تأثير الصدمة.. هزائم وانتكاسات ألقت بظلالها على السينما الإسرائيلية

مقاتلون فلسطينيون يقتادون جنديا إسرائيليا أسيرا خلال عملية طوفان الأقصى

من المؤكد أن الصدمة الكبرى التي تلقتها إسرائيل في عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ستترك تأثيرا كبيرا على صُنّاع السينما والخيال المصور والأدب في إسرائيل عموما.

وقد ظلت السينما الإسرائيلية منذ تأسيس الكيان في 1948 تسير في اتجاهين متوازيين، هما أفلام الدعاية الصهيونية المباشرة، وأفلام التسلية الهروبية. كان التيار الأول يتغنى بمشروعية ما يسمى “الحلم الصهيوني”، مع الإشادة بالمنجز العسكري الحديث للآلة العسكرية الصهيونية وحروبها العدوانية، أما الاتجاه الثاني فكان يرمي إلى تحقيق الهروب من مواجهة الواقع المليء بالمتناقضات، واقع ثقافة الاستيلاء وقمع الآخر الفلسطيني وإنكاره، وتحويل الانتباه بعيدا عن التفكير فيما أنتجه الفكر الصهيوني.

وقد ظل الأمر على هذا النحو حتى وقعت الصدمة الكبرى عام 1973، عندما استطاع الجيشان المصري والسوري توجيه ضربة قوية لنظرية الأمن الإسرائيلية الراسخة، وهز عقيدة القوة التي لا تقهر، وليّ الذراع الطويلة للجيش الإسرائيلي، مع تحطيم الكثير من الأساطير في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973.

ما بعد حرب أكتوبر.. صدمة تُلقي بظلالها على السينما

ولا شك أن صدمة طوفان الأقصى سيكون لها وقع كبير على صناع السينما داخل إسرائيل، بل على مجمل وسائل التعبير الأدبي والفني، فهنا ربما للمرة الأولى لم تعد صورة الفلسطيني هي صورة الإنسان الضحية الخاضع المغلوب على أمره، الذي يصرخ مطالبا بحقوقه المشروعة، بل صورة المقاتل الشرس الذي يواجه القوة الإسرائيلية بشجاعة، ويوجه الضربات القاسية المفاجئة لأقوى آلة عسكرية في المنطقة.

يوم 31 مايو/أيار 1974 انتهت الحرب رسميا بالتوقيع على اتفاقية فك الاشتباك (ذاكرة مصر المعاصرة)

أما إذا عدنا إلى تأثير صدمة حرب أكتوبر 1973 على السينما الإسرائيلية، فيمكننا أن نرصد ظهور موجة من الأفلام بعد حرب 1973، وجهت للمرة الأولى نقدا على تنويعات مختلفة للمؤسسة الحاكمة في إسرائيل، وإلى الجيش الإسرائيلي نفسه الذي كان يتصور أنه “محصّن” ضد النقد بالضرورة.

وكان وراء هذه الموجة عدد من الشباب الذين خدموا في الجيش، وواجهوا ما وقع من صدمة أولا في 1973، ثم في غزو لبنان عام 1982، وكان المزاج السائد بعد وصول حزب الليكود اليميني إلى السلطة للمرة الأولى عام 1977 مناخا يشيع فيه التشوش واهتزاز القناعات لدى قطاعات كبيرة من الشباب الإسرائيلي.

وقد وصل ذلك التشوش أيضا إلى حد التشكيك في فكرة “الحلم الصهيوني” نفسه، وهو ما تبدى في موجة من الأفلام السياسية التي ظهرت في أواخر السبعينيات وخلال الثمانينيات، إذ تتناقض تماما مع أفلام الدعاية المباشرة.

“خزعة خزعة”.. جندي يروي قصة قرية شارك في خرابها

كان الفيلم الأول الذي يؤشر على ظهور السينما الصهيونية الجديدة هو فيلم “خربة خزعة” الذي أخرجه “رام لوفي”، وأنتجه التلفزيون الإسرائيلي عام 1978، وهو مأخوذ عن قصة شهيرة للكاتب الإسرائيلي “سميلانسكي يزهار”، كتبها عام 1949، وفيها يروي ما حدث لقرية عربية مسالمة تعرضت للدمار الكامل على أيدي الإسرائيليين في حرب 1948، وأُجبر ما بقي من سكانها على الفرار.

