“نساء شفشاون”.. بين التراث الأندلسي والشرقي

“تتلمذت على يد رئيسة مجموعة فن الحضرة رحّوم البقالي”. بهذه الجملة افتتحت هالة بن سعيد مؤسسة ورئيسة مجموعة الحضرة الشفشاونية للموسيقى الروحية المغربية كلماتها في فيلم يحمل اسم “حضرة نساء شفشاون”، ضمن سلسلة “نغمات وردية” التي أنتجتها قناة الجزيرة الوثائقية.

أخذت هالة بن سعيد فن الحضرة وفقا لقواعده، وتشبعت بأسلوب معلمتها رحوم البقالي، وبعد ذلك درست مدة ثماني سنوات بالمعهد الموسيقي في تخصص الموسيقى الأندلسية، وهناك تشربت حب هذا النمط الموسيقي، ثم انطلقت في سمائه.

حفل فني لفرقة “حضرة نساء شفشاون” في مدينة الدار البيضاء 2020

تقول هالة: اكتشفت أنني أستطيع تقديم الكثير في فن الحضرة الشفشاونية، خاصة أنني أجيد العزف على آلة العود، ولم تكن مستعملة قبل ذلك في أداء الحضرات من قبل، لذلك قررت أن أؤسس فرقة موسيقية نسائية خاصة بي، تحمل طابع وروح الشباب.

للا ربيعة البقالي.. في أكناف آخر من بقي من جيل الرواد

كان من الضروري لمؤسسة الفرقة هالة بن سعيد -قبل مرحلة التأسيس- أن تقوم بالبحث والنبش في التراث الشفشاوني، والرجوع إلى الرواد الذين ما زالوا على قيد الحياة، لكي تتعرف على قصة الحضرة وتاريخها وعمقها في الأشعار والألحان، حتى تتمكن من البناء السليم للفرقة على أسس متينة، وفي نفس الوقت للحصول على المراجع الصحيحة من رواد هذا الفن.

مجموعة حضرة نساء شفشاون للموسيقى الروحية المغربية هي فرقة نسوية من مدينة شفشاون

من هؤلاء الرواد الذين رجعت إليهم المؤسسة الشريفة للَّا ربيعة البقالي، وهي امرأة كفيفة طاعنة في السن، ولكنها ما زالت تحفظ الأشعار والألحان الصحيحة للحضرة الشفشاونية، وتعد الوحيدة الباقية في المنطقة من جيل الرواد الحافظين لفن الحضرة الشفشاونية.

قالت لها ربيعة إنهن كنّ قديما يُقمن الحضرة في المولد النبوي، أما في أسبوع المولد فلم يكن يُقمن الأذكار، بل كن يؤدين فقط الأناشيد لأجل النشاط والاحتفال. وتقول ربيعة: الحضرة النسائية قديما لم تكن أبدا أمام الرجال، بل كنا نؤديها في قسم النساء فقط، بينما الرجال كانوا يؤدون حضرتهم بعيدا عنا.

هالة بن سعيد في مقابلة مع “ربيعة البقالي” واحدة من رواد الحضرات النسائية الأوائل في شفشاون

وكانت الأشعار والألحان التي تؤديها النساء هي نفسها التي يؤديها الرجال في حضرتهم، مثل “قد دعوت لله” و “يا سيدي عندي طبيب” و “صلى الله عليه وسلم وآله” و”حامدا شاكرا”.

وكانت هنالك بعض الأذكار التي تقولها النساء ولا يقولها الرجال، مثل قصيدة “الرحيم الله”، وكان من عادتهن أن يختمن بها، ويصلين على النبي ﷺ، ثم يغادرن.

تأسيس الفرقة.. فن تراثي يولد من رحم المشاغل

بدأت هالة بن سعيد تأسيس الفرقة من فتيات الحي القريبات منها، ولكن المشكلة التي واجهتهن في البداية هي موافقة الأهل على الاشتراك بالتدريبات، واستنفاد الوقت خارج البيت. وكن يتغلبن عليها بمساعدة أمهات بعضهن في إقناع بقية الأمهات والآباء، وهكذا استطاعت تشكيل أول نواة يمكن البدء بتدريبها.

هالة بن سعيد مؤسسة فرقة حضرة نساء شفشاون للموسيقى الروحية المغربية

وكانت هالة تحرص على أن يكون وقت التدريب يناسب جميع العضوات، فلا يكون برنامجها في وقت الدراسة ولا في وقت العمل، لأن بعضهن طالبات جامعيات وبعضهن عاملات ولديهن التزامات أخرى، ولدى عدد منهن انشغالات وظروف، فكان لا بد من التضحية بشكل أو بآخر بجانب ما على حساب جانب آخر.

