“البوسطجية اشتكوا”.. أغنية تخلد يوميات أجيال الرسائل المكتوبة

في هذا الفيلم من سلسلة “حكاية أغنية” تروي الجزيرة الوثائقية قصة واحدة من الأغاني التي لاقت رواجا وشهرة هائلة في أربعينيات القرن الماضي، وبقيت علامة فارقة للفنانة رجاء عبده وأيقونة ترددها الأجيال حتى الآن.

“البوسطجية اشتكوا”.. كيف لمشهد حياتيّ عادي عابر أن يصنع مجدا لشخص ما، كيف لموقف طريف في مكان عام أن يكون منعطفا استثنائيا يغيّر حياته؟

في العام 1945 قرر ملحن الأجيال محمد عبد الوهاب إنتاج فيلمه الأول “الحب الأول” عن طريق شركة الإنتاج خاصته، واختار لبطولته الغنائية المطرب جلال حرب والفنانة رجاء عبده التي كان عبد الوهاب مغرما بصوتها وحنجرتها.

تذمر البوسطجي.. حوار شعبي بسيط بكلمات خالدة

كان محمد عبد الوهاب يشبهها وصوتها بتربة مصر الخصبة، وعلى هذا الأساس طلب من صديقة الكاتب أبو السعود الأبياري كتابة كلمات أغنية مميزة يخصّ بها رجاء عبده المفتون بصوتها لأحد مشاهد الفيلم. هذا الطلب أوقع الأبياري تحت ضغط اختبار صعب، فليس من السهل إرضاء ذائقة عبد الوهاب العالية.

غير أن الكاتب الأريب لا تعجزه اللغة ولا يحدّه اختلاف الأمزجة، فبينما هو جالس وصديقه المخرج حسن الإمام في مقهى قبالة ملهى الفنانة بديعة مصابني اللبنانية الأصل التي كانت تعتبر إحدى أيقونات الفن المصري المهمة، وملكة المسارح كما يلقبها الجمهور العريض الذي يقبل على حفلاتها بشكل منقطع النظير؛ إذا بالبوسطجي (ساعي البريد) الذي يحمل رسائل المعجبين الكثيرة إليها يشتكي ويتذمر إلى بوّاب الملهى بصوت عال مسموع من كثرة الرسائل إليها؛ وأي طريقة غير الرسائل في ذلك الوقت تعبّر عن إعجاب الجمهور وتنقل إليها مشاعر المحبة والافتتان.

هذا المشهد العابر والموقف الطريف لا يمرّ مرور الكرام على كاتب مثل الأبياري، إذ يمتلك ذكاء فطريا وعين قنّاص، فتحيله مصدر إلهام، وتبلوره إلى فكرة أغنية يكون مطلعها:

البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي
وعيوني لما بكوا دابت مناديلي
روح يا قمر والنبي ع الحلو مسّي لي
أبعت مراسيل، واكتب جوابات، واستنا، وأقول
لو غاب اتنين، راح ييجي تلات، والصبر يطول
والعمر اهه بيفوت، يوم ورا يوم، ما بشوفش خيالك، ولا في النوم

“مطربة البوسطجية”.. شهرة فنية كادت تموت في مهدها

لا يتوانى محمد عبد الوهاب (المستشرف للمستقبل) في شراء الأغنية من الأبياري ويمنحه 10 جنيهات من فوره، إنه يشتري فكرة ألمعية جديدة بكلمات شعبية مباشرة قريبة من الناس ومتداولة في حياة المصريين، وتختصر الحالة الفنية التي تسكن في ذهنه.

ورغم هذا كله، فقد رفضت رجاء عبده في البداية أن تغنيها، متعللة بأنها كلمات شعبية لا تناسب وضعها كفنانة شهيرة وعالية، فألحّ عبد الوهاب عليها لقبولها، وأصرّت رجاء على رفضها، لكن عبد الوهاب لا يتنازل عن رؤيته البعيدة في الأغنية ويعطيها لإحدى بنات الفرقة لتغنيها.

لحن الموسيقار عبد الوهاب أغنية البوسطجية اشتكوا التي كتب كلماتها أبو السعود الأبياري وغنتها رجاء عبده

وهنا تختلف رؤية رجاء تجاه الأغنية وتقبلها لتدخل بها عالم الشهرة من أوسع أبوابه ولتصبح فيما بعد الأغنية الأولى في حياة رجاء الفنية ومن أشهر أغانيها والأكثر طلباً في الإذاعة، حتى أطلق عليها الجمهور لقب “مطربة البوسطجية”.

لو ليا جناح أنا كنت أطير، وافرح بلقاك
دي الفرقة عذاب، وقساها كتير، يا ظالمني معاك
تسقيني المر كاسات في كاسات
ولا تبعت مره، تقول: سلامات
روح يا قمر والنبي ع الحلو مسي لي

استغلال العدو الصهيوني للكلمات.. منع رئاسي

بعد ثورة 23 يوليو/تموز 1952 حاول إعلام العدو الصهيوني استغلال هذه الأغنية ببثها عبر إذاعته للنّيل معنويا من الرئيس جمال عبد الناصر، وكأنها تسخر منه لأن أباه كان بوسطجيا أو موظفا في البريد، مما دعا الدولة لمنعها، لكن لم يكن قرار المنع سياديا بقدر ما كان اجتهادا، لأن الرئيس نفسه لم يكن منتبها للأمر.

أثناء الحرب، بثت إذاعة إسرائيل أغنية البوسطجية اشتكوا” نكاية في عبد الناصر لأن أباه كان ساعي بريد

ما لبثت الأغنية أن عادت إلى الواجهة وزاد انتشارها، وليس أدلّ على ذلك من أن قليلا من الناس من يذكر الفيلم الذي حوى الأغنية، بينما هي ما زالت حتى الآن تترددّ على ألسنة الناس في الدول العربية كأغنية تمسّ الروح الإنسانية بشكل عام، وتعبّر فيما تحمل من كلمات بسيطة قريبة عن الشوق والحنين ودموع الفراق ومساءات الأحبة والسهر تحت ضوء القمر.

ورغم انحسار العمل بالبريد المكتوب (البوسطة)، فإن جيل تلك الحقبة لا يزال يستأنس بسماع تلك الأغنية لما فيها من محاكاة لتاريخ وواقع عايشوه.

روح يا قمر والنبي ع الحلو مسّي لي.