أدب السجون الفلسطيني.. سراج يضيء عتمة الزنازين ويكسر أسوار المعتقل

يروي أفلاطون في كتاب “الجمهورية” قصة “آر بن أرمينوس” الذي ذُبح خلال معركة وعاد إلى الحياة بعد 12 يوما، وأخبر الجميع بما رآه في العالم الآخر. لقد وصف وجوه الأرواح التي أتت من رحلة استغرقت ألف سنة من تحت الأرض في سجن تارتاروس العميق، ونقل إلى الأحياء مشهد عقاب بعض ممن حاولوا الخروج من السجن، إذ “قبض عليهم رجال قساة وحملوهم بعيدا، وأوثقوا رؤوسهم وأرجلهم وأيديهم ورموهم إلى الأسفل، جلدوهم بالسياط وسحبوهم على طول الطريق خارج المدخل”.

يبدو مشهد سجن تارتاروس مألوفا جدا، فمثلما نقل “آر بن أرمينوس” العذاب الذي شاهده لسجناء الآلهة، نقلت الروايات والأشعار التي خطّها معتقلون فلسطينيون في سجون الاحتلال الإسرائيلي التي تطابق تارتاروس آلامهم في زنازين التحقيق تحت عصي الجلادين وسياطهم.

لقد أصاب أفلاطون في توصيفه الأسطوري للعذاب الذي قطع انعكاسه آلاف السنوات، ليستقر بتطابق عجيب مع القصص التي نقلت ما يلقاه الفلسطينيون في المعتقلات الإسرائيلية، مع أنه خاب في قوله إن عذاب الأرواح السجينة تظل محبوسة للأبد، فقد طار السجناء الفلسطينيون بأرواحهم خارج أسوار معتقلاتهم، مستعملين أوراقا مهترئة وأقلاما تتمنى ألا ينفذ حبرها.

أدب السجون الفلسطيني.. آخر رسالة قبل الإعدام

تقول الباحثة إيمان مصاروة في كتابها “أدب السجون في فلسطين”: يكتب السجين الفلسطيني رغم قيده، ليتحرر من فظاعة الزنزانة والسجان، وليسجل ذاكرة وتاريخا شاهدا على ظلم التحقيق وزنازين الاعتقال، والكتابة عن التجربة الاعتقالية ليست جديدة على الساحة الفلسطينية، حيث كتب إبراهيم طوقان سنة 1930 قصيدة خلدت الشهداء محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي، وكتب الشاعر الشعبي عوض النابلسي على جدار زنزانته ليلة إعدامه في العام 1937 قصيدته الشهيرة “ظنيت إلنا ملوك تمشي وراها رجال”.

كان عوض النابلسي قد حكم عليه بالإعدام من سلطات الاحتلال البريطاني، واستحضر ذكرياته وأصدقاءه وعائلته قبل ساعات من تنفيذ الحكم عليه، فكتب على جدار الزنزانة قصيدته التي يقول أحد مقاطعها باللهجة العامية:

يا ليل خل الأسير تا يكمّل نواحو
بفيق الفجر ويرفرف جناحو
ظنيت لنا ملوك تمشي وراها رجال
تخسا الملوك إن كانوا هيك أنذال
والله تيجانهم ما يصلحوا لنا نعال
إحنا إلي نحمي الوطن ونخمد جراحه”.

وقد حفظ رفاق النابلسي في الزنزانة قصيدته، وحرّروها من جدران السجن، فاشتهرت خارجه.

أدب السجون الفلسطيني.. أنابيب الأقلام ومغلفات الزبدة

حين انتصبت دولة الكيان الصهيوني في العام 1948، بدأ الكيان الجديد بسياسة تشكيل هويته، بمحو كل أثر للثقافة الفلسطينية حتى داخل المعتقلات. تقول الباحثة إيمان مصاروة: انتهج المحتل سياسة الإفراغ الفكري للمعتقلين الفلسطينيين، لذلك ضربت قوات الاحتلال حظرا تاما على الثقافة الوطنية الفلسطينية والإنسانية، وكل وسيلة ثقافية بما في ذلك الورقة والقلم. وكان على المعتقلين الفلسطينيين إيجاد وسيلة للتغلب على هذه المشكلة، فعملوا على تهريب أدوات الكتابة من خلال زيارات الأهل، وعن طريق المحامين، كما استفادوا من مواسير الأقلام التي كانت توزع عليهم لكتابة رسائل لأهلهم، وبنفس الطريقة تمكنوا من توفير الورق، واستخدم المعتقلون مغلفات الزبدة واللبنة بعد غسلها وتجفيفها للكتابة عليها.

