“سيمفونية أمريكية”.. أفراح وأتراح في حياة عازف أسود هزم العنصرية بالموسيقى

“كل إنسان سيذهب، وكل شيء في حياتنا يمكن أن ينتهي في لحظة”. هذا ما يردده بطل فيلمنا هذا الموسيقار الأمريكي الأسود “جون باتيست” في إحدى لحظات التجلي العقلي، وكأنه يرثي العالم، ويرثي الفن.

ليس هذا موقفا عبثيا من الحياة على غرار المواقف الفلسفية عند المخرج الأمريكي الشهير “وودي آلن”، فصاحبه مُقبل على الحياة، يبدع الموسيقى، ويجد فيها السلوى والعزاء عن كل ما أصاب العالم من شرور، كما أنه يرى الإبداع الموسيقي نوعا من التأمل الديني القريب من التصوف في العلاقة بين الإنسان والله والكون.

“جون باتيست” هو الشخصية الرئيسية التي يدور حولها الفيلم الوثائقي البديع الطويل “السيمفونية الموسيقية” (American Symphony) الذي أخرجه المخرج الأمريكي الموهوب “ماتيو هاينمان” (2023)، وكنا قد تناولنا بعض أفلامه على موقع الوثائقية، مثل “أرض الكارتل” (Cartel Land) و”مدينة الأشباح” (City of Ghosts).

“جون باتيست”.. فن ملون الثقافات يحصد الجوائز الكبرى

حقق “جون باتيست” ما لم يحققه شاب من السود الأمريكيين من قبله، فقد حصل على أربع من جوائز “غرامي” دفعة واحدة في 2021، ثم تُوج فوزه بحصوله على جائزة أفضل ألبوم موسيقي في العام، وكان قد رُشح لعشرين جائزة في تلك المسابقة، وهو صاحب أول سيمفونية أمريكية تجمع بين الأساليب الموسيقية المستمدة من ثقافة الأجناس الملونة في الولايات المتحدة من السكان الأصليين وذوي الأصول الأفريقية والصينيين والمكسيكيين وغيرهم.

“جون باتيست” هو ملحن وكاتب أغانٍ ومغنٍّ وعازف ومؤلف موسيقى خالصة، ويكتب أيضا موسيقى للأفلام، وهو أحد المهتمين بالنشاط الخيري الإنساني. بدأ بداية متواضعة في أسرة فقيرة، ثم شق طريقه بالصبر والدأب وصقل الموهبة، لكي يصل إلى قمة الشهرة والنجومية والنجاح بعد أن فاز أيضا بجائزة الأوسكار و”الغولدن غلوب” (الكرة الذهبية) وجوائز “بافتا” البريطانية.

بالإضافة إلى تتويجه ملكا للموسيقى الأمريكية، بعد فوزه بجائزة “إيمي” لأفضل ألبوم موسيقي عام 2021. وكان قد بدأ العزف مبكرا وهو ابن ثماني سنين، ثم درس وتعلم سنوات عدة، إلى أن حقق ما حققه من نجاح.

تحدي العنصرية.. شاب أسود يجد الخلاص في الإبداع الموسيقي

يدور الفيلم حول موهبة هذا الموسيقار الشاب الموهوب “جون باتيست”، فنراه خلال تأليفه لمقاطع السيمفونية الأمريكية التي يحلم بتقديمها في أول تجربة من نوعها، ونشاهده أثناء التدريبات التي يجريها مع بعض أعضاء الفرقة الموسيقية باستخدام آلات غريبة تماما على الموسيقى الكلاسيكية، فقد أراد هو أن يمزج بين موسيقى البوب -ولا سيما “الجاز”- وبين الموسيقى الكلاسيكية.

لكن أهم ما يميز “جون باتيست” هو إيمانه العميق بأن الإبداع الموسيقي يخلّص المرء من الشعور بالوحدة في عالمنا، ويرتفع به إلى درجة من التسامي، ويحافظ على توازنه النفسي، ويجعله صلة تواصل مع العالم، ويرصد الفيلم ذلك بدقة في سياق شعري بديع.