تقوم القصة على الوصف التفصيلي لما حدث خلال يوم واحد للقرية المنكوبة من وجهة نظر جندي إسرائيلي شارك في العملية يقوم بدور الراوي، لكن هناك دائما تدخلات من جانب قائد العملية الذي يرد على “النزعة الإنسانية” للراوي، وعندما يلاحظ قائد العملية في النهاية تحفظ الراوي وصمته، ويدرك أنه لا يوافق على الفظائع التي شارك في ارتكابها، يقول له:

استمع إلي هنا، سيأتي مهاجرون جدد، هل تسمع، سيأخذون هذه الأرض ويحرثونها، ستصبح عظيمة.

ثم ماذا؟

هذا كل ما هنالك، كيف لم أتوقع هذا، خربة خزعتنا، مشاكل التكيف والبناء على الأرض، سوف نتكيف ونبني، سنفتتح تعاونية وروضة أطفال ومدرسة، وربما حتى كنيسا، وستكون هناك أحزاب سياسية، وكثير من المناظرات والنقاشات حول كل شيء، سيحرثون الحقول ويبذرونها ويحصدونها ويكبرون. من سيصدق بأنه كان ثمة خربة اسمها خزعة هنا، قرية طردنا أهلها وورثناها، حضرنا وقتلنا وأحرقنا ونسفنا ودفعناهم بعيدا. ماذا بحق الشيطان نفعل هنا؟

وفي الفيلم يعقد المخرج “رام لوفي” مقارنة بين ما فعله الجنود الصهاينة في القرية الفلسطينية، وما ارتكبه الأمريكيون في فيتنام والفرنسيون في الجزائر، ويترجم المخرج النص -الذي ذكرنا آنفا- إلى تخيل من وجهة نظر جندي يشعر بالمرارة، لما سيحدث للقرية في المستقبل بعد تدمير هويتها وإحلال هوية جديدة “يهودية” محلها عند وصول المهاجرين اليهود إليها. لكن الفيلم مبني على أساس تصوير حالة أقرب إلى “الوجودية”، فما حدث في “خربة خزعة” جزء مما يحدث من تخريب إنساني في كل مكان.

برز في خضم هذه الموجة أيضا، اتجاه يرمي إلى التعامل مع “الآخر” الفلسطيني بوصفه مجرد “ضحية”، يتساوى في معاناته مع ضحية أخرى إنسانية النزعة على الجانب الصهيوني، وهو ما برز في الأفلام التي ظهرت بعد عام 1982، أي بعد الشرخ الذي أصاب المجتمع الإسرائيلي في أعقاب غزو لبنان، وارتفاع الوعي الفلسطيني برفض الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتأثير ذلك الغليان على قطاعات من الإسرائيليين الذين كانوا يميلون إلى تجاهل التفكير في القضية برمتها.

“الخماسين”.. عامل فلسطيني “مُعتدل” يخرق قانون سيده

كان أول فيلم يتناول الشخصية الفلسطينية بشكل مباشر هو فيلم “الخماسين” (1982) الذي أخرجه “دانييل فاكسمان”، وقد تبعته أفلام مثل “رفاق السفر” و”وراء القضبان” و”في يوم صحو تستطيع أن ترى دمشق”، و”جسر ضيق جدا”، و”ابتسامة الحمل”، و”أرض غير مستقرة”، و”نهائي كأس العالم”.

يصور “الخماسين” العلاقة بين “جيداليا” اليهودي الذي يمتلك مزرعة في إحدى قرى الجليل، وبين خالد العامل الفلسطيني الذي يقوم بكل “الأعمال القذرة” في المزرعة. ويتعامل “جيداليا” مع خالد معاملة ودية للغاية، فهو يدافع عنه أثناء هجوم بعض الشباب اليهودي المتطرف في القرية، ويشاركه القيام بالعمل بنفسه أحيانا في رعاية الماشية.

يرغب “جيداليا” في شراء قطعة أرض مجاورة تملكها أسرة فلسطينية عاشت دائما في وئام مع أسرة “جيداليا”، لكن عائل الأسرة العربية يتراجع عن بيع الأرض، تحت ضغوط ابنه الشاب ومجموعة من الشباب الفلسطيني في القرية، ثم يقع المحظور عندما تقيم “خافا” -أخت “جيداليا”- علاقة غرامية مع خالد، وحين يصل الأمر إلى “جيداليا” يقتل خالد قتلا وحشيا بإطلاق ثور ضخم من الحظيرة لكي يفتك به.

فيلم “الخماسين” أول فيلم إسرائيلي يظهر شخصية الفلسطيني خالد المزارع

نموذج خالد في الفيلم هو نموذج سوف يسود فيما بعد هذا النوع من الأفلام، فهو ضحية ظروف أقوى منه، يضطر أمامها للرضوخ وقبول العمل في مهنة شاقة، وهو شاب وسيم بدرجة تكفي لكي تجعله هدفا حسيا لليهودية الشابة التي درست الموسيقى في مجتمع تل أبيب العصري، وعادت بمفاهيم ليبرالية إلى القرية.