طيلة ما يقارب عقدين من الزمن، وفي الفترة الفاصلة بين النكبة والنكسة، وبعدها بقليل، ضربت سلطات الاحتلال الإسرائيلي حصارا ثقافيا على المعتقلين، اشتدت ذروته بين العامين 1967 و1970.

ويتحدث الباحث الفلسطيني محمود موسى زياد في بحثه “الأدب الفلسطيني في سجون الاحتلال الإسرائيلي 1967-2000” عن المستوى الثقافي لدى الأسرى ومشاربه، قائلا: تأثر المستوى الثقافي لدى المعتقلين الفلسطينيين بشكل كبير، وقد يكون ذلك ناتجا عن الوضع السياسي على الساحة الفلسطينية، ولربما تكون المرحلة الاجتماعية في ذلك الوقت قد فرضت نفسها بما في ذلك الهزيمة، وما خلفته من آثار نفسية واجتماعية، فقد كانت الهزيمة بمثابة صاعقة دمرت ما بُني من تمنيات وأحلام، وكشفت عجز الأنظمة العربية.

وفي البداية ارتبطت نشأة الحركة الثقافية داخل المعتقلات بأشخاص أكثر من ارتباطها بأنظمة، وتعليمات مرتّبة ومصاغة، فقد أخذ بعضُ الأشخاص -من ذوي الخبرة في العمل التنظيمي والحزبي- على عاتقهم مهمةَ مشاركة زملائهم ما يعرفون حول سبل تنظيم حياة الاعتقال واستغلالها بطريقة مفيدة، فقام كل شخص من هؤلاء من موقعه بعقد الجلسات الثقافية، وإلقاء المحاضرات الخاصة بالتنظيم والصراع الفلسطيني من أجل التحرر.

أدب السجون الفلسطيني.. قصاصات صغيرة تحمل الكلمات الثقيلة

لم يكن سهلا على المعتقلين الفلسطينيين أن يدوّنوا ما كتبوه، فكان عليهم في البداية توفير أنابيب أقلام الحبر الجاف، لكنها كانت تُصادر فيُعاقب كل من ضبط بحوزته أنبوب قلم، ويقول بحث “الأدب الفلسطيني في سجون الاحتلال الإسرائيلي 1967-2000”: استُخدم ورق اللف وورق علب اللبن والزبدة بعد تجفيفها. ففي معتقل عسقلان كان المعتقلون يحصلون على القلم بطريقة استبدال الأنابيب الفارغة، عندما كان يسمح لهم بكتابة الرسائل مرة واحدة في الأسبوع. وقد كان المعتقلون في ذلك السجن يستخدمون في عملية التثقيف والتوعية أوراق علب السجائر التي كانت توزعها عليهم إدارة السجن، فكانوا يكتبون على تلك الأوراق تاريخ القضية الفلسطينية، وتاريخ الثورات العالمية، وكان يكتب عليها بخط صغير، حتى تتسع لأكبر كم ممكن، وتنتقل من غرفة إلى أخرى، ومن يد إلى يد.

يقول محمد خليل عليان -وهو أسير محرر- إن المعتقلين الفلسطينيين ابتكروا أساليب في الكتابة، فكتبوا على الجدران، وتبادلوا الرسائل داخل المعتقلات، وكتبوا بمسامير الأحذية وبالدم أيضا.

ويصف الباحث عبد الناصر فروانة مراحل كفاح المعتقلين من أجل التعلم أولا، ثم الإنتاج الفكري والأدبي ثانيا، بأنه بدأ بمراحل أولها تهريب الأقلام واستخدام أوراق الكرتون وورق السجائر، أما المرحلة الثانية التي تلت تمكينهم من أقلام وأوراق لكتابة رسائل لأهلهم، فهي تهريب ما كتبوه عن أعين السجانين، إذ كانوا يصادرون الدفاتر والأوراق التي كتب عليها المعتقلون الفلسطينيون.

