“مونيكا ماورر”.. صانعة الوثائقيات المُدافعة عن قضية فلسطين

كرّست المخرجة الألمانية “مونيكا ماورر” جلّ حياتنا للقضية الفلسطينية، ومع أنها انهمكت في صناعة الفيلم السينمائي منذ ستينيات القرن الماضي، فإن تعاونها مع مؤسسة السينما الفلسطينية ودائرة الإعلام في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني قد بدأ فعليا عام 1977، ولا تزال منشغلة بهذا الهمّ الإنساني ومُدافعة عنه حتى النفس الأخير.

أنجزت “ماورر” عشرة أفلام وثائقية، لكن هذه الدراسة النقدية ستقتصر على ثلاثة منها، وهي “أطفال فلسطين” (Children of Palestine) 1979، و”إصرار” الذي يُعرّف أيضًا بـ”لماذا؟” (Why?) 1982، و”فلسطين تحترق” (Palestine in Flames) 1988، آملين أن نتناول أفلامها الأخرى في دراسات نقدية قادمة.

إعلان حقوق الطفل.. إنسانية لا تشمل براعم فلسطين

يتمحور فيلم “أطفال فلسطين” على إعلان حقوق الطفل بشكل عام، لكن المُخرجَين “مونيكا ماورر” وسمير نمر يركزان على حقوق الطفل الفلسطيني، خاصة أولئك الأطفال الذين وُلدوا بعد ثلاثة عقود من الاحتلال، ففي عام 1948 -أو عام النكبة كما اصطُلح عليه- جُرِّد قسم كبير من الشعب الفلسطيني من ممتلكاتهم، وطُردوا بالقوة من بلدهم الأم.

أطفال فلسطين المحرومين من سبل العيش الكريم في المخيمات الفلسطينية في بيروت

أمّا الذين قُدِّر لهم البقاء في أرضهم فقد تعرضوا إلى أبشع أنواع القمع والتمييز العنصري من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، الذي ما انفكّ منذ تأسيس كيانه الصهيوني سيئ الصيت والسمعة، يمعن في استعمال القوة المفرطة تجاه الشعب الفلسطيني، ويعاملهم بوحشية لا نظير لها على وجه الأرض.

لا يهدف المُخرجان إلى الإحاطة بكل حقوق الطفل جملة وتفصيلا، وإنما يريدان تسليط الضوء على أهم ما ورد في هذا الإعلان المهم الذي يبدو أنهم اجترحوه للبلدان الأوروبية والغرب الأمريكي، فهو على ما يبدو لا يشمل بلدان العالم الثالث، ولهذا يمعنون في الإساءة إليها، ويتهمونها بالتطرّف والتخلّف والإرهاب.

يرى الإعلان بأن كل طفل -بغض النظر عن لونه وجنسه ودينه- له الحق في أن يكون له اسم وجنسية وهُوية تتضمن معلومات كافية عن سجلّه الأُسَري والبلد الذي ولد فيه، بينما حُرم الطفل الفلسطيني من هذه الامتيازات الطبيعية التي يمتلكها أي طفل آخر في العالم.

أطفال فلسطين ولبنان.. طفولة تحت سماء الأسلحة المحرمة

يعتمد المخرجان في هذا الفيلم على تقنية التعليق الصوتي، كما يتعالقان مع بعض أغاني الأطفال التي تحث الناس على الحرية والمحبة والسلام. وبينما يؤكد الإعلان على توفير الحماية للأطفال بحيث تُهيأ لهم الظروف الملائمة لنموهم الجسدي والعقلي والنفسي، نرى الأطفال الفلسطينيين واللبنانيين في هذا الفيلم عُرضة للموت بكل أشكاله البشعة، ولا سيما أولئك الذين فقدوا عوائلهم وبيوتهم، وظلوا هائمين على وجوههم في المخيمات، منتظرين الأيادي الحانية التي تضمهم إلى الصدور، وتعوِّضهم عن فقد الأهل والأقرباء والأحبة.