وهو أيضا واقع بين شِقَّي الرَّحى، فهو من ناحية، يقابل باللوم والتقريع العنيف من جانب أقرانه من الشباب الفلسطينيين في القرية، إذ ينظرون إليه بازدراء، بسبب قبوله العمل في مزرعة “جيداليا” اليهودي، ومن ناحية أخري يعاني من الإحساس بالذنب بسبب حماية “جيداليا” له على عكس زملائه الذين يتعرضون لاعتداءات اليهود المتطرفين، ومن ناحية ثالثة يشعر خالد بضآلة وضعه بالنسبة للفتاة التي أرادته أداة للمتعة الحسية، ويخشى في نفس الوقت من عواقب علاقته بها.

لكن الفيلم يجعل خالد نموذجا خاليا من الهوية، كل ما يشغله هو أن يعيش ويعمل في ظل الوضع السائد، وبذلك يتخذه نموذجا للفلسطيني “المعتدل” المطلوب، لتقديم قرابين التعاطف معه من جانب المتفرجين. أما “جيداليا” فهو يمثل اليهودي المعتدل الذي لا يستطيع أن يظل على اعتداله أمام خرق الآخر “الأدنى” للتقاليد التي تحكم العلاقة بين السيد والتابع. ويكمن الموقف الأساسي للفيلم في إلقاء اللوم على عاتق المتطرفين من كلا الطرفين، في استمرار ذلك الحاجز من سوء التفاهم وانعدام الثقة المتبادل.

“رفاق السفر”.. رغبة الخلاص توقع في فخ الخيانة “العربية”

في فيلم “رفاق السفر” (1978)، نرى شخصية “يوني”، وهو إسرائيلي عاش لفترة في ألمانيا، وهناك اقتنع بعدالة قضية الفلسطينيين، فجمع مبلغا من المال للمساعدة في إقامة جامعة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة.

يعود “يوني” إلى إسرائيل لكي يسلم المبلغ لجماعة فلسطينية، بعد أن ينتحل شخصية ألماني يدعي “هانز غولدمان”، لكنه يتراجع عن مسعاه حين يعرف أنه الجماعة الفلسطينية تراجعت عن نبذ العنف، وأنها تعتزم استخدام المال لشراء السلاح، ومع ذلك يصبح هدفا لمطاردة الشرطة الإسرائيلية، إذ تريد استخدامه للإيقاع بأصدقائه الفلسطينيين.

وحين تشتد وطأة المطاردة عليه، يسلّم “يوني” المال إلى زعيم الجماعة وليد، ويطلب منه عدم إبلاغ باقي أفراد الجماعة، ثم يقرر الهرب خارج البلاد والعودة من حيث أتى، لكن رجال المخابرات يلقون القبض عليه في المطار، ويستجوبونه تحت التعذيب حول علاقته بالمجموعة الفلسطينية وعن مكان المال، ثم يطلقون سراحه بعد الاحتفاظ بجواز سفره، ويعِده الضابط بإرجاع الجواز له بشرط أن يساعدهم في القبض على أفراد المجموعة الفلسطينية، ويطلب منه تسليم المال إلى الفلسطينيين والتظاهر بأنه وافق على التعاون معهم.

يعد الفيلم نموذجا لمأزق صناع هذا النوع من الأفلام في السينما الإسرائيلية، فهو يعبر عن التشتت والحيرة والرغبة في الخلاص من المأزق السياسي والاجتماعي، والتكفير عنه عن طريق إبراز الطرف الآخر (الفلسطيني) وتصوير معاناته وتمزقه.

ففي الفيلم مشاهد للغارات التي تشنها الشرطة الإسرائيلية على العمال العرب القادمين من “المناطق المحتلة” وضربهم ثم ترحيلهم، ومشاهد أخرى لمجموعة من المسلحين اليهود يطاردون العرب ويقطعون الطريق عليهم ليلا، ويصور اضطهاد السلطات للمدرس الفلسطيني الجامعي وعقابه بطرده من العمل، ثم نشر خبر كاذب في الصحف عن عودته إلى العمل، ثم قيام اثنين من عملاء الشرطة بقتله في عرض الطريق.

