طرابلس الغرب.. حاضنة حضارة البحر الأبيض

خاص-الوثائقية

طرابلس الغرب أو طرابلس الليبية هي واحدة من أهم حواضر البحر الأبيض المتوسط، وتكاد بكلّيتها أن تكون متحفا تاريخيا مفتوحا يحكي قصة البحر المتوسط، قلب الدنيا ومهد حضارة الإنسان منذ فجر التاريخ أو قبله، إنها مدينة تحكي قصة الإنسان والعمارة والحضارة والثقافة، تحكي عن الحرب والسلام، والصراع والتعايش، والملوك والعبيد، والأديان والمعتقدات. أما طرابلس الشرق فهي طرابلس لبنان.

سوف يصحبنا في هذه الرحلة الشائقة عبر التاريخ والجغرافيا السيد مختار دريرة، وهو مؤرخ متخصص في مدينة طرابلس، وهو كذلك مدير المكتبة الطرابلسية، ليحدثنا عن أسرار هذه المدينة العتيقة، ثم نستودع هذه الأسرار فيلما تعرضه قناة الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلتها “قلب مدينة”.

 

بصمات الفينيقيين.. 3 آلاف سنة من التاريخ

بنيت مدينة طرابلس في الألف الأولى قبل الميلاد، وكان أول من استقر بها الفينيقيون، ثم شهدت من بعدهم 25 عهدا من أنظمة الحكم الرومانية والبيزنطية ثم العربية بكل أطيافها، مرورا بالعهد العثماني الأول ثم الثاني، وبعده الفترة القرمانلية ثم الاحتلال الإيطالي والإدارة البريطانية، ثم المملكة الليبية والجمهورية والجماهيرية.

وبقيت طرابلس على مر العصور حاضنة حضارة البحر الأبيض وشقيقة بقية مدن حوض المتوسط، وملتقى قوافل التجارة بين البحر وعمق الصحراء الإفريقية، وسكنتها شعوب مختلفة من المالطيين واليونانيين والكروغليَّة والأتراك والعرب والأمازيغ وبقية شعوب البحر الأبيض المتوسط دونما استثناء.

ومثل باقي المدن العتيقة يحيط بالمدينة سور ضخم له عدة بوابات، مثل باب زناتة وباب هوارة وباب الجديد وباب الخندق وباب المنشية، وكانت هذه الأبواب تفتح فجرا وتغلق وقت الغروب، وبالطبع يكون باب البحر أو “باب بْحرّ” باللهجة الليبية، هو أهم أبواب المدن الساحلية، حيث تفتح المدينة ذراعيها للقادمين من البحر، وهم كثير.

السرايا الحمراء هي منازل عربية ذات أفنية مفتوحة للفضاء ونوافذ ذات قواطع جصِّيَّة

 

متحف “السرايا الحمراء” المفتوح.. من هنا مر الغزاة

نزور اليوم واحدا من أهم المواقع الأثرية التاريخية في المدينة ويسمى “السرايا الحمراء”، وقد شهد هذا البناء محطات هامة في التاريخ الليبي منذ الفترة الفينيقية مرورا بكل العهود التي حكمت المدينة، فقد ترك كلُّ عهد بصمتَه في هذا الموقع التاريخي الهام.

وتشير الكشوف التي أجرتها معاهد إيطالية إلى أن هذا الموقع قد يكون في أساسه مبنيا على معبد مهيب، إضافة إلى ما كشف عنه من حمامات وأعمدة ضخمة وأرضيات فسيفسائية.

ويستطيع الزائر أن يلخص تاريخ المدينة كلها من خلال زيارته للسرايا الحمراء، فقد كشفت الحفريات في هذا المكان كذلك وجود المنازل العربية ذات الأفنية المفتوحة للفضاء، والنوافذ ذات القواطع الجصِّيَّة التي تسمح بدخول ضوء الشمس في أغلب فترات النهار، مما يغني عن اتخاذ مصادر أخرى للإضاءة.

وفي جولتنا سوف نعبر من خلال بوابة المنشية، وهي بوابة هامة بنيت في أواخر العهد العثماني الثاني، وبأمر من المشير رجب باشا، والبوابات في المدن بالإضافة إلى أهميتها المدنية والاجتماعية في حفظ أمن المدينة وإضفاء رونق معماري عليها، فهي كذلك تسجل بصمة وتاريخا لذلك العهد الذي أنشأها.