ما يميّز هذا الفيلم أنه لا يعتمد على التعليق الصوتي فقط، بل يراهن على الأدلة الدامغة، فحينما يتحدث أحد المواطنين عن استعمال العدو الصهيوني لسلاح النابالم المحرّم دوليا، يُرينا المخرجان صورة لفتاة صغيرة مشوّهة الوجه، ثم يسرد هذا الرجل حكاية تعرضه للقصف مع 50 شخصا آخر، كانوا يعملون في إحدى المزارع، فذهب لكي يبحث عن ابنته فوجدها مصابة، ثم نقلها إلى معهد طبي تابع للهلال الأحمر الفلسطيني كي تتلقى العلاج وإعادة التأهيل.

التفجيرات التي صدمت الأطفال الفلسطينيين واللبنانيين في بيروت وتركت عليهم آثارًا نفسية خطيرة

وثمة طفل كان مختبئا في ملجأ، وحينما خرج ليذهب إلى البيت رأى والديه وأخاه، ثم غاب عن الوعي، وحينما أفاق وجد أباه مجروحا وأخاه مقتولا، أما هو فقد بُترت يده وجرح في ساقه وصدره جروحا بليغة. فأين هي اشتراطات الحماية التي يتحدث عنها إعلان حقوق الطفل؟

جنوب لبنان.. قصف يشرد مئات الآلاف من السكان

تدور أحداث الفيلم في أشهر متفرقة من عام 1979، ومع أن الاحتلال الإسرائيلي قد وقّع المعاهدة المصرية الإسرائيلية في 26 مارس/ آذار 1979، فإن قواته شنّت عددا من الهجمات على جنوب لبنان في الشهر الذي يلي الاتفاقية، بل أصبح القصف ممنهجا، فأدى إلى نزوح أكثر من 600 ألف مواطن، وصاروا يعيشون تحت ظروف خطيرة جدا، تتنافى مع أبسط حقوق الإنسان.

لقد هجّر الإسرائيليون بسبب القصف المستمر غالبية سكّان المدن والقرى في جنوب لبنان، فقد استشهد ألف مواطن، وجُرح ثلاثة آلاف بينهم عدد من الأطفال الذين يفتقرون إلى الحماية التي أشرنا إليها آنفا. ويتبع الإسرائيليون سياسة الأرض المحروقة التي تهدف إلى إخلاء الجنوب اللبناني من الناس، تاركين المنطقة لهاجس التوسّع الإسرائيلي.

تعرضت مدينة صُور إلى قصف مدفعي إسرائيلي كثيف، حتى هجرها سكانها الذين يقدر عددهم بنحو 60 ألف مواطن من فسيفساء الشعب اللبناني، ولعل سبب النزوح الأول هو القصف بالأسلحة المحرمة دوليا، مثل النابالم والقنابل العنقودية والفسفورية، فلا غرابة في أن تسكن العائلات المهجّرة في المدارس والمرائب والمحلات الفارغة.

“لماذا أمتنا مشردة بينما يعيش الآخرون بسلام؟”

تشكو إحدى النساء من الأوضاع المزرية التي يعانون منها بعد أن قصف الإسرائيلون بيوتهم، ودمروا مدارسهم، وشردوهم من ديارهم. وتطرح هذه المرأة البسيطة سؤالا مهما: لماذا أمتنا مشردة في المنفى، بينما يعيش الآخرون بسعادة وسلام؟ هذا ليس عدلا. يجب أن يكون هناك حل لكي نعود إلى بلدنا.

يعاني الجميع -ولا سيما الأطفال- من نقص المياه، وشح الغذاء، وانعدام الشروط الصحية، مما أدى إلى انتشار الأمراض في المخيمات مثل التيفوئيد، وفقر الدم، والإسهال. كما أن دمار القسم الأعظم من حقول الزراعة قد أفضى إلى بطالة كارثية فاقمت أوضاعهم الاقتصادية السيئة أصلا.