جون باتيست في لحظات التحرر من الألم

وتعكس تجربة “باتيست” التي نتعرف عليها في الفيلم نوعا من التحدي أيضا، لكونه شابا أسود يتطلع إلى التفوق في بلد يعاني من العنصرية المترسبة، وهيمنة البيض على شركات الإنتاج الموسيقي.

عودة السرطان.. صدمة تمزّق توأم الروح منذ المراهقة

يعرض الفيلم صورا ومحاورات ويلتقط مشاهد حميمية تدور في منزل “باتيست”، فنراه وهو يدفن رأسه تحت الوسادة ويتكلم في الهاتف، لكي يخفي مشاعره المضطربة بسبب مرض حبيبته “سولايكا جواد”، سنشهد أيضا زواجه منها في الفيلم، وكانا قد التقيا أول مرة وهما ما يزالان في عمر المراهقة، وتزاملا في مدرسة الموسيقى، وكانت هي عازفة ماهرة أيضا، لكنها شقت طريقها في الصحافة والكتابة الأدبية، وهي مؤلفة كتاب “بين مملكتين” (2021) الذي تروي فيه قصة حياتها، وتشرح نظريتها للعالم.

العلاقة بين “باتيست” و”سولايكا” هي علاقة تواؤم روحي، وحب يصل إلى أقصى درجات التضحية، ويمر أيضا بلحظات من العذاب، ففي اليوم الذي يسبق الحفل الكبير الذي سيقدم فيه “باتيست” سيمفونيته الأمريكية، يعلم أن مرض سرطان الدم (اللوكيميا) قد ارتد وعاد إلى زوجته ورفيقة عمره “سولايكا”، بعد أن كانت قد عولجت منه قبل عشر سنوات.

ما يصيبه من تمزق وتوتر نفسي نتيجة هذه الصدمة يجعله يبدأ العزف على المسرح أمام الجمهور الغفير، يبدأ أولا بإهداء السيمفونية إلى “سولايكا”، ثم يتوقف ويغمض عينيه، ثم يصمت فترة طويلة، وعندما تداعب أصابعه مفاتيح البيانو أخيرا، يبدو كأنه يحول الموسيقى إلى أداة تعبير عما يشعر به من ألم شخصي.

اللحظات التلقائية التي تجمع الزوجين باتيست وسولايكا

ولا بد أن يحيلنا هذا المشهد إلى مشهد سابق عندما كان “باتيست” يتدرب تحت إشراف رجل متخصص، كان يوقفه ويطالبه بضرورة التنفس، وأن يشعر بالموسيقى، ويستوحي من روحه محذرا إياه من أنه إن لم يتنفس مع الموسيقى وإيقاعاتها، فسوف يصبح مثل من يدق على الحروف في جهاز الحاسوب.

صدق المشاعر.. حميمية عفوية تلتقطها عدسات الفيلم

مثلما أن الفيلم يدور حول علاقة الحب التي تجمع بين “باتيست” منذ طفولته بالموسيقى، فهو أيضا عن قصة الحب العظيمة التي تجمعه مع مبدعة أخرى هي “سولايكا جواد” ذات الأب التونسي والأم السويسرية، عن فرحة النجاح وألم المرض، الارتباط العظيم بالحياة من خلال الإبداع، والإحساس الكامن بأن كل شيء قد يتوقف وينتهي في أي لحظة، طبقا لصيرورة الحياة.

إن ما يميز هذا الفيلم في كل لقطة من لقطاته هو الصدق في التعبير من جانب البطلين “باتيست” و”سولايكا”، فهما يتركان نفسيهما أمام كاميرا المخرج “هاينمان” حتى في أشد اللحظات إثارة للألم داخل المستشفى، حينما يخبر الطبيب المعالج “سولايكا” وهي تتأهب لإجراء جراحة لزرع نخاع العظم، أنها ستخضع لتعاطي العلاج الكيميائي بعد ذلك مدى الحياة.

لكنه يستدرك قائلا إن الأمر يرجع إليها، وأن من حقها أن تغير رأيها في أي وقت تشاء، كما أنه يمكن أن يغير رأيه أيضا، وهو القول الذي يؤكد عدم يقينية الحقيقة في حياتنا، وأن كل شيء قابل للتغيير في ضوء التطور الطبيعي.

