السينما البولندية.. انتصار يتوّج رحلة طويلة من الصراع مع الغزاة والساسة

في أواخر القرن التاسع عشر، أنار الأخوان الفرنسيان “أوغيست” و”لويس لوميير” العالم، بعد أن نظما في مارس/ آذار 1895 لأول مرة عرضا بصريا على شاشة كبيرة لفيلم “عمال يغادرون مصنع لوميير” (Workers Leaving the Lumière Factory)، وكانت فتحة كاميرا الأخوين الفرنسيين قد أنجبت من رحمها فنّا جديدا سمي بالفن السابع أو السينما.

لقّب “أوغيست ولويس لوميير” بأبوي السينما، لكن في الوقت الذي احتفى به الأخوان بالعرض السينمائي الأول في التاريخ حسب المتداول، كان البولندي “كازيميرز بروسزينسكي” الذي لم يتجاوز العقد الثاني من العمر، قد أنهى دراسته في كلية الفنون التطبيقية في لييج، وعاد إلى وارسو بشهادته، ثم بدأ في صناعة جهازه السينمائي.

أنهى “بروسزينسكي” العمل عليه في العام 1895، قبل أن يختبر الأخوان “لوميير” اختراعهم، وأطلق عليه اسم “بيلوغراف”، لكن مع ذلك لم ينتزع “بروسزينسكي” التقدير الكافي من مؤلفي الأفلام ومؤرخي السينما، فصحيح أن الـ”بليوغراف” لم يكن مثاليا، لكن “بروسزينسكي” بدأ في إنتاج أفلامه الأولى باستخدام اختراعه الخاص، ولم تحفظ الذاكرة السينمائية تلك الأفلام، وتناسى التاريخ دور بولندا في خروج الفن السابع إلى النور.

السينما البولندية.. انعكاس لتاريخ بولندا المُعقد

لم تكن تعرف بولندا حدودها النهائية التي تضيق في كل مرة، لا سيما بعد التقسيمات الثلاث عام 1772 و1793 و1795، وتفتت خريطتها بين روسيا والنمسا وروسيا إلى غاية نهاية الحرب العالمية الأولى تقريبا، ثم تقلصت في خريطة أوروبا من جديد، حين دخلتها القوات النازية خلال الحرب العالمية الثانية، ثم ضمها بالكامل الاتحاد السوفياتي بعد نهاية الحرب.

يقول الكاتب “ماريك هالتوف” في كتابه “السينما البولندية، التاريخ”: يجب على أي كاتب يتعامل مع تطور السينما البولندية أن يأخذ في الاعتبار مدى تعقيد تاريخ بولندا، فقد حددت المواقف السياسية المتغيرة عادة تطور السينما المحلية، وهكذا تعكس الأفلام البولندية تاريخ الأرض التي أدت فيها موجات التمرد القومية إلى هزيمة عسكرية، ووجود قوات الاحتلال، وقمع الثقافة البولندية.

من الممكن التمييز بين الأفلام التي أنتجت في الأراضي البولندية أثناء غياب الدولة البولندية قبل عام 1918، وبين السينما في بولندا في فترة ما بين الحربين العالميتين، وبين السينما في بولندا الشيوعية (1945-1989)، والأفلام التي أنتجت بعد 1989، بما في ذلك ما حدث عام 1939 بين روسيا السوفياتية وألمانيا النازية.

حددت طبيعة القومية البولندية موقفها المؤيد للكاثوليكية ومناهضة الاستبداد، ورؤيتها الرومانسية إلى حد كبير للتاريخ، وبسبب عبء هذا التاريخ، كان على السينما البولندية وغيرها من الفنون في كثير من الأحيان أداء واجبات سياسية وثقافية واجتماعية محددة بدون دولة، ودون لغة رسمية.

قبل عام 1918، كانت الأراضي البولندية على أطراف القوى الأوروبية الثلاث. ظل اقتصادهم فقيرا ومتخلفا، وكان سكانها يعانون من ارتفاع معدل الأمية، ولا سيما في القطاعات التي يسيطر عليها الروس، ولذلك كانت السينما هي التي لعبت دورا تعليميا لعدد من الناس، لأن هذا الشكل الفني كان يتحدث إلى المتعلمين والأميين.