الأطفال الفلسطينيون الذين يتعلمون القراءة والكتابة في مخيمات اللاجئين في بيروت

ونتيجة للتوتر النفسي للاجئين عموما، وشُح الأدوية، وقلة الرعاية الصحية، فإن عددا من النساء وضعنَ أطفالا خُدّجا، وأن الحاضنات لا تكفي لإنقاذ حياة كل الأطفال الجدد الذين يأتون في الظروف العصيبة.

صدمات الحرب.. أمهات بديلات يعوضنَ الأيتام ما فقدوه

كانت الثورة الفلسطينية قلقة جدا على الجيل الجديد الذي لم يولد في فلسطين ولم يرها رأي العين، فالمخيلة وحدها لا تكفي لتقوية الأواصر ببلدهم الأم، فكيف بالـ150 طفلا الذين فقدوا ذويهم في مجزرة “تل الزعتر” في 12 آغسطس/ آب 1976، ووجدوا أنفسهم في بيوت جديدة مع أمهات بديلات يحاولن تعويض الأيتام ما فقدوه من أبوة وأمومة وحنان.

لم تكن مشكلة الفقدان سهلة، فغالبية الأيتام كانوا يعانون من صدمات الحرب، ويواجهون صعوبة في التعليم، لأن البيئة الجديدة لا تشجعهم على الدراسة، فالغرف مزدحمة جدا، والإنارة ضعيفة، وثمة نقص ملحوظ في وسائل الإيضاح والتعليم.

يرى المُخرجان أن التعليم هو الطريق الوحيد الذي ينقذ الأطفال اللاجئين من محنتهم المستديمة، كما أن مراكز التدريب التي فتحت للشباب واليافعين سوف تؤهلهم في القريب العاجل على إتقان مهن محددة، وتنقذهم من محنة اليأس والبطالة وفقدان الأمل، وقد رأينا عددا من الفتيات والصبيان الذين يطمحون لأن يكونوا أطباء أو مهندسين أو مدرّسين حين يشبّون عن الطوق.

وعودا على حماية الطفولة من الإهمال والاستغلال والاعتداءات الجنسية وما إلى ذلك، فإن الطفل يجب أن لا يعمل قبل أن يبلغ سن الرشد، وإذا توجب عليه العمل فلا بد من متابعته والحفاظ على حياته وسلامته وكرامته الإنسانية، ويجب أن يحصل على أجر مُجزٍ لا يغمط حقه بسبب صغر السن، وأن لا يؤثر على صحته الجسمانية وتعليمه الدراسي، فأكثر الأطفال الذين يعيشون في المخيمات أو في الأراضي المحتلة قد أُجبروا على ترك الدراسة قبل أن يكملوا تعليمهم الأساسي.

أحلام أطفال فلسطين المُهجّرين.. عودة إلى الوطن

يلجأ غالبية اللاجئين الذين هُجروا من ديارهم إلى التواصل مع أهلهم وذويهم برسائل إذاعية يهدون فيها سلامهم وتحياتهم إلى الأهل والأقارب والأصدقاء، وكذلك يوجّه فلسطينيو الداخل رسائلهم وتحياتهم إلى بعض أهاليهم وأقربائهم ومعارفهم في البلدان العربية التي نزحوا إليها واستقروا فيها إلى أجل غير مسمّى.

طفلة تقف في مكان تعرض للقصف بالقنابل الفسفورية (فيلم إصرار)

أحلام الأطفال الفلسطينيين المهجرين كثيرة، لكن أهمها يتمحور على العودة إلى الوطن، فثمة صبي يريد أن يعود إلى فلسطين ويسكن في بيته، وأن يعيش فيه بسلام، وأن يعمل بحّارا مثل جده. وهناك صبية تريد أن تصبح طبيبة لكي تعالج الجرحى، وطفل ثالث يريد أن يعود لكي يصبح معلما يعلم الجيل الجديد، ويعيش مع أهله وذويه بسعادة مثل كل أطفال العالم، وهكذا دواليك.