برج الساعة هو معلم تاريخي بتراث معماري يعبر عن الشخصية المعمارية لطرابلس

 

برج الساعة.. متحف الأعمدة الرومانية القديمة

هناك معلم تاريخي آخر يميز طرابلس وهو برج الساعة، وهو تراث معماري بني في العهد العثماني الثاني ويعبر عن الشخصية المعمارية لطرابلس، وقد جلبت الساعة وكثير من حجارة البرج من جزيرة مالطا وسويسرا، وهي تشير إلى أهمية الوقت لدى المسلمين وخصوصا في تحديد مواقيت الصلوات، وقد قصف البرج عدة مرات خلال الحرب العالمية الثانية.

وهذا معلم آخر مهم يعتبر من أهم المعالم الإسلامية في طرابلس وشمال أفريقيا وهو جامع الناقة، ويعتبر متحفا للأعمدة الرومانية القديمة، حيث يخلو تماما من النقوش والزخارف تبعا للمذهب المالكي، وتقرأ فيه السيرة النبوية ويختم القرآن فيه في المناسبات الإسلامية، كما تقام فيه الصلوات والجُمع وتراويح رمضان.

ومثل كل الحواضر الإسلامية، توجد في طرابلس العتيقة مئات المساجد، سواء تلك الجوامع التي تقام فيها الجمعة، أو المساجد الوقفية التي تقام فيها الصلوات اليومية، وبعض هذه المساجد قديم يعود إلى الحقب الإسلامية المتعاقبة.

كنيسة السيدة مريم هي كنيسة كاثوليكية مبنية على النمط المعماري القوطي

 

كنائس النصارى ومعابد اليهود.. مدينة السلام والتعايش

توجد في طرابلس الكنيسة التاريخية (كنيسة السيدة مريم)، وهي كنيسة كاثوليكية مبنية على النمط المعماري القوطي، وقد بنيت على بستان للأسرة القرَمانلية، وهَبهُ يوسف باشا القرمانلي للملك الفرنسي لويس التاسع عشر، ويعود بناؤها إلى حوالي 300 عام خلت، ومن ملحقاتها مدرسة للرهبان ومسرح ومنزل أسقف المدينة.

طرابلس مدينة المحبة والتعايش والسلام، سكنها الناس من مختلف الطوائف والأديان، ولم يسجل في تاريخ المدينة أي مناوشات أو خلافات على أسس عرقية أو دينية، وكانت تمثل عبر محطات عديدة من التاريخ مأوى مسالما لكل أولئك الفارين من ويلات الحروب وضحايا الطائفية الضيقة وسطوة بعض رجال الدين المتوحشين في أوروبا.

كما توجد الجالية اليهودية أيضا في طرابلس منذ القدم، فقد جاؤوا إلى طرابلس عقب سقوط غرناطة هربا من محاكم التفتيش في 1492، ومعظمهم من الحرفيين وصانعي الأزياء والحليّ، وكثير منهم من المرابين أصحاب الأموال، وهناك بعض اليهود جاؤوا أيضا من إيطاليا إضافة إلى بعض القبائل اليهودية الليبية، ولهم عدة معابد أشهرها المعبد الكبير الذي تزينه لوحات كبيرة كتبت عليها “الوصايا العشر”.

كان المسيحيون من الإيطاليين واليونانيين والفرنسيين والإسبان يسكنون الشمال الشرقي من المدينة، وهو ما يطلق عليه الحي الأوروبي، وفي الشمال الغربي سكن اليهود فيما يسمى بالحي اليهودي، وفي الجنوب الغربي سكن العرب المسلمون، وكان يبدو على المدينة بأكملها طابع التعايش والتعاون بين جميع الطوائف.

الكتاتيب هي مدارس إسلامية يدرس فيها الطلاب القرآن الكريم وهي من معالم طرابلس ومساجدها

 

كتاب سيدي عطية.. حملة لواء القرآن الكريم

نزور الآن بيت إسكندر للفنون الذي يعود إلى القرن السادس عشر، وقد حوّله مالكه مصطفى إسكندر إلى نواة متحف تاريخي ومعرض للفن التشكيلي لمجموعة من الفنانين الليبيين المعاصرين، ويمثل البيت نموذجا للعمارة في جنوبي حوض المتوسط.

ما زالت طرابلس تشتهر بالكتاتيب، وهي مدارس إسلامية يدرس فيها الطلاب القرآن الكريم ويحفظونه منذ نعومة أظفارهم، إضافة إلى اللغة العربية قراءة وكتابة، وبعض مهارات الحساب والعلوم، فهذا كتّاب سيدي عطية في باب الحرية كمثال على تلك المدارس التي أنشئت للمحافظة على الحرف العربي والقرآن الكريم، ويعتمدون فيه طريقة قالون عن نافع.