بدايات السينما.. تاريخ عبثت به السياسة والحرب

يرى الكاتب “هالتوف” أن التاريخ البولندي قدم وفرة من المواضيع للشاشة، وبدا أن الجمهور المحلي يفضل دائما الأفلام التي تروي التاريخ المحلي وتشير إلى الثقافة المحلية، ونتيجة لذلك، انشغل عدد كبير من صانعي الأفلام البولنديين بالقضايا المحلية التي كان صعبا في بعض الأحيان على الغرباء فهمها.

يقول “هالتوف”: خلال الفترة الشيوعية، كان يُنظر إلى الأفلام البولندية في الغرب غالبا على أنها أعمال تصوّر الرؤية السياسية الشيوعية، لذلك يتجاهل النقاد الغربيون ذوو التوجهات السياسية المناهضة للشيوعية، وكذلك النقاد البولنديون، قيمة تلك الأفلام التي أنتجت في تلك الفترة، بوصفها أعمالا فنية.

تتحدث الكاتبة المتخصصة بالسينما البولندية المبكرة “مالغورزاتا هندريكوسك” في كتابها “على خطى تلك الظلال” عن أصول السينما البولندية، وتصف تتبع بدايات الفن السابع في بولندا بالمهمة الاستقصائية الشاقة، وهو رأي تتقاسمه مع الكاتب “ماريك هالتوف”، إذ يقول إن الكتابة عن السينما البولندية قبل العام 1939 مهمة صعبة، لأن معظم الأفلام المبكرة قد فُقدت، ودُمر عدد من الأفلام والوثائق المتعلقة بالإنتاج السينمائي في بولندا قبل الحرب العالمية الثانية.

وما يجعل تلك المهمة شاقة حقا هو غياب المصادر الأولى لمعرفة بدايات السينما البولندية، فيضطر الباحثون إلى إعادة بناء صورة السينما في بولندا قبل العام 1939، من خلال أجزاء من مقالات وأفلام ومراجعات وصور ثابتة وملصقات دعائية للأفلام، كانت قد نجت بأعجوبة.

كلاسيكيات “لوميير”.. عروض تجذب الجمهور البولندي

استقبلت الدول الأوروبية الثورة الصناعية منتصف القرن التاسع عشر، في حين كانت بولندا دولة فقيرة ترزح تحت احتلال ثلاث دول فترةً تقارب قرنا من الزمن، لكن في المقابل، كان عدد السكان ينمو في تلك الدولة، ومهّد ذلك النمو إلى ظهور حركات التحرر بها.

تقول الباحثة “جوانا بريسنر” في كتابها “تاريخ السينما البولندية.. منذ البدايات إلى المدرسة البولندية”: كان عدد البولنديين المقبلين على تعلم القراءة والكتابة في تزايد مستمر، وكانت الإنجازات التقنية تصل إليهم، وبدأ عدد كبير منهم أيضا في البحث عن الثقافة والترفيه.

في العام 1895، قام الأخوان “أوغيست” و”لويس لوميير” -وهما صاحبا مصنع لإنتاج لوحات التصوير الفوتوغرافي في ليون- بتقديم اختراعهم في باريس، وجعلوا “الصور الحية” شائعة في أوروبا، لكن السينما وصلت إلى بولندا بفضل “توماس إديسون”، فقد أقام عرضا في 18 تموز/ يوليو 1896 في وارسو.

في ذلك الوقت، عُرض عدد من الأفلام القصيرة التي صورها زملاء “إديسون”، لكن المشاهدين البولنديين لم يكونوا سعداء بها، فقد كانت الصورة تومض وتهتز، وفي النهاية كان اختراع الأخوين “لوميير” هو الذي لقي القبول في بولندا، كان التصوير السينمائي أكثر كمالا.

وتذكر المراجع السينمائية أن أول تقديم لفيلم سينمائي في بولندا كان في “كراكوف” في 14 من نوفمبر/ تشرين الثاني 1896، فقد شاهد البولنديون حينها مجموعة من الأفلام الكلاسيكية، مثل “إفطار الطفل” (Baby’s Breakfast) و”وصول القطار إلى المحطة” (Arrival of a Train at a Station) و”العمال يغادرون مصنع لوميير” (Workers Leaving the Lumière Factory)، وقد نجحت تلك العروض حتى أصبح التصوير السينمائي شائعا جدا في بولندا بحلول نهاية القرن التاسع عشر.