خلاصة القول إن الطبيب يستطيع أن يشفي الجراح لكنه لا يمنعها، لقد قاتل فلسطينيو الداخل والخارج معا من أجل شيء واحد، يُدعى حق تقرير المصير الذي كفلته قوانين الأرض والسماء، وهو يعني ببساطة عودة اللاجئين والمهجرين الذين اقتُلعوا من جذورهم إلى أرضهم فلسطين، وتأسيس دولتهم المستقلة التي تكفل لهم الحرية والعدالة والعيش الكريم.

“إصرار”.. مؤازرة أمريكية لتدمير عروس العواصم العربية

ترصد “مونيكا ماورر” في فيلم “إصرار” حال الثورة الفلسطينية والجهود الكبيرة التي بذلتها هذه الثورة المباركة لدعم صمود أهل بيروت وثباتهم في عاصمتهم الحبيبة المربوطين إليها بحبل سُرّي لا ينقطع.

تؤكد “ماورر” بأن هذا الفيلم الوثائقي قد صُوِّر وعُرض في أثناء الغزو الإسرائيلي الوحشي للبنان عام 1982، وقد زوّدتهم أمريكا بأحدث الطائرات والأسلحة الفتاكة، لكي يجرّبوها على الشعبين الفلسطيني واللبناني، ويمعنوا فيهم قتلا وذبحا وتدميرا.

وكان من بين أهداف المخرجة الكثيرة إيصال نضال الشعبين الفلسطيني واللبناني إلى مختلف أرجاء العالم، وتقديم الدعم والمؤازرة للثورة الفلسطينية، ومحاولة خرق هيمنة الإعلام الغربي المنحاز بشكل متطرف للكيان الصهيوني المحتل.

تنطلق “ماورر” في فيلم “إصرار” من يوم 4 يونيو/ حزيران 1982، حينما زوّدت الولايات المتحدة الأمريكية العدو الإسرائيلي الغاشم بـ60 طائرة من طراز “فانتوم إف 15” و”إف 16″، لتدمير معالم بيروت الغربية، حيث قصف الطيران الإسرائيلي المدينة الرياضية والمناطق السكنيةَ المحيطة بها، مثل صبرا وشاتيلا والفاكهاني وحارة حريك وبرج البراجنة.

أناس فلسطينيون خلف أسيجة الاحتلال (لقطة من فلسطين تحترق)

لم يكتفِ الإسرائيليون بالقصف الجوي هذه المرة، بل حشدوا أكثر من 160 ألف جندي صهيوني تجمعوا من مختلف بقاع الأرض، لتنقلهم الطائرات والدبابات والبوارج البحرية، ليحاصروا بيروت ويبثّوا في أرجائها الألغام والسيارات المفخخة، ومصائد المغفلين التي حملها الجيش الإسرائيلي البغيض المتلهف لبثّ الخراب في أرجاء المدينة، وكانت من قبلُ غالبًا ما تُوصف بعروس العواصم العربية، ومنارة الحرية والتقدم والانفتاح.

“الهلال الأحمر الفلسطيني”.. دعم للمستشفيات إبان الحرب

كانت المخرجة “مونيكا ماورر” قد أنجزت فيلما بعنوان “الهلال الأحمر الفلسطيني” (Palestine Red Crescent) عام 1980، وهي أدرى بالخدمات الجليلة التي قدّمتها هذه الجمعية في دعم المستشفيات والمراكز الصحية بالمستلزمات الطبية وفرق الإنقاذ وسيارات الإسعاف وما إلى ذلك من احتياجات ملحّة.

كما أنشأت الجمعية 28 دار نقاهة ومراكز إخلاء ومستشفى كامل التجهيز في مناطق مختلفة من بيروت الغربية وضاحيتها الجنوبية، واهتمت أيضا بالأطفال الفلسطينيين واللبنانيين الذين أصابهم قصف الطائرات الصهيونية طوال أيام الحرب والحصار، ونقلتهم إلى مناطق أخرى فيها بعض الهدوء والأمان النسبي.

