل على نفوس البولنديين في ذلك الوقت، وأدرك الشيوعيون حجم المتاعب التي سيسببها لهم البابا، وفي المقابل كان هو مستعدا لمهاجمة الشيوعيين متسلحا بإمكانيات الكنيسة.

يقول “إيمون دافي” مؤلف كتاب “قديسون وآثمون”: ما زلت أذكر الزخم الذي أحاط به في السنوات الأولى، فقد ساد اعتقاد أن الرب أرسل لنا نجما شهيرا على الأرض على هيئة بابا، وقد حمل رؤيته إلى الكنيسة.

في ربيع عام 1979 زار البابا يوحنا بلده بولندا، ومأ أن وطأت قدماه الأرض حتى سجدة شكر

 

قبلة الأرض البولندية.. رحلة البابا التي بهرت الرئيس الأمريكي

أدرك الفاتيكان أهمية امتلاك وسائل إعلامية لنقل رسائله الخاصة، فأصبحت له صحيفة يومية ومحطة وإذاعة ومكاتب صحفية، وقد استفاد من التقنيات الحديثة للوصول إلى العالم، وظهر البابا كشخصية تلفزيونية. يقول الأب “جيمس ويس”: استغل البابا شخصيته الساحرة وقدرته في التمثيل لترسيخ مكانته لدى الناس.

لم ينس البابا حياته تحت الحكم الشيوعي ولم ينس بولندا، ففي ربيع عام 1979 قرر زيارة بلده، وبثت الزيارة على مرأى الملايين من الناس حول العالم، وتابع الرئيس الأمريكي السابق “رونالد ريغان” تلك الزيارة، وحظي البابا بإعجابه ونال اهتمامه.

يقول “ريتشارد ألين” مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد ريغان: كنت برفقة الرئيس آنذاك، وشاهدنا البابا وهو يغادر إلى بولندا وينزل سلم الطائرة، وينحني ويقبل الأرض، كان مشهدا عاطفيا ورأيت الدموع تترقرق من عيني “ريغان”، أدرك حينها الرئيس الأمريكي ما يشكله هذا الرجل من خطر على الشيوعية التي كان هو مناهضا لها.

شارك في القداس في بولندا ما يزيد على ثلاثة ملايين كاثوليكي، وقد طلب منهم البابا أن لا ينصاعوا للحكومة، وحثهم على الصبر المستمد من الإيمان، وأن لا يستمعوا لما يقوله النظام عنهم، وقال لهم أنتم بولنديون ومسيحيون ولديكم كرامة.

بدأ الناس ممن حضروا القداس يرددون أنشودة “نريد الرب”، حينها همس مساعد البابا في أذنه ماذا ستفعل السلطات ربما يجب أن نوقف هذا الآن، فأجابه كلا فمن أجل ذلك جئنا، ومكث البابا في بولندا تسعة أيام فاصلة.

تعرض البابا يوحنا سنة 1981 لمحاولة اغتيال نجا منها، وقرر العفو عن مرتكبها بل وقام بزيارته أيضا

 

“كانت يد مريم العذراء”.. رصاصة حول قلب البابا

دعم البابا حركة تضامن البولندية والحركات المناهضة للشيوعية في أوروبا الشرقية، وقد أضرب العمال وطالبوا بإنشاء نقابات ونالوا تأييد البابا، لكن النقابات والشيوعية قطبان متنافران لا يلتقيان.

أرسل الاتحاد السوفياتي عملاءه لمراقبة البابا وأخضعوا منزله كذلك للمراقبة، لكن هذا لم يثنه عن هدفه وقام بجولة عالمية. يقول “كارل بيرنستين” مؤلف كتاب “صاحب القداسة يوحنا بولس الثاني وتاريخنا المعاصر”: رآه الناس بشخصيته أكثر من أي إنسان بالتاريخ البابوي، نُصبت خلفه شاشات عرض عملاقة وهو شيء غير اعتيادي ذلك الوقت، وأقام لقاءاته الجماهيرية في الملاعب الكبرى، وكان يدرك نفوذه في ذلك الوقت، لقد سافر إلى 129 دولة وزار 14 دولة في أفريقيا التي زاد فيها عدد الكاثوليك إلى الضعف”.