إنتاج الأفلام.. مخترعون مفتونون بإمكانيات آلة التصوير

تاريخيا، غُيّب دور البولنديين في تطوير صناعة السينما، إذ تقول الكاتبة “جوانا بريسنر”: جدير بنا أن نتذكر أسماء مثل “بيوتر ليبيدزينسكي” و”يان شتشيبانيك”.

كان “ليبيدزينسكي” مصورا فوتوغرافيا، حاول مع الأخوين “جان” و”جوزيف بوبلافسكي” اختراع كاميرا وجهاز عرض أفلام، ومن المحتمل أنه قد صنع أفلامه الأولى في وقت مبكر من العام 1895، لكن هذه الأفلام لم تنج من الضياع أو التلف، ومن الواضح أنها كانت ذات نوعية جيدة جدا، لكنها كانت مصنوعة من ألواح زجاجية وهشة وثقيلة، لذلك لم يكن لدى تلك الألواح أي فرصة مقارنة بشريط “سيلولويد” الخفيف لدى الأخوين “لوميير”.

وكان “يان شتشيبانيك” أيضا موهوبا للغاية، فقد اخترع حوالي 90 جهازا من مختلف المجالات، وكان من بينها أيضا الفيلم الملون الذي أُنتج عام 1899، واستند إلى نفس الافتراضات التي استند إليها فيلم كوداك بعد 29 عاما، ومع ذلك، كان الشريط الملون أغلى بكثير من الأسود والأبيض، ولهذا السبب لم يتناول الاختراع في ذلك الوقت.

بحلول القرن العشرين، بدا البولنديون -مع الظرف الشاق الذي يعيشون في ظله- عازمين على بلوغ محطات متقدمة في صناعة السينما، وكان أول المتنافسين “كازيميرز بروسزينسكي” مخترع “البليوغراف”، وإن لم تكن محاولته كاملة.

أسس “بروسزينسكي” أول شركة بولندية للإنتاج السينمائي عام 1902 تحت اسم “شركة بيليوغراف”، وأنتج في العام ذاته فيلمين روائيين هما “عودة زميل مرح” (The Return of a Merry Fellow) و”مغامرة كابمان” (The Cabman’s Adventure)، ومثّل في كلا الفيلمين ” كازيميرز جونوسزا ستيبوفسكي” الذي سيصبح لاحقا أعظم الممثلين البولنديين.

المخترع البولندي “يان شتشيبانيك”

تقول الكاتبة “جوانا بريسنر” في كتابها “تاريخ السينما البولندية.. منذ البدايات إلى المدرسة البولندية” إن الأفلام البولندية الأولى أنتجها أساسا مخترعون مفتونون بإمكانيات جهاز الأخوين “لوميير”، أو الأجهزة المماثلة التي صنعوها بأنفسهم، واستمر هذا الوضع حتى العام 1905 تقريبا، قبل أن يتسلم منهم أصحاب دور السينما المشعل في إنتاج الأفلام بين العامين 1907-1909.

“ماتوشويفسكي”.. سينمائي ومؤلف يتنبأ بمستقبل الصورة المتحركة

خاض البولنديون سباقا محموما لاستقبال الابن السابع للفنون، فبعد أن بدأ “كازيميرز بروسزينسكي” بناء جهازه السينمائي، وأنهى العمل عليه في العام 1895، كان البولندي “بوليسلاو ماتوشويفسكي” قد تملكه الشغف لركوب القطار الفني الجديد، فاستغل هجرته إلى باريس في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، من أجل تأسيس ورشة تصور فوتوغرافي.

تقول الكاتبة “جوانا بريسنر”: تعرف “ماتوشويفسكي” هناك على اختراع الأخوين “لوميير”. وسرعان ما تعلم كيفية استخدام هذا الجهاز، وبدأ إنتاج ثمانية أفلام قصيرة بنفسه، وهي عبارة عن تقارير عن الأحداث السياسية.