“كلمات سجينة”.. ديوان شعري مشترك من داخل المعتقل

استمرت سياسة الحصار الثقافي على الفلسطينيين داخل المعتقلات الإسرائيلية من العام 1967 إلى العام 1970، بعدها بدأ المعتقلون بالمطالبة بإلحاح لإدخال الكتب والدفاتر لأغراض تعليمية، ولكن إدارات المعتقلات الإسرائيلية ماطلتهم، حتى اضطرت بعد العام 1970 بالسماح للصليب الأحمر بإدخال الأقلام والدفاتر في بعض الفترات.

أثمر الحظر الجزئي على إدخال الدفاتر والأقلام في تلك المرحلة إنتاج ديوان شعري مشترك، ساهم فيه شعراء مثل محمود الغرباوي ومحمود عبد السلام ومشهور سعادة، بعنوان “كلمات سجينة”، صدر بخط اليد في معتقل بئر السبع سنة 1975، وكان عام 1976 الذي شن فيه معتقلو سجن عسقلان إضرابا قد افتتح مرحلة انفراج حقيقي على الصعيد الثقافي داخل ذلك المعتقل بالذات، فقد كسر المعتقلون الفلسطينيون الحظر الشديد على الحركة الثقافية داخل المعتقل.

برقية من الأسير تحسين رمضان حلبي، من داخل سجن جنين الاسرائيلي، إلى صديقه يعزيه فيها بوفاة والدته

يقول الباحث محمود موسى زياد: خففت القيود التي فرضت على الجلسات الثقافية داخل الغرف، وسمح بإدخال الدفتر والقلم، رغم التقييدات التي فرضت على كيفية استعمال هذه الدفاتر والأقلام بعد مرورها على الرقابة.

ويتحدث عن تطور الحركة الثقافية في السجن إبان تلك الفترة قائلا: في تلك المرحلة، أصبحت صياغةُ البيانات والاهتمام بانتقاء كلماتها وتطور أسلوبها البدايةَ الحقيقية لأدب الحركة الأسيرة، وكانت أولى التجارب الثقافية التي مارسها الأسرى هي كتابة صحيفة تعبر عنهم، وكانت عبارة عن بعض المقالات التي كُتبت على ورق حفظ اللبن بعد تنظيفه، وقد كانت تحرر بسرية. وتطورت لتكتب على ورق كرتون خبز المصة الذي يقدم للمعتقلين في أسبوع عيد الفصح اليهودي، وأصبحت بعدها تكتب على أوراق من الحجم الاعتيادي، ومن ضمن تلك المجلات، صدرت مجلة في معتقل عسقلان، واسمها “عسقلان الثورة” في الأعوام 1976 و1977.

أدب السجون الفلسطيني.. كلمات أفلتت من أسوار المعتقل

ولد أدب المعتقلات الفلسطيني من رحم كل تلك الظروف، وبدأت إنتاجات المعتقلين من روايات وأشعار، وقد تحررت من زنازين الاحتلال بفضل تهريبها للقيام بدور تحريضي ضد الاحتلال خارج أسوار زنازينه.

وهو ما عبر عنه الروائي جمال بنورة في “دراسات أدبية” بقوله: أدب السجون أدب واعد، وعلى مستوى جيد من حيث الشكل والمضمون، مع الظروف الصعبة التي يعيشها السجناء، ومع أن كتاباتهم مهددة بالمصادرة، فوصول هذا الإنتاج الأدبي إلى القراء يعد إضافة هامة كمّا ونوعا إلى أدبنا الفلسطيني المقاوم، إضافة إلى أنه سيكون له أثره على أدبنا الفلسطيني عامة.

أبيات شعرية كتبها عمر القاسم في السجن، ثمانينيات القرن العشرين

تطورت الحركة الأدبية داخل المعتقلات الإسرائيلية في فترة الثمانينيات، مستفيدةً من تطور معارف المعتقلين، بعد أن سمحت لهم سلطات الاحتلال بالنفاذ إلى بعض الكتب الأدبية. وتقول الباحثة إيمان مصاروة في كتاب “أدب السجون في فلسطين”: تمكن المعتقلون في فترة الثمانينيات من تهريب ما دونوه، فنُشر في مجلات وصحف محلية، مثل الشراع والفجر الأدبي والكاتب، وشجعت دور النشر المعتقلين على الكتابة عن طريق نشر إنتاجاتهم.

وفي تلك الفترة صدر ديوان عدنان الصباح في العام 1981 بعنوان “درب الخبز والحديد”، وديوان “أيام منسية خلف القضبان” لمحمد أبو لبن سنة 1983، ومجموعة قصصية بعنوان “الطريق إلى رأس الناقورة” لحبيب الهنا في العام 1984، ومجموعة “ساعات ما قبل الفجر” لمحمد عليان سنة 1985.