تنقل البابا في سيارة الفاتيكان المكشوفة ليتواصل مع ملايين الناس الذين قدموا لرؤيته، وكان يلتقط الأطفال الرضع ويختلط بالناس، وهذا ما جعله مكشوفا ومعرضا للخطر، ونتيجة لذلك فقد تعرض في 13 مايو/ أيار عام 1981 لمحاولة اغتيال، إذ قام المهاجم بإطلاق الرصاص عليه، واستقرت الرصاصة على بعد مليمترات قليلة من الشريان الرئيسي، وكان البابا دائما يشكر العذراء على نجاته، وكان يقول إحدى اليدين أطلقت النار، والأخرى كانت يد مريم العذراء.

ألقي القبض على المهاجم مباشرة، وادعى أن الاتحاد السوفياتي هو من أصدر الأمر، لكن الشرطة لم تتمكن من إثبات أقواله أو نفيها ولم يثبت شيء بهذه القضية، وقد عاد البابا إلى الفاتيكان بعد 22 يوما وبعد ذلك قرر زيارة المهاجم ثم أعلن العفو عنه، وترى “آنثيا بتلر” أستاذ مساعد للدراسات الدينية أن موقف البابا يدل على الزعامة والتضحية من أجل الرعية.

اجتماع تاريخي بين البابا يوحنا بولس الثاني والرئيس الأمريكي “رونالد ريغان” لاتفاقهما ضد الشيوعية

 

لقاء البابا والرئيس الأمريكي.. اتحاد المصالح والأعداء

في أواخر عام 1981 أصدرت الحكومة البولندية الأحكام العرفية واعتقلت آلاف الناشطين، وقتلت 100 عضو من حركة تضامن. يقول “جيف فورتنبيري” رئيس جمعية مؤتمر الكاثوليك بنبراسكا الولايات المتحدة: نشأ البابا تحت حكم النازية، وبعدها استمر حكم الشيوعية في قمع البولنديين، هكذا تشكل وعيه وهذه ثقافته، أراد إعادة إحياء مبدأ العدالة.

اجتمع البابا بالرئيس الأمريكي “رونالد ريغان” رغم أنه لم يكن كاثوليكيا كما يعتقد الكثيرون، لكنه كان مناهضا للشيوعية، وكان البابا ذا نزعة أخلاقية ويرغب في تحقيق إنجاز، وهكذا تقاطعت مصالحهما وقررا تمويل حركة تضامن.

يقول “جون ثافيس” مؤلف كتاب “نبوءات الفاتيكان”: كان البابا يتعمد الظهور في المدن التي يحظى فيها بشعبية، وكلما ذكر تضامن كنا نعلم أنه يقصد تلك الحركة.

تزايد عدد أعضاء حركة تضامن ووصل إلى عشرة ملايين، وفي عام 1983 تمكنوا من إسقاط الجيش وإلغاء الأحكام العرفية، وقد تلقى البابا الثناء من العالم كله، ووصف بالشجاعة والقدرة على التغيير، وتوالت الأحداث بعد ذلك، وانتهت بسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي.

كان البابا شعبويا، وقد زار 129 حول العالم، 14 دولة منها في أفريقيا

 

قضايا العصر الشائكة.. بقع سوداء على رداء البابا الأبيض

يرى المتحدثون أن قرارات البابا لم تكن صحيحة كلها، وأنه شخصية لم تكن معصومة رغم الكثير من الإنجازات. يقول الأب جيمس ويس: أصبحت صورة البابا براقة بفضل البابا يوحنا بولس الثاني، لكن الناس سوف يتذكرون البريق ولن يلتفتوا للعيوب الحقيقية التي شابت عهده، فهو لم يحرك ساكنا أمام الإساءات الجنسية التي ارتكبها الكهنة ليس في أمريكا فحسب بل في كل مكان، لقد منع المناقشات في عدد من القضايا الكبرى، وأراد أن يؤمن الجميع بما يؤمن به، والمفارقة أنه حاول تعزيز سلطة البابوية، لكن عندما توفي وحضر الملايين جنازته كان احترام البابوية ونفوذها في أدنى مستوى في عالمنا المعاصر.