من سوء الحظ، أن معظم تلك الأفلام لم ينجُ إلى عصرنا، لكن أفلامه لم تكن أهم أعماله، بل كتابان صغيران نشرهما عام 1898، وهما مصدر جيد للتاريخ وماهية التصوير الفوتوغرافي المتحرك، وما ينبغي أن يكون عليه، وهذه الكتب هي الخطوط العريضة الأولى لنظرية الفيلم في العالم.

“كازيميرز بروسزينسكي” مع جهاز “البليوغراف”

حاول “ماتوشوفسكي” التنبؤ بمستقبل الصور المتحركة، واقترح طرقا لاستخدامها، فقد كان يرى أن وجود الفيلم يمنح إمكانيات غير عادية، وغير مشوهة، لتوثيق الأحداث التاريخية.

“الثقافة البروسية”.. أقدم فيلم روائي عن إضراب الأطفال

كانت الأفلام البولندية الأولى توثيقية، فقد صورت زيارات واجتماعات المشاهير، ووثقت الكوارث والحرائق وافتتاح المباني الجديدة، لكن كانت الأفلام الروائية حاضرة أيضا، وكان أساسها القصص المسرحية والمبنية على السيناريو.

وترجع الكاتبة “جوانا بريسنر” أقدم فيلم روائي بولندي محفوظ إلى العام 1908، وهو بعنوان “الثقافة البروسية” (Prussian culture)، وقد أنتجه المنتج اليهودي “مردخاي توبين”، وهو صاحب أول شركة في بولندا تنتج أفلام اليديشية (لغة يهود أوروبا)، وهي موجهة للجمهور اليهودي.

اعتمد فيلم “الثقافة البروسية” على نفَس قومي بولندي، وعلى أحداث حقيقية في فترة الاستعمار الروسي لبولندا، وجرت تلك الأحداث بين العامين 1901-1902، حين أضرب أطفال بولنديون بإحدى المدارس عن التعليم الديني باللغة الألمانية، ورفضوا العقاب الجسدي، وقد دعمهم في ذلك آباؤهم، فعاقبتهم السلطات البروسية بالغرامات والسجن.

منع أنصار ضم بولندا إلى بيلاروسيا عرض الفيلم على الأراضي البولندية، فنُقل إلى فرنسا، ولم يزل منسيا حتى اكتشفه أساتذة بولنديون في مكتبة أفلام باريس عام 2000.

كما كان “ألكسندر هيرتز” -وهو مصرفي يهودي انتمى إلى الحزب الاشتراكي البولندي- شغوفا بالتصوير إلى درجة احترافه، وأسس شركة إنتاج اسمها “سفينكس” في العام 1909.

لقطة من فيلم “الثقافة البروسية” (Prussian culture) إنتاج 1908

أصبحت تلك الشركة تملك أكبر أستوديوهات الأفلام وأكثرها تطورا، وقد أنتج عام 1911 فيلما بعنوان “مئير إيزوفوفيتش” (Meir Ezofowicz)، أخرجه “جوزيف أوستوجا سولنيكي”، وهو فيلم مستوحى من رواية “إليزا أورزيسزكوا”، وكانت قصص القتل والجريمة والحب والعقاب في تلك الروايات قد فتحت شهية الجمهور للإقبال على السينما أكثر فأكثر.

سينما الدعاية بين الحربين.. سياسة وطنية تنتج أفلاما رديئة

بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، أُنشأت خلية لتوثيق المعارك التي تخوضها فيالق القائد “جوزيف بيوسودسكي”، كما أنتجت أفلام معادية لروسيا مثل فيلم “أسرار شرطة وارسو” (The Secrets of the Warsaw Police) عام 1916، وفيلم “النظام القيصري وخدمه” (The Tsarist Regime and its Servants) عام 1917.

تقول الكاتبة “جوانا بريسنر”: مع أنها مبتذلة للغاية، فقد حظيت هذه الأفلام بتقدير كبير من الجمهور، إذ أظهرت الروس أمة الأشرار، لكن في بولندا التي ولدت من جديد، كانت هناك حاجة إلى سينما مختلفة تماما، ففي ظل حالة الاستقلال الذي نالته بولندا حديثا، كان للسينما البولندية دور مهم للغاية لتلعبه، إذ كان هدفها في المقام الأول أن تصبح عاملا موحدا للمجتمع الذي كان مقسما أكثر من 120 عاما إلى مواطنين من ثلاث دول مختلفة.