ليلة المسرح.. حين انقطع الكهرباء وصدحت الموسيقى

يتابع الفيلم عاما من حياة الزوجين، من 2021 وحتى 2022، وقت انتشار وباء كورونا وما بعده مباشرة، ويعود في لقطات كثيرة إلى الماضي في حياة “جون” و”سولايكا”، ويقفز على الحاضر، ويتابع الطموح الكبير الكامن وراء تأليف أول سيمفونية تجمع بين مختلف الآلات والأساليب والثقافات الموسيقية لأبناء القارة الأمريكية، بهدف واضح هو إثبات أن الموسيقى السيمفونية ليست حكرا على البيض الأوروبيين، بل يمكن أن تصبح وسيلة تعبير ساحرة في أيدي أبناء الأقليات الملونة في تلك القارة.

يصل الفيلم إلى ذروته في مشهد تقديم السيمفونية أخيرا، مع ما يشعر به “باتيست” من عذاب شخصي على منصة مسرح “كارنيجي هول” في نيويورك، وهي من أكبر وأعرق قاعات الموسيقى في العالم، وتتسع لأكثر من 3600 شخص.

ولكن المفارقة أنه بعد أن يبدأ العرض الموسيقي الكبير ينقطع التيار الكهربائي فجأة، ويتوقف الجميع وهم يحبسون أنفاسهم، لكن “باتيست” ينقذ اللحظة، فيبدأ العزف المنفرد على البيانو، ليجعل الجمهور يندمج مع الموسيقى بكل عنفوان وقوة، ثم يستأنف العازفون أدوارهم بعد عودة التيار الكهربائي.

هنا تنتقل الكاميرات التي بلغ عددها 13 كاميرا بين العازفين وفريق الغناء و”جون باتيست” والجمهور، وتدور في حركات دائرية تصل إلى السريالية في تصوير العلاقة بين الصور والموسيقى، لكي يمنحنا الفيلم شعورا بالحالة الروحانية التي يعيشها الجميع من خلال الفن والتجاوب الفطري التلقائي مع الموسيقى.

هل كان انقطاع التيار الكهربائي من سوء الطالع أيضا؟ ولكن أليست الحياة مزيجا من لحظات الفرح ولحظات الشقاء؟

تجاوز الصعاب بالبحث عن السعادة.. شمعة الأمل

أعربت منتجة الفيلم “لورين دومينو” عن سعادتها بتحمس الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” وزوجته “ميشال” اللذين ساهما في إنتاج الفيلم، لا سيما بعد أن علما بمحنة “سولايكا” المرضية، كما أرادا أن يلعب الفيلم أيضا دورا في مناشدة الأمريكيين السود للتبرع من أجل نقل نخاع العظم.

تقول “دومينو” إنها كانت تشعر بالتعاسة بعد تجربة العمل في فيلمها السابق، وفكرت في الاعتزال، لكن فيلم “السيمفونية الأمريكية” أعاد لها الأمل، ثم توصلت إلى أن الوسيلة الوحيدة التي تجعلنا نتجاوز الأوقات الصعبة هي أن نبحث عن الشعور بالسعادة.

ما يؤكده هذا الفيلم بوضوح هو أن الموسيقى الخالية من الإحساس الروحي لا قيمة لها، وأن المهم أن يشعر الفنان شعورا داخليا بما يقدمه، وأن يمنحه من روحه وذاته، ويتعامل معه بوجدانه، مستدعيا من حياته وتجربته الشخصية في الحياة، ومن دون المرور بالمعاناة لا يكون للحياة معنى.

يعيد فيلم “السيمفونية الأمريكية” الاعتبار إلى نوع الفيلم الوثائقي الموسيقي الحافل بالموسيقى النابعة من التجربة الإنسانية، ومع ما يشوبه من قتامة في بعض اللحظات عندما يتوقف أمام معاناة “سولايكا” في مرضها، فإنه ينتهي ببث روح الأمل لدى الجميع، العازفين والمغنين والجمهور.

أما ما سيحدث للثنائي “جون” و”سولايكا”، فالمستقبل مفتوح والأمل قائم، والإبداع الفني يفتح دائما أبواب للأمل.