لقد قارع البابا الاستبداد بكل بسالة، لكنه لم يتمكن من التعامل مع المجتمع الغربي الحديث، وتمسك بسياسته الاجتماعية التقليدية، بينما تغيرت نظرة العالم إلى الحقوق المدنية والجنسية، ولم يتطرق إلى القضايا الجدلية كتحديد النسل وحقوق الإنجاب، وعرف بآرائه المستبدة في مثل هذه القضايا.

كان نجما كبيرا، لكن الجميع أدركوا أنهم لا يستطيعون الوثوق بالبابوية، وقد أجبر موقفه المتجاهل الباباوات اللاحقين على التعامل مع تلك القضايا بروح أخرى.

يقول “جون ثافيس” مؤلف كتاب “نبوءات الفاتيكان”: “نريد من البابا أن يكون صوتا للأخلاق”، وهذا جزء من إرث يوحنا بولس الثاني، ويعود له الفضل في وصول البابوية إلى العالمية، لكنه كان مسؤولا عن بعض العقبات التي تواجه البابوية اليوم، كما يرى “ديرميد مكالوخ” مؤلف كتاب “تاريخ المسيحية” أن البابا كان يتعامل مع الآراء المخالفة له داخل الكاثوليكية على أنها خيانة.

البابا “بنديكت السادس عشر” الذي  قدم استقالته عام 2013 من منصب البابوية لصالح البابا الأرجنتيني اليسوعي “فرانسيس”

 

بنديكت السادس عشر.. استقالة أذكى الباباوات

عرف بنديكت السادس عشر بذكائه الشديد، وكما يقول ضيوف الفيلم فقد كان يتفوق به على الكثير من الباباوات، كان مدرسا وشديد التمسك بالأمور العقائدية، وهو عالم وباحث دافع في كتاباته عن القيم المسيحية الأساسية، ويميل إلى اللاهوت.

ترى “آنثيا بتلر” أستاذة الدراسات الدينية في جامعة بنسلفانيا أن منصب البابوية كان مرهقا له، فقد كان لا يحب الظهور أمام الكاميرات، ولم تكن له شخصية جذابة مثل سلفه، وفي ظل عجزه عن الوفاء بمتطلبات البابوية الحديثة، فقد قدم استقالته عام 2013.

أدرك الكرادلة أن البابوية بحاجة إلى صوت تقدمي فانتخب أول بابا يسوعي، وهو أول بابا من قارتي أمريكا. يقول الأب “جيمس ويس” إن البابا فرانسيس هو رجل أرجنتيني وأسقف وكردينال بسيط ومتواضع، وقد زار مناطق خطرة في العالم وعاش مع الناس في بيوتهم وأكل طعامهم، وهذا مهم في إطار تحرك رجال الدين في أمريكا الجنوبية في مساندة الفقراء، وهذا ما لم يفعله أي بابا آخر.

بابا الفاتيكان الحالي “فرانسيس الأول”

 

البابا فرانسيس الأول.. ثورة في أروقة الكنيسة

شهد عهد فرانسيس الأول تغييرات غير مسبوقة وتصريحات ثورية في قضايا الطلاق وتحديد النسل، بل إنه طلب المغفرة للنساء اللواتي أقدمن على الإجهاض، ورفض كل مظاهر الترف في الكنيسة، حتى أنه أصر على ركوب حافلة الكرادلة ورفض ركوب سيارة خاصة، واحتفظ بردائه الأسود القديم، إنها أشياء صغيرة لكنها تحمل معاني كثيرة في المخيلة الشعبية الكاثوليكية.

قدم البابا فرانسيس الأول قربانا للذين تزوجوا بعد طلاقهم وحاول حماية الشواذ، لذا حظي بشعبية طاغية. يقول “إيمون دافي”: يسعى البابا لإنضاج مسيرة الكنيسة وإكسابها القدرة على التعايش مع الصعوبات والاختلافات وجعلها أكثر انفتاحا وإيجابية مستخدما كل نفوذه البابوي بذلك.