كان الأساس الرئيسي الذي ارتكز عليه التصوير السينمائي البولندي في العقد الأول بعد الحرب العظمى هو الأساطير والأيديولوجية الرومانسية، وكان “جوزيف بيوسودسكي” مؤسس الفيلق البولندي ومؤلف كتاب الاستقلال البولندي مؤيدا كبيرا للرومانسية. كان الرجل المثالي هو من يكون جنديا لا يتردد في الذهاب والقتال عندما يحتاجه الوطن. أصبحت الرومانسية القومية بمثابة أيديولوجية رسمية للدولة.

خلال الفترة التي تمتعت فيها بولندا باستقلالها بين العامين 1919-1929، أُنتج 120 فيلما وُصفت بأنها ذات جودة رديئة، في الوقت الذي شهدت فيه صناعة الأفلام ما يسمى العصر الذهبي للسينما الصامتة.

في عام 1920، أخرج “أنتوني بيدنارشيك” فيلمه “من أجلك يا بولندا” (For you, Poland)، وكان توجهه المعادي للبلشفية واضحا، ويروي قصة فتاة تنظم للجيش انتقاما من حرق البلاشفة لقريتها.

وقد أخرج “ريزارد أوردينسكي” فيلم “قبر الجندي المجهول” (Tomb of the Unknown Soldier) عام 1927، من رواية تحمل العنوان نفسه، وكان الفيلم فيلما سياسيا دعائيا بامتياز، أُنتج بميزانية ضخمة.

من فيلم “قبر الجندي المجهول” (Tomb of the Unknown Soldier) إنتاج العام 1927

يقول كتاب “تاريخ السينما البولندية.. من البدايات إلى المدرسة البولندية”: إن المخرجين -الذين عدّوا أنفسهم صانعي أفلام، وأن صناعة الفيلم هي فن بالأساس- لم يتعاملوا مع السينما على أنها حرفة لكسب المال أو المنصب أو الشهرة، لقد صنعوا الأفلام لأنها كانت مهمة بالنسبة لهم، لأنهم أرادوا نقل رسالة بهذه الطريقة. في ظروف إنتاج الفيلم آنذاك، غير المهنية والفقيرة والفوضوية للغاية، لم يكن لديهم فرصة لتحقيق الكثير، لكنهم حاولوا.

“لا يجلس في السينما إلا الخنازير”.. حركة تواجه المد النازي

في بداية العقد الثالث من القرن العشرين، هيمنت السينما الناطقة على العالم، لكن صُنّاع الأفلام في بولندا لم يكونوا مستعدين لاستقبال هذا التجديد بأذرع مفتوحة، بسبب كلفته الباهظة، ويمثل فيلم “يمكن لأي شخص أن يحب” (We Consider Anybody Can Love) الذي أخرجه “يانوش وارنيكي” و”ميتشسلاف كراوفيتش” في عام 1933 أول فيلم بولندي ناطق.

في تلك الفترة كان نذير حرب عالمية جديدة يلوح من بعيد، لكن ذلك لم يُثنِ مجموعة من الشبان البولنديين الذين يحملون أفكارا يسارية مثل “أوجينيوس تشيكالسكي” و”جيرزي توبليتز” عن الخروج على صف السينما الدعائية، فأنشؤوا “جمعية محبي الفن السينمائي” التي شجعت على إنتاج أفلام تثير المواضيع الاجتماعية المحرمة في ذلك العصر، وشجعوا على تنشئة جمهور جديد قادر على تقييم الأفلام القيّمة.

وكان فيلم “فيلق الشارع” (The Legion of the Street) الذي أخرجه “ألكسندر فورد” عام 1932، فيلما مميزا، ويروي قصة أطفال يبيعون الصحف في شوارع وارسو، وقد صُوّر الفيلم في مواقع أصلية وديكور حقيقي.