مقاتلة فلسطينية إلى جانب سيارة الإسعاف التابعة لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني

وقد عمد العدو الصهيوني طوال مدة الحصار إلى الحدّ من وصول الوقود إلى بيروت الغربية، بهدف شلّ حركة الحياة كليا، لكن القائمين على الجمعية قنّنوا استهلاك البنزين، لكي لا تتعطل حركة سيارات الإسعاف والإنقاذ والدفاع المدني على مدار اليوم، وينبغي أن لا تتوقف مهما اشتدت الظروف وتفاقمت الأزمات.

“تحقيق حُلم السيطرة على أرض بلا بشر”

تركز المخرجة “مونيكا ماورر” في عدد من أفلامها على الأسلحة المحرمة دوليا بموجب اتفاقيات جنيف، وتحاول أن تفضح العدو الصهيوني أولا، وتدين الولايات المتحدة التي تكيل بمكيالين، وتتبنى المعايير المزدوجة، وهي تركز على سبعة أنواع من الأسلحة المحرمة، وهي القنابل العنقودية، والانشطارية، والفوسفورية، والنابالم، والقنابل الفراغيّة، والغازات السامة، والحارقة، ثم تتوقف عند نوعين مروّعين وهما القنابل العنقودية والفسفورية، وتسلط الضوء على تأثيرهما القاتل على حياة المواطنين الفلسطينيين واللبنانيين والأجانب المحاصرين في بيروت.

ولا يخفى على أحد بأن الجيش الإسرائيلي كان يسعى منذ تأسيس كيانه المصطنع عام 1948م إلى “تحقيق حُلم السيطرة على أرضٍ بلا بشر”. فلا غرابة أن يتغول العدو في قصفه الوحشي على المؤسسات المدنية والإنسانية مثل دور العبادة والمدارس والمستشفيات والمخيمات والمراكز الثقافية والفنية والاجتماعية، من دون أن ترتعد له فريصة أو يرفّ له جفن، فوجد هؤلاء اللاجئون أنفسهم في العراء ثانية.

لكن إصرار جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني واللجان الشعبية الفلسطينية اللبنانية هو ما دفعهم إلى التآزر، فأعادوا الأمور إلى نصابها الصحيح، ووفرّوا لهؤلاء المهجّرين سقفا ينامون تحته، ولقمة عيش كريمة يسدون بها الرمق ويدفعون بها غائلة الجوع.

طفلة فلسطينية تعرضت لإصابات خطيرة في مخيما اللاجئين في بيروت فيلم (إصرار)

من الجدير بالذكر بأن “مونيكا ماورر” قد أسندت مهمة التصوير إلى سمير نمر ومحمد عوّاد وأبو ظريف، واختارت للتعليق الصوتي عبد الرحمن بسيسو، وانتقت “ماورو كونتيني” للمونتاج، لكي يشذّب الفيلم من الترهل البصري الذي يمكن أن يعتريه.

“فلسطين تحترق”.. أمة عريقة يمزقها وعد مقيت

تستعين المخرجة “مونيكا ماورر” في فيلم “فلسطين تحترق” الذي أنجزته سنة عام 1988 بالتعليقات الصوتية أول الأمر، لتسلط الضوء على أهمية القدس، بعد أن تشير إلى “وعد بلفور” المقيت، وخطة الأمم المتحدة للتقسيم، وحرب الأيام الستة، والغزو الإسرائيلي للبنان في نهاية عام 1987.

وهي تشنّف سمعنا بأغنية “زهرة المدائن” التي لحّنها الأخوان رحباني وغنتها فيروز بصوتها الساحر الأخاذ، واقتبست منها “ماورر” المقطع الثاني المنسجم مع فيلمها الذي يوثق لكارثة الاحتلال.