إحدى العضوات -واسمها يسرى شهواد- هي أستاذة لآلة القانون وعازفة عليها في الفرقة، وكان لاشتراكها في الفرقة إضافة نوعية، فلم يعتد الناس في الحضرات على سماع صوت آلة القانون، وهذا نوع من التجديد والدمج ما بين هو تراثي معتاد، وبين ما هو أدائي لآلات موسيقية شرقية غريبة على هذا الفن.

“يسرى شهواد” أستاذة آلة القانون والعازفة عليه في فرقة نساء شفشاون للموسيقى الروحية المغربية

تقول يسرى شهواد: أجد روحانية وطبعا خاصا في الحضرة الشفشاونية، لأنها تمتاز بصبغة صوفية ربانية تميل للتراث الأصيل، وأرتاح في عزف أغاني الحضرة أكثر من أي نمط آخر.

آلة القانون والعود.. مزيج بين الموروث والآلات الشرقية

تعد آلة القانون آلة جديدة على الحضرة الشفشاونية ومستمعيها الذين يستمتعون بأنغام آلة القانون في الحضرة، حتى أن المستمع يحاول أن يستمع لآلة القانون وما أضافته على الحضرة، وتحاول الفرقة أيضا الاشتغال على تقنيات جديدة، مثل المزج بين الموسيقى الشرقية والتراثية، فتزاوج بين مقام رمل الماية الأندلسي ومقام البياتي الشرقي.

تتوشخ فتيات فرقة نساء شفشاون بمزيج من القفطان المحلي وغطاء الرأس المزين بـ”الطاكون” الشعبي

كما هو حال القانون، لم تكن آلة العود مستخدمة قبل ذلك في الحضرات، وهي تعتبر من الآلات الموسيقية الشرقية التي لم تستعمل قط في أداء الحضرات الصوفية. وهذا ما أوجد نوعا من المزج بين ما هو تراثي وشرقي، وما بين هو صوفي وغنائي، مثل استعمال آلة القانون في مصاحبة الموشحات والموال مثلا.

تقول عازفة القانون يسرى شهواد: نحن في الحضرة الشفشاونية نتماشى مع ما هو تراثي، وفي نفس الوقت نضيف إليه التجديد الذي أضافته الفنانة هالة بن سعيد، وهذا شيء جميل لنا كفرقة، وأنا أفتخر بكوني عازفة فيها.

كما قامت الفرقة بإدراج استعمال آلات إيقاعية مثل الدف الإيراني، لإضافة لمسة روحية مغربية على الحضرة.

منصة الاحتراف.. معلم بارز على مستوى الحضرات بالمملكة

بدأت الفرقة بالتدرب، وبدأ عدد العضوات يزداد حتى وصل عددهن إلى عشر عضوات، والرابط المشترك بينهن جميعا أنهن من نفس المدينة الصغيرة الواقعة في أقصى شمال المغرب بجهة طنجة، وبدأن في تنفيذ الحضرات والسهرات، وصارت الفرقة مصدرا للدخل، ومنهن من كانت المعيلة الوحيدة لأسرتها.

فرقة نساء شفشاون للموسيقى الروحية المغربية تحيي الحفلات والمهرجانات المحلية والوطني

وقد اختارت الفرقة زيا موحدا، وهو أيضا مزيج من القفطان المحلي الشهير الذي يشبه الزي التراثي الأصيل، وغطاء الرأس المزين بإكسسوار “الطاكون” الشعبي، مما زاد في شكل واحترافية الأداء.

ثم ذاع صيت الفرقة أكثر فأكثر، حتى أصبحت معلما بارزا للحضرات الشفشاونية على مستوى دولة المغرب بأكملها. ثم بدأت بالمشاركة بالمهرجانات التراثية التي ترعاها المنظمات الدولية، مثل منظمة “اليونسكو” ومنظمة “الإيسيسكو”، وكذلك المشاركة في المهرجانات الدولية الخارجية.

تقول هالة بن سعيد: أصبحت الفرقة تحظى بمكانة مميزة في مدينة شفشاون وخارجها على المستوى الوطني والدولي، فهي دائما حاضرة في المهرجانات والملتقيات الوطنية، حتى أن أولئك الشباب الذين لم يكونوا يعرفون ما هي الحضرة الشفشاونية صاروا يهتمون بها، خاصة أنها صارت تقدم بطريقة شبابية وبوجوه شابة.