يستمر البابا فرانسيس في معاركه وتحديه لأساسيات الكنيسة، وذلك لمواكبة تغيرات العالم، لكن كيف سيقود منصبا تقليديا إلى المستقبل المعاصر، فالكنيسة مؤسسة معقدة بحاجة للتطور، شاء الباباوات أم رفضوا.

أعلن البابا فرانسيس منذ اليوم الأول حاجة الكنيسة لمواكبة العصر، وقد أعلن أن مهمة الكنيسة لا تقتصر على إصدار المراسيم والأحكام والوثائق وإنما الاقتراب من عامة الناس. يقول الأسقف “بول تاي” سكرتير المجلس البابوي للثقافة: أطلق البابا موقعا على تويتر تحت حساب “بونت فكس” وهو لقب لاتيني لأباطرة الرومان يعني صانع الجسور، ويعكس صورة ذهنية جيدة، لأن البابا يحاول التواصل مع الناس.

ويتابع الأسقف “بول تاي”: نحاول وضع أرضية معينة في حال سأل أحدهم سؤالا، أو كما يجري في العادة عندما يضع البابا تغريدة، فيرد أحدهم بالقول طفلي مريض فهل صلى أحدكم من أجله، نحاول أن ندفع المجامع الكنسية للتجاوب مع الناس وأن لا تمضي رسائلنا باتجاه واحد.

عبر التاريخ، نال 266 رجلا لقب البابا

 

باباوات العصر.. ثلاثي العقل والقلب والروح

يرى الأب “جيمس ويس” أن البابا يوحنا بولس الثاني كان يجيب عن الأسئلة قبل طرحها بينما يفضل البابا فرانسيس الاستماع.

يقول “جيف فورتنبيري” رئيس جمعية المؤتمر الكاثوليكي في نبراسكا بالولايات المتحدة: فتح البابا يوحنا بولس الثاني أبواب الكنيسة، وقال سنتفاعل معكم على أعلى مستوى، وجاء الأكاديمي “بنديكت السادس عشر” وأعاد التقاليد الفلسفية للكنيسة، وجاء فرانسيس ليقول الأب هو الرحمة، وهؤلاء الرجال الثلاثة يمثلون العقل والقلب والروح، وهو المزيج الذي يشكل الصورة الكلية لمفهوم البابوية لا سيما في زمننا المعاصر.

كلمة البابا يونانية وتعني الوالد، غير أن هذا المفهوم تراجع في الماضي حين تعامل الباباوات كالملوك وتسلطوا على الرعية، لكن المفهوم الأصيل عاد وتجسد في العصر الحديث، فها هو البابا فرانسيس يمازح الناس ويلقي النكت ويلتقط صور معهم. تقول “آنثيا بتبلر”: يدرك البابا فرانسيس مفهوم البابوية، ويضفي إليها صبغته الخاصة.

ابتعد الكثير من الشباب الكاثوليك عن الدين، وأراد البابا فرانسيس إعادتهم وضخ دماء جديد للكاثوليكية. يقول إيمون دافي: قدم البابا فرانسيس تشجيعا كبيرا لعدد من الكاثوليك الذين شعروا بالعار والقلق تجاه الكنيسة وساعدهم في العودة.

ويرى الأسقف “بول تاي” أن “الجديد الذي قدمته البابوية الحديثة هو مهارة التسويق التي يمكن أن تنجح العالم كله دون الحاجة لمعرفة الخطوة اللاحقة، أنا مهتم بأنماط الاتصال في التغير، وأعتقد أننا مازلنا في البداية”.

على مر العصور، احتفظت البابوية بهالة من الرهبة، وقد بنى بعض الباباوات أسوارا والبعض الآخر هدمها، وبرغم الحروب والمجاعات وخلال عصور التنوير والابتكار نال 266 رجلا لقب البابا، وتمكنوا من جعله الرجل الأقوى في التاريخ.