أما الاهتمام الرئيسي للفيلم فهو الموقف الإيجابي لبطل الفيلم “يوني”، فهو اليهودي الليبرالي الذي لم يكتفِ بإبداء تعاطفه مع الفلسطينيين فحسب، بل بدأ يجمع الأموال لهم من خلال عمله في أوروبا، وهو يتصدى للمتطرفين منهم بالمنطق والحجة، مشيرا إلى ضرورة الرضوخ لصوت العقل، وإدراك خطورة الواقع، ويظل وفيا حتى النهاية لأصدقائه الفلسطينيين، مع ما يتعرض له من تعذيب وإهانات.

ثم يحاول تضليل الشرطة السرية، ويحذر جميلة من خطورة الموقف، ويترك المال في يديها، لكنه يقع في النهاية فريسة للخيانة “العربية”، عندما نعرف أن الفتاة ضبطت المسدس الذي أعطته إياه، بحيث لا يستطيع الدفاع عن نفسه، فيفقد حياته.

ولا يمكن القول إن هناك أي درجة من درجات التعاطف بين صانع الفيلم وبطله، فبناء شخصية البطل على ذلك النحو، يكشف عن الرغبة في التعبير الدرامي عن مأزق المثقف الليبرالي في إسرائيل بعد الصدمة التي وقعت بفعل تداعيات الحرب في لبنان.

“وراء القضبان”.. صراع تشعله الإدارة بين السجناء اليهود والعرب

يتناول فيلم “وراء القضبان” (1986) الصراع داخل إسرائيل بين الفلسطينيين والإسرائيليين من جهة، وبين اليهود الغربيين (الأشكينازيين) واليهود الشرقيين (السفارديين) من جهة أخرى.

يستخدم السيناريو دراما السجن المعروفة إطارا لطرح موضوعه، فالأحداث كلها تدور داخل سجن يجمع النزلاء من المجرمين اليهود (معظمهم من السفارديين)، والفلسطينيين الذين سجنوا بسبب نشاطهم السياسي، ويصور الفيلم أجواء التشكك والكراهية وانعدام الثقة بين الطرفين، والصراع بينهم وبين إدارة السجن.

أما الإدارة فهي رمز للسلطة التي تستغل التناقضات بين الطرفين، ويقوم مدير السجن بتدبير مقتل سجين يهودي كان يعمل مرشدا للإدارة ثم استنفذ الغرض منه، لكنه يلقي شبهة القتل على الفلسطينيين، ويستغل غضب السجناء اليهود ضد زملائهم الفلسطينيين، ويكاد الحادث أن يؤدي إلى مذبحة، لكن الإدارة تتدخل مرة أخرى، وتسيطر على الموقف، وتنزل عقابها بالطرفين.

يمارس مدير السجن الضغط النفسي الشديد على سجين يهودي ضعيف كان قد تعرض لاعتداءات جنسية من طرف زملائه، ويهدده بإعادته إلى الزنزانة مع نفس الذين اعتدوا عليه، إذا لم يوافق على أن يشهد ضد عصام زعيم جماعة الفلسطينيين، فالمدير يريد اتهامهم بقتل السجين اليهودي، لكنه يرفض، ويفضل الانتحار في زنزانته الفردية.

وعندما يعثر السجناء اليهود على جثته وفيها رسالة بخط يده تشرح حقيقة ما حدث، يبدأ الحاجز الكثيف بين العرب واليهود في الذوبان، ثم ينظم الطرفان إضرابا مشتركا عن الطعام من أجل تغيير الإدارة، أي السلطة.

الفلسطيني “الضحية”.. حالة نمطية صنعها السينمائي الإسرائيلي

في هذه الموجة من الأفلام الإسرائيلية، أصبح الفلسطيني “الضحية” نمطا مبسطا خاضعا للصورة المسبقة التي يخلقها الإسرائيلي عن “الآخر”، وليس إنسانا ينتمي لشعب وتراث وثقافة وتاريخ وماض وحاضر وقضية.

نحن أمام حالة نمطية جامدة صنعتها رغبة السينمائي في التكفير عن ذنب لا يدرك على وجه التحديد أسبابه العميقة، أو يحاول التغافل عنه باستمرار أو خداع ذاته بشأنه أو تبريره، ويقدم الفلسطيني الضحية تارة في صورة مناضل سابق وصل إلى اليأس (عصام في فيلم “وراء القضبان”)، أو في صورة ضحية للتعصب من كلا الجانبين (خالد في “الخماسين”).

وهو الذي يتيح الفرصة لوجود النمط الصهيوني الجديد الذي يتيح الحديث عن “التعايش المشترك”، والرغبة في الإصلاح الاجتماعي، إذا ما تغيرت “الإدارة” (أو الحزب الحاكم- لا فرق).