تقول كلمات الأغنية:

لأجل من تشرّدوا
لأجل أطفال بلا منازل

وتختم هذا المقطع بالأبيات التنبؤية الآتية:

حين هَوَت مدينة القدس
تراجع الحبّ وفي قلوب الدنيا استوطنت الحرب

ثم تتكئ ثانية على التعليق الصوتي لتؤكد بأنّ “القدس هي المدينة المقدسة للمسيحيين والمسلمين واليهود، وهي قلب فلسطين، وفلسطين هي الجسر الذي يربط القارات الثلاث؛ أفريقيا وآسيا وأوروبا، وهي مركز العالم العربي، والرابط بين الشرق والغرب، والفلسطينيون هم أحفاد الكنعانيين والآراميين والعرب”.

وقد غزاها الفرس واليونانيون والرومان والصليبيون والأتراك، ثم خضعت للانتداب البريطاني سنة 1920. وفي ذلك الوقت كان 8% من السكان يهودا يملكون 2.5% من الأراضي الفلسطينية.

إسرائيل العظمى.. خريطة تسعى إلى التهام عدة دول

في عام 1936 ارتفع عدد المهاجرين اليهود إلى 380 ألف نسمة تقريبا، أي ما يعادل 30% من نسبة السكّان، ومع ذلك فإن البعثة الصهيونية كانت تصرّح قبل هذا التاريخ بوقاحة لا مثيل لها بأنه يمكن أن يكون هناك وطن قومي واحد في فلسطين، وهو الوطن اليهودي الذي لا يعترف بالشراكة والمساواة بين اليهود والعرب.

آثار الدمار في صفوف مدارس المخيمات الفلسطينية في بيروت

ويمضي المعلّق إلى القول إنّ الأمم المتحدة خططت لتقسيم فلسطين إلى دولة عربية ويهودية، فخصصت 40% من الأراضي الفلسطينية لحوالي 1.3 مليون عربي، و60% لنصف مليون يهودي، فأثار ذلك حفيظة الفلسطينيين، وحفّز الشعب العربي للاحتجاج على التقسيم، فشجعت السلطاتُ التفويضية العصاباتِ الصهيونية على قمع الأنشطة السياسية للفلسطينيين.

وما إن خرج البريطانيون من فلسطين، حتى احتل الصهاينة المزيد من الأراضي الفلسطينية، وأعلن “ديفيد بن غوريون” تأسيس دولة إسرائيل في 15 مايو/ أيار 1948.

وفي اليوم الثاني مباشرة هاجمت العصابات الصهيونية الفلسطينيين وهدّموا بيوتهم، مخلّفين وراءهم جحيما لا يُطاق من ألسنة النيران المستعرة، وانفجارات لا نهاية لها أسفرت عن نزوح قسري للفلسطينيين.

رُسمت خريطة إسرائيل منذ البداية على وفق نيات توسعية، أخذت تظهر في مفهوم إسرائيل العظمى التي تضم لبنان والأردن وسوريا ومصر، على أنها جزء من الأرض الموعودة.

وتأكيدا لهذا المنطق التوسعي هجمت إسرائيل في حرب الـ1967، وهزمت الجيوش العربية الثلاثة، واحتلت مساحة كبيرة من سوريا ومصر وبقية فلسطين، فأسفرت هذه الحرب عن مشكلة لاجئين جديدة، إذ صادر الاحتلال مدنا وقرى فلسطينية عدة وطمسوا هويتها، ليخلقوا إحساسا بالغربة لدى الجيل الجديد، كما دمروا الأراضي الزراعية التابعة للفلسطينيين، وحولوهم إلى أيد عاملةٍ رخيصة، وصادروا المياه ودمروا نظام الري القديم، وسمحوا لهم باستثمار 1% من النسبة الكلية للمياه.

“هي تاريخنا ودمنا وجوهر وجودنا”

تلتقي المخرجة بعدد من المزراعين الفلسطينيين، فيقول أحدهم إن هذه الأرض هي أرض آبائنا وأجدادنا، ويجب ألا نتخلى عنها، ويخاطب الأبناء والأحفاد بأنّ هذه الأرض “هي تاريخنا ودمنا وجوهر وجودنا”، وينصحهم بأن يعيدوا زراعة أشجار الزيتون التي دمّرها العدو الإسرائيلي. ثم تنتقل “ماورر” إلى فعالية “يوم الأرض” التي تعد رمزا للوحدة الوطنية، وردا قويا على محاولة إبادة الشعب الفلسطيني من الوجود.