تقول الكاتبة “جوانا بريسنز”: في أكتوبر/ تشرين الأول 1940، أصدرت سلطات الاحتلال الألمانية أمرا يمنع البولنديين من استخدام كاميرات السينما، بل حتى من امتلاكها، وكانت عقوبة عدم الامتثال لهذا الأمر الإعدام، ومع ذلك ظلت دور السينما مفتوحة، لكنها عرضت أفلاما سيئة للغاية.

كان معظم تلك الأعمال أفلاما ألمانية، ولمواجهة ذلك بدأت الحركة السرية البولندية تنظيم إجراءات لثني الجمهور عن زيارة دور السينما أثناء العروض، ورُشت مواد ذات رائحة كريهة، وسُكب الطلاء على المشاهدين الذين يغادرون السينما، وكُتبت شعارات “لا يجلس في السينما إلا الخنازير”.

في عام 1941، أخرج “غوستاف أوسيكي” فيلم “العودة إلى المنزل” (Return to Home)، وهو فيلم دعائي للنازية صور اضطهاد البولنديين للأقلية الألمانية. وقد تصدت الحركة السرية البولندية لذلك عام 1942، حين كلفت مخرجين بتدريب صانعي الأفلام من أجل توثيق الانتفاضة التي خُطط لها في وارسو في ذلك الوقت.

وفي عام 1943، لقيت هذه الحركة دعما من قوات الحلفاء، فوفرت لها معدات التصوير من السوق السوداء، أو تلك التي سُرقت من الألمان. وصُورت ثلاثة أجزاء من فيلم تاريخي للمتمردين بعنوان “معارك وارسو” (Warsaw Fights).

أفلام ما بعد الحرب العالمية الثانية.. سينما بلسان شيوعي

في عام 1949 أُعلن ما يعرف بالواقعية الاشتراكية رسميا في بولندا، بوصفها الطريقة الإبداعية الوحيدة المقبولة، بعد أن أصبحت البلاد تحت حكم السوفيات، وأُنتجت أفلام أصبحت من كلاسيكيات تلك الفترة، مثل فيلم “لواءان” (Two Brigades) الذي أنتجه مجموعة من طلاب وخريجي مدرسة السينما في لودز عام 1950.

يروي الفيلم قصة معاناة العمال في أحد المصانع، قبل أن يتبنوا الأسلوب الجديد في الإنتاج الذي يحيل إلى الاشتراكية.

يطلق فيلم “لواءان” حزمة من الرموز تحيل إلى ممانعة أقلية ضد الاشتراكية، وهو الأسلوب ذاته الذي اعتمده “ليونارد بوكزكوفسكي” في فيلم “الانطلاق الأول” (First Start) الذي أخرجه عام 1950. ويروي الفيلم قصة صبي يشارك في دورة لتعلم الطيران الشراعي، لكنه لا ينضبط لقوانين الفريق، فيطرد من الدورة، ثم يكافئ في النهاية، لأنه ساعد طيارا أثناء العاصفة.

ويمثل فيلم “سليلوز” (Celuloza) للمخرج “جيرزي كواليروفيتش” الذي أخرجه في العام 1953، أحد الأفلام المتميزة التي أنتجت في تلك الفترة، مع أن رسالته تتماهى مع الدعاية السوفياتية.

بداية الانفتاح.. نفَس جديد متحرر يغير أساليب السينما

مع انتصاف خمسينيات القرن الماضي، أخرجت مدرسة السينما البولندية أولى دفعاتها، وكانت قد تأسست في العام 1948، وكان أساتذتها موالين تماما للنظام السوفياتي.

يقول كتاب “تاريخ السينما البولندية.. من البدايات إلى المدرسة البولندية”: أساتذة مدرسة السينما البولندية منفتحون إلى حد كبير على الفن العالمي. لقد حرصوا على أن يعرف طلابهم أعظم إنجازات فن السينما، وأنهم على اتصال بالفن الغربي بشكل عام، مع أنه محظور رسميا في بولندا.

كانت الواقعية الجديدة الإيطالية نقطة مرجعية مهمة جدا بالنسبة لهم، فقد أظهرت أفلامُ “فيتوريو دي سيكا” و”روبرتو روسيليني” القاسية والصادقة في آن واحد حقائقَ الحياة في إيطاليا ما بعد الحرب دون تجميل. لم تكن سينما ممتازة فحسب، بل كانت كذلك مبدعة.

