“عائد إلى حيفا”.. مغامرة سينمائية برائحة أدب الكفاح الفلسطيني

تفرض إعادةُ قراءة الأعمال السينمائية المستندة على قصص مقتبسة من أدب الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني معاينةً نقدية تأخذ بعين الاعتبار خصوصية معالجته الأدبية وعمق رؤيته للقضية الفلسطينية، فذلك ما جعله كاتبا متميزا يتجاوز اللحظة الانفعالية والعاطفية للحدث التاريخي، نحو بحث في جذوره ومسبباته.

تتجسد هذه الرؤية بوضوح في سؤالي الهوية والمصير وارتباطهما بجذور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي وضعه في مركز اشتغاله القصصي، وعبر عنه بأفكار ليس من السهل نقلها إلى الشاشة، من دون قراءة معمقة لها، ولهذا يمكن توصيف محاولة قاسم حول لنقل رواية “عائد إلى حيفا” إلى الشاشة بالمغامرة السينمائية.

هزيمة حزيران.. إحساس عميق بالهوان والمذلة

يغامر العراقي قاسم حول، حين يشرع من بيروت في تحويل قصة “عائد إلى حيفا” (1982) إلى عمل سينمائي، بإمكانات إنتاجية أقل ما يمكن وصفها به أنها “شحيحة”. يكتب السيناريو بنفسه، ويستعين بالكاتب رشاد أبو شاور لكتابة الحوار باللهجة الفلسطينية، بينما يتطوع زياد رحباني لوضع الموسيقى التصويرية للفيلم.

ولأن المسار الزمني لأحداثه محدد بالفترة ما بين 1948-1967، ثم فترة ما بعد حرب 1967؛ يقترح النص السينمائي فصلا لها بالألوان، فيترك الألوان الطبيعية تأخذ مساحتها في المشاهد “الآنية” (ما بعد حرب 1967)، بينما يترك للأسود والأبيض وظيفة التعبير عن المرحلة التاريخية التي سبقتها، وهي توفر عمقا توثيقيا للسرد، متوزعا بين مشاهد قليلة (تسجيلات قديمة) تتداخل مع أخرى معاد تمثيلها.

وبهذا التدخل المونتاجي (التوليف البارع للعراقي قيس الزبيدي) تتشابك الوقائع التاريخية تمثيلا وتوثيقا، وتتداخل لتحقيق مسار درامي يبدأ من عام 1948، ومن اللحظة التي شرعت فيها العصابات الصهيونية بمهاجمة السكان الفلسطينيين العزل بالسلاح والنار، وأجبرت الكثير منهم على الرحيل من وطنهم والخروج من بيوتهم، ليستقروا هم بدلا منهم فيها.

تلك المَشاهد سرعان ما تتداخل مع مَشهد يعقب هزيمة حزيران، وتظهر فيه عائلة سعيد (الممثل بول مطر) في مكان بعيد عن مدينتهم حيفا، وهم يتفاعلون مع الأخبار التي تفيد بسماح السلطات المحتلة بعودة النازحين إلى بيوتهم.

لا يفارق سعيد الإحساس العميق بالهوان والمذلة لمآلات هزيمة حزيران، وتزيد خسارةُ العرب للحرب في داخله الإحساسَ بعدم جدوى خوضها، أو المشاركة في حروب قادمة غيرها. هذا يفسر موقفه الرافض لانضمام ابنه خالد إلى صفوف المقاومة الفلسطينية المسلحة، لكنه بسبب دعوة زوجته صفية (الممثلة حنان الحاج علي) يأخذ بالتفكير بالعودة إلى حيفا، ورؤية بيتهم ومدينتهم، وسط تلميح من الزوجة أن الدافع ربما يتجاوز رؤية المكان إلى شيء آخر، أكثر صلة به.