تتوقف المخرجة عند الخروق المستمرة لحقوق الإنسان الفلسطيني الذي يتعرض للإهانة والإذلال في الحواجز ونقاط التفتيش. وثمة مَشاهد لاقتحام البيوت، وتحطيم الأبواب، وضرب الشباب بالعصي والهراوات، كما أن الجنود الإسرائيليين يستطيعون دخول بيوت الفلسطينيين من دون ترخيص.

وعلى صغر المساحة الجغرافية للضفة الغربية وغزة، فإنها تحتوي على 9 سجون، من بين 22 سجنًا في إسرائيل برمتها، كما أنّ عدد السجناء السياسيين الفلسطينيين يقارب 8 آلاف سجين في ذلك الوقت (أي 1988). ويتعرض كثير منهم للإهانة والتعذيب الممنهج، ولا تُعرض قضاياهم في موعدها المحدد.

الطفولة تنتصر رغم الدمار الذي أحدثته القوات الإسرائيلية في فلسطين (لقطة من فيلم فلسطين تحترق)

وتتراوح أعمار غالبية هؤلاء السجناء بين 12-14 سنة، تؤخذ اعترافاتهم على جرائم لم يرتكبوها أبدا، وتدون اعترافاتهم بالعبرية التي لا يفهمها الأطفال، ولا يكتشفون ذلك إلاّ في المحكمة العسكرية.

ويستعمل الجيش الإسرائيلي الغازات المسيّلة للدموع التي تشلّ الجهاز التنفسي، وتسبب بعض القروح، وتؤثر على النساء الحوامل ويعرضهن للإجهاض. ثمة مشهد لأربعة جنود إسرائيليين يتناوبون على ضرب مواطن فلسطيني يظهر على شاشة التلفاز، بينما ينظر إليه الأطفال بذعر شديد.

وعلى الرغم من القمع ومصادرة حرية الرأي والتعبير، فإن الانتفاضة الشعبية لا يمكن إيقافها، فهي تتطور يوميا إلى حركة مقاومة طويلة الأمد ضد الاحتلال الإسرائيلي البغيض، ولن تنتهي هذه المقاومة الباسلة إلا بتقرير المصير، وإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل أرضها وترابها الوطني المقدس.

“مونيكا ماورر”.. حاملة اسم فلسطين في محافل السينما

في الختام لا بدّ من الإشارة إلى أنّ “مونيكا ماورر” قد درست في الأصل علم الاجتماع والاتصالات في جامعتَي ميونيخ وبرلين، كما عملت صحفية في عدد من الصحف والمجلات من بينها مجلة “رامبارتس” (Ramparts) الأمريكية المرتبطة بحركة اليسار الجديد.

لكنها سرعان ما وضعت كل شيء جانبا، واتجهت بكل مشاعرها وقواها الذهنية لمؤازرة القضية الفلسطينية، والترويج لها في المحافل الدولية، ولا سيما في المهرجانات السينمائية والأنشطة الثقافية والفنية في كل أنحاء العالم.

أخرجت “ماورر” أكثر من عشرة أفلام وثائقية، بعضها بالاشتراك مع المخرج العراقي فريد إبراهيم حسين (سمير نمر) مثل “الصليب الأحمر الفلسطيني” (1979)، و”أطفال فلسطين” (1979)، و”الحرب الخامسة” (1980).

أما بقية الأفلام الوثائقية فهي من إخراجها المنفرد، مثل “المولودة من الموت” (1981)، و”أشبال: نبض الحياة” (1981-1982)، و”إصرار” (1982)، و”مختبر حرب” (1984)، و”فلتسمع” (1985)، بالاشتراك مع عبد الرحمن بسيسو، و”يوم الأرض” (2019).