دفع خريجو مدرسة السينما في بولندا المخرجين الجدد إلى خلق اتجاه فرعي في السينما كان شكلا من أشكال العلاج النفسي، فقد سمحت أفلام تلك الفترة للجمهور بالتعبير عن الخيبة والغضب والعجز، ويمثل فيلم “القنال” (Kanal) الذي أخرجه “أندريه فايدا” عام 1956 مثالا جيدا على التطور الذي شهدته السينما البولندية.

يقول الكاتب أمير العمري في كتابه “شخصيات وأفلام من عصر السينما”: كنا قد شاهدنا فيلمي “فايدا”، وهما “القنال” و”ماس ورماد” (Ashes and Diamonds) عام 1958، وهما فيلمان عن المقاومة البولندية زمن الحرب العالمية الثانية. كان هناك نفَس جديد ورؤية تعبر أكثر عن مشاكل الإنسان الفرد، وعن شعوره بالاغتراب واستمراره في البحث عن السعادة.

بدأت السينما البولندية تسير تدريجيا نحو الانفتاح. يقول العمري: كانت الموجة الجديدة في أوروبا الشرقية قد بدأت في الظهور أوائل الستينيات، وكان الفنانون -وفي مقدمتهم السينمائيون- يضغطون من أجل الحصول على مجال أوسع من الحرية في تناول المواضيع الاجتماعية بصورة نقدية، كما طالبوا ونجحوا في الحصول على حرية تجريب أشكال جديدة في السرد والبناء السينمائي، دون الانقلاب على الاشتراكية.

أفلام ما بعد السوفيات.. سينما تطلق العنان إلى الآفاق

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أطلق المخرجون البولنديون العنان نحو الإبداع دون قيود، لكن قبل ذلك كان عليهم تصفية الحساب مع فترة الضيق التي عاشتها بولندا طيلة نصف قرن بعد ضمها للاتحاد السوفياتي.

تقول الكاتبة “مارينا تسيليخ” صاحبة كتاب “السينما البولندية من التاريخ إلى الحداثة” إن المخرجين البولنديين في بداية التسعينيات لم يستطيعوا تجاوز الأحداث المأساوية التي عاشتها بولندا عام 1939، وطيلة الـ15 سنة التي تلتها، وبدا ذلك في فيلم “زينغا” (Zinga) الذي أخرجه “ليسزيك ووسويتز” عام 1991، وفيلم “السيدات الشابات والأرامل” (Young Ladies and Widows) الذي أخرجه “جانوسز زورسكي” في العام ذاته، إضافة إلى حزمة من الأفلام الأخرى.

وتقول “تسيليخ”: موضوع الجنود الروس حاضر بشدة في الأفلام طيلة عقدين تقريبا من سقوط الاتحاد السوفياتي، ففيلم “في عملية الدانوب” (Operation Danube) الذي أخرجه “جاك غلومب” عام 2009، صوّر الجنود السوفيات جنودا متوحشين وقاسيين. في الأفلام البولندية المعاصرة في العقود الثلاثة الماضية، غالبا ما يصوّر الروس مجرمين وقطاع طرق ومافيا.

من الفيلم المميز “حرب باردة” (Cold war) ل”بافل بافليكوفسكي”

في العام 2002، رُشح فيلم “الكاتدرائية” (The cathedral) للمخرج “توماس باجنسكي” (26 عاما)، لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم رسوم متحركة قصير، ونال فيلم “حرب باردة” (Cold war) الذي أخرجه “بافل بافليكوفسكي” عام 2018 تقديرا كبيرا من النقاد، ونال جوائز كثيرة، مثل جائزة أفضل إخراج في مهرجان “كان”، وحصد خمس جوائز في حفل جائزة السينما الأوروبية، ورُشح أيضا لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي.

يبدو أنه بعد عقود كثيرة كُبِّلت فيها السينما البولندية، وتناسى فيها التاريخ دورها في صناعة الفن السابع، عاد التاريخ ولو متأخرا لينصفها، ويجعلها مدرسة سينمائية قائمة الذات ومتفردة.