“هذه أرضكم الموعودة”.. مشروع كوني يستقطب يهود العالم

تستقبل العائلةَ في بيتهم القديم مهاجرةٌ يهودية بولندية تدعى “ميريام” (الممثلة الألمانية كريستينا شورن)، كانت تتوقع مجيئهما والسؤال عن بيتهم الذي استوطنته مع عائلتها، وصاروا هم اليوم أغرابا فيه.

مشاهد المنزل من الداخل والحوارات الطويلة التي تجري فيه تأخذ مساحة كبيرة من مسار الفيلم وزمنه، وفيه يتكشف كثير من الوقائع التاريخية المرتبطة بالإنسان الفلسطيني المنتزع من أرضه والآخر الغريب الذي حل محله، وأخذ منه كل شيء حتى أبناءه.

يمنح الفيلم فرصة للمتفرج عليه، لمراجعة تاريخ الهجرة اليهودية لفلسطين عام 1948، من خلال مَشاهد يُعاد تمثيلها (بالأسود والأبيض)، تُصور المراحل الأولى من وصول اليهود إلى فلسطين من خارجها، ضمن مشروع سياسي خطير، كوني الطابع.

حيفا محاصرة بعد 1967

حتى أن بعض المهاجرين الأوائل منهم يجدون أنهم قد تورطوا فيه، ولم يدركوا حجم وخطورة المخطط الذي زجوا فيه إلا عندما وصلوا إلى أرض غريبة، قيل لهم هذه أرضكم الموعودة، فاستوطنوها وهيمنوا على كل فيها. ذلك ما تكشفه حوارات سعيد مع المهاجرة البولندية، وتتكشف من خلاله حقيقة وجود ابنهم خلدون حيا، بعد أن تنبته عائلتها.

“الإنسان قضية”.. تحول من الجذور إلى ظروف النشأة

يُعيد فيلم “عائد على حيفا” القصة الصادمة للطفل الرضيع الذي وجدته العائلة في بيت أهله وحيدا، وتبنته فيما بعد من منظور نقدي وفلسفي، فذلك الطفل قد كبر وصار جنديا في الجيش الإسرائيلي، قصته توصل الفكرة المركزية لمنجز غسان كنفاني، وهو يوجزها بعبارة فلسفية هي “الإنسان قضية”.

وجوهرها أن صلة الكائن بالمكان متغيرة وفق الظروف التاريخية التي يمر بها، وهي التي جعلت الطفل خلدون يصبح “دوف”، ويصبح إسرائيليا يهوديا بدلا من كونه فلسطينيا عربيا، فلا يعرف إلا العائلة البولندية التي نشأ فيها، بينما يتنكر لوالديه الأصليين.

عبر هذا التحول القهري يُطرح سؤال “الهوية” الذي يُعنى الفيلم بتناوله من جانب فني وبصري، يتوفر على إمكانية تكثيف التعبير عنه بفضل الزمن السينمائي القادر على اختصار الوقائع التاريخية، وإعادة عرضها، وتوسيع مساحاتها تمثيلا في سياق درامي ديناميكي.

أكذوبة إسرائيل الكبرى.. هل ترك الفلسطيني أرضه؟

يسترجع “عائد إلى حيفا” بصريا قصة الطفل من منظور فلسطيني مُعبرا عنه بقصة والدته وما جرى لها لحظةَ هجوم العصابات الصهيونية على المنطقة السكنية التي يقع بيتها فيه، فهي لم تترك طفلها الرضيع إلا بسبب خوفها على زوجها وخروجها للبحث عنه، بعد سماعها دوي قنابل الطائرات والأسلحة النارية.

في تلك الأثناء وخلال عودتها سيطرت العصابات المسلحة على المنطقة، ومنعت سكانها من الدخول إليها، ومن بعد ذلك سيطروا على بيوتها ووزعوها على اليهود الجدد القادمين إلى فلسطين.