ونعرِّج في جولتنا على مدرسة عثمان باشا، وهي تقع في منطقة باب البحر، ويعود بناؤها إلى القرن السابع عشر، كان يتردد عليها الليبيون من كافة أنحاء القُطر ليتلقوا فيها العلوم الإسلامية من فقه ومواريث وأحكام، إضافة إلى بعض العلوم التطبيقية، وقد حافظت المدرسة إلى الآن على التراث العربي الإسلامي.

اهتم العثمانيون في أواخر عهدهم بتطوير المدينة، فبنوا مستشفى الغُربة، وبعض المدارس، وأنشأوا مدرسة لتخريج الضباط العسكريين، حيث ساهم بعضهم في الحروب التركية في منطقة البلقان، ولعب كثير من خريجيها دورا هاما في التصدي للغزو الإيطالي في بدايات القرن العشرين.

ومثل سكان مدن البحر عموما، فقد عمل كثير من البحارة الليبيين في استخراج الإسفنج من البحر الطرابلسي، وكانوا يعملون لصالح المستثمرين اليونانيين في هذه التجارة، بالإضافة إلى صيد السمك الذي يعتبر مصدر رزق للكثير من الطرابلسيين.

سوق الحرّارة أو الحرير، حيث عُرفت طرابلس الغرب بأنها بلد الألفَيّ نسّاج لكثرة الحرير فيها

 

سوق الحرّارة.. مدينة الألفَي نسّاج

يزين وسط المدينة التاريخية قوس “ماركوس أوريوليوس” الذي شيد عام 163 ميلادي بواسطة تاجر روماني، وأهل المنطقة يطلقون عليه القوس الأحمر، وقد تعرض لكثير من الدمار نتيجة العوامل الطبيعية والحروب، ويأمل سكان طرابلس في إعادة ترميمه وبناء الطبقات الثانية والثالثة التي كان يتشكل منها البرج قديما.

في الجنوب الشرقي من المدينة كان هنالك مقر الحاكم والأسواق، ومنها سوق التروك وسوق الحرّارة (الحرير)، إضافة إلى أسواق أخرى عديدة، وتكثر فيها الفنادق العتيقة ومنها فندق “زمّيت” الذي يعود إلى الفترة القرمانلية 1711، ويوجد توأم لهذا الفندق في مدينة فينيسيا الإيطالية، وكان الفندق يستقبل القوافل القادمة من البحر أو تلك الآتية من الصحراء.

تشتهر طرابلس بصناعة النسيج، ووصفها أحد الرحالة بأنها بلد الألفَي نسّاج، وفيها سوق لبيع الحرير الخام الذي يتحول فيما بعد إلى منسوجات وملابس تقليدية للرجال والنساء على أيدي هؤلاء النساجين المهرة، وتشتهر كذلك بكافة الحرف التقليدية التي تشتهر في مدن البحر المتوسط من النحاسيات وتشكيلها والنقش عليها، إلى صناعات الفضة التي اشتهر بها اليهود القادمون من الأندلس.

زقاق طرابلس نمط بنائي جميل يميز المدينة ويضفي عليها جمالا غريبا

 

زنقة الريح.. حين تتنفس المدينة نسيم البحر

ندخل الآن واحدة من أشهر الزقاق التاريخية في طرابلس واسمها زنقة الريح، وتشتهر فيها مدرسة الكاتب ومسجدها، وكان يقصدها طلاب العلم من كافة نواحي ليبيا، وهي زنقة مطلة على البحر، لذا فهي تتميز بطقسها المعتدل اللطيف، وقد سكنها كثير من الوجوه الطرابلسية المشهورة أمثال الموسيقار الليبي علي ماهر والروائي خليفة التكباني وزارها الأديب والشاعر والمفكر خليفة التنيسي.

وهناك أيضا زنقة الفرنسيس، وسميت بذلك لوجود القنصلية الفرنسية فيها، وقد كُتب بين جنباتها أهم كتاب عن ليبيا وهو “الحوليات الليبية” من تأليف “شارل فيرول” وترجمه إلى العربية الدكتور محمد عبد الكريم الوافي، ويسكن في هذه الزنقة اليونانيون والإيطاليون والفرنسيون، وتغلب على سكانها المسيحية الكاثوليكية.

هذه إذن هي طرابلس الغرب، حيث عبق التاريخ وجماليّات الجغرافيا، وفسيفساء السكان المتجانسة المتعايشة، وسحر الطبيعة الخلّابة، إنها حلقة وصل بين رمال الصحراء الذهبية، ومياه البحر الزرقاء الصافية.