أدب السجون الفلسطيني.. جسر العبور إلى أحلام الغد الحر

كلما ضاقت الزنازين اتسعت مجالات العبارة، حتى أن السجن ذاته أصبح ساحة خصبة للإنتاج الأدبي، وأصبحت كل تفاصيل حديده وأبوابه وأقبيته مجالا للتعبير، من خلال وصف تفاصيله التي تعكس تفاصيل كل سجين، ففي ديوان “أوراق محررة”، كتب الأسير السابق معاذ الحنفي قصيدة يصف فيها سجنه، ويقول فيها: “ثمانون بابا وباب، ثمانون قفل وناب، ونافذة موصدة، أفاعٍ.. أفاعٍ تحط الرحال على النافذة”.

يقول الباحث خالد مسعود: إن كتابات الشعراء الفلسطينيين تساعد القضية الفلسطينية وتقدمها، سواء أُنشئت في السجون الإسرائيلية أو الأراضي الفلسطينية المحتلة. شعرهم عبارة عن رواية مضادة جريئة ومرنة تحتفي بالإيجابية، فهؤلاء الشعراء يتحدثون عن الوطن في كل الأوقات والظروف. إن مشاعر الفلسطينيين المحتجزين رهائن لدى الصهاينة مرتبطة بشكل مباشر بالهدف الذي يقاتلون من أجله.

ويتحدث عن تجربة تحويل المشاعر إلى نقاط قوة قائلا: يشترك جميع شعراء الأسر في تجربة الشعور بالمنفى والرغبة في الأم والمسقط والأحباء، وعلى الرغم من العقبات النفسية والجسدية والعقلية التي وضعتها القوات الغازية، فإن هذه المشاعر سمحت للشعراء بتجاوز حدود المكان والزمان.

ومن الشعر أيضا ما يمكن أن نسميه حنين الزنازين، فهو من أكثر أنواع الشعر انتشارا في أدب السجون الفلسطيني، إذ يستذكر السجين أيامه خارج السجن، ويحن إلى تفاصيل الحياة اليومية، وليس في ذلك عجز أو نحيب على الماضي، بل هو تنفيس وحلم بغد حر، مثلما قال الشاعر توفيق زيادة في قصيدته “سمر في السجن”:

يا شعبي يا عود الند
يا أغلى من روحي عندي
إنا باقون على العهد
لن نرض عذاب الزنزانة
وقيود الظلم وقضبانه
ونقاص الجوع وحرمانه
إلا لنفك وثاق القمر المصلوب
ونعيد إليك الحق المسلوب.

حجارة الخارج وأدب الداخل.. مقاومتان ترعبان الاحتلال

يقول الكاتب حسن عبد الله في دراسة “كلمات على جدار الليل” إن ما يكتبه المعتقلون الفلسطينيون، كسر طوق العزلة واخترق الحصار، فكانت نوافذ وجدانية ونضالية وأدبية بالنسبة لهم، و”ساهمت في إفشال المخطط الذي وضعه الاحتلال، والذي دعمه بالمعتقلات الكثيرة ومراكز التحقيق. هذا المخطط الذي تمثل في عزل المناضل الفلسطيني عن مجتمعه، وقطع التواصل”.

لم يكف المعتقلون الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية عن المقاومة بالكتابة إلى الآن، فالمعتقل القسامي عبد الله البرغوثي، كتب سيرته “مهندس على الطريق” على لفافات ورق بخط دقيق جدا وسرّبها خارج أسوار السجن، وفي العام 2021 ألقى أيهم الكممجي قصيدة أثناء جلسة محاكمته، وهو أحد المعتقلين الفلسطينيين الستة الذين فروا من سجن جلبوع، وقد قال في أحد مقاطعها:

زنزانتي متر بمتر طولها
ولعرضها زد نصف متر ثان

لكن عزائي أن لي في غزة
إخواننا وبأسرهم غربان

أصبحت سلطات المحتل تخشى مقاومتين، حجارة ما وراء السجن وأدب ما بداخله، وبدا العجز واضحا في دحر موجة الروايات والأشعار المهربة من خلف القضبان، التي أصبح فيها رصاص القلم والبندقية مستويين.