سعيد وصفية خروج إجباري من الوطن وعودة للمستقبل

يجسد الفيلم ما تعرضت له الأم الفلسطينية من أخطار في الطريق الذي أضحى ساحة للموت، ومع ذلك فإنها لم تكف عن محاولات الوصول إلى بيتها وطفلها، لكن المسلحين القادمين من خلف الحدود منعوها، وبذلك حرموها من طفلها إلى الأبد.

لم تحكِ الأم البولندية تفاصيل القصة الحقيقية لـ”دوف”، بل كذبت في أصلها، وادعت أمامه أن أبويه الفلسطينيين قد هربا وتركاه وحيدا من دون التفكير بمصيره، ولا حتى الخوف على حياته. يُكذب النص القصصي والسينمائي السردية الإسرائيلية التي تحيل هجرة الفلسطينيين إلى خوفهم وعدم تشبثهم بأرضهم.

صورة على جدار المنزل.. حفظ للذاكرة ورهان على المستقبل

في كل حكاية من الحكايات الفرعية للنص السينمائي ثمة حضور لمقاومين فلسطينيين رفعوا السلاح في وجه المحتل ودافعوا به عن أرضهم ببسالة. في واحدة منها يظهر فارس اللبدة (الممثل العراقي منذر حلمي) الفلسطيني العائد للتو إلى مدينة يافا التي استشهد فيها أخوه دفاعا عنها وعن وطنه.

عند دخوله إلى بيت أهله يتفاجأ بأن ساكنه الجديد فلسطينيا وليس يهوديا، يطلب منه أخذ صورة أخيه بدر المعلقة على جدران بيتهم. وفي الطريق يغير رأيه ويعيدها إلى مكانها، فالبيت الذي عاش فيه، هو الأجدر بإبقاء ذكراه حية بين جدرانه، وبين الناس الذين يعرفون بطولاته ويقدرون تضحياته.

منع الأم من الوصول إلى طفلها الرضيع

من الصورة يذهب السرد لعرض بطولات وتضحيات يريد العدو طمسها، بينما يؤكد النص السينمائي ديمومة وجودها في الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني، وخاتمة الحوار الذي يجري بين الجندي الإسرائيلي “دوف” (الممثل السوري جمال سليمان) وسعيد تفضي إلى المسار ذاته: الذاكرة الوطنية والماضي ضروريان، لكن الرهان الأهم هو على المستقبل، ومن يمثله هو ابنه خالد الذي يصر على قرار انضمامه للمقاومة الفلسطينية.

“عائد إلى حيفا”.. ترميم النسخة الأصلية بعد أربعة عقود

خارج المنزل الذي ما عاد منزلهم، تعبّر الجمل المتبادلة بينه وبين زوجته عن الفكرة المركزية للفيلم وعنوانها: “الإنسان قضية”، ويكملها سعيد دوما بعبارة توضيحية “القضية تحتاج إلى نضال”، وأن ابنهم خالد هو الشرف الباقي، به يمحون عار خلدون عليهم، وهم يعولون على الشباب الفلسطيني لاستعادة حقوقهم المشروعة.

حوار بين الأب والابن الذي صار عدوا

في معسكر للتدريب على السلاح يظهر “فارس اللبدة” مدربا لمجوعة شباب فلسطينيين، ذلك ما تنتهي إليه حكاية “عائد إلى حيفا”، فمن الإحباط واليأس، ومن الخسارات المؤلمة، يصل إلى الأمل والثقة بالمستقبل.

المفارقة التاريخية اللافتة في فكرة المستقبل وديمومتها أنه بعد مرور أكثر من أربعة عقود على ظهور الفيلم، تقرر أستوديوهات الحزب الشيوعي الإيطالي السينمائية ترميم النسخة الأصلية منه، تقديرا لمخرجه ولجهده في توثيق نضال الشعب الفلسطيني، وعليه بات “عائد إلى حيفا” متاحا للعرض على منصات وشاشات عالمية.