دكان مخرج الجبل.. الفن في خدمة اللغة الأمازيغية وثقافتها

مشهد من فيلم "دكان الجبل"

“دكان مخرج الجبل” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية هو فيلم وثائقي مراوغ، يستهل مشاهده الأولى بتناول الشاب حسين بو سالم إفطاره الصباحي في محله المكتظّ بالسلع الاستهلاكية. ولأنّ أذهاننا تحاول دائما تصنيف ما يعترضها حتى يمكنها تقديره، فإننا نقدّر -بناء على المكونات البصرية- أنه تاجر مواد الغذائية بحي شعبي مغربي.

وتصادق الأصوات الواردة من خارج الإطار على افتراضاتنا هذه، فالأطفال يمرحون بعيدا عن رقابة الأولياء الصارمة في الأحياء الراقية. وحالما نضبط بياناتنا التي حدّدها فهمنا ترد على الشاب مكالمة هاتفية تخرق انتظارنا، وتعلمنا بأننا وقعنا في الفخ الذي نصبه المخرج محمد أكرم نماسي لنا، وتشرع في تشكيل هوية ثانية لهذا الشّاب، فيها كثير من الطرافة والخروج عن المألوف.

“عندما نحب الحياة نصنع أفلامنا”

تكشف لنا المكالمة أنّ هذا البائع القابع في محله المتواضع، هو بصدد وضع اللمسات الأخيرة لتصوير فيلم روائي، فقد كتب السيناريو وأخذ يبحث عن موقع للتصوير، ويعدّ التفاصيل التقنية ويجهّز الإكسسوارات. فنعيد إذن ضبط بياناتنا، فصاحبنا شاب استثنائي، يزاول مهنة بسيطة، ويسكن حيّا شعبيا، ويعطف على قطط الحيّ السائبة ويطعمها، ويخرج الأفلام.

حسين بوسالم في دكانه يرتب اتصالاته لإنجاز فيلمه الأول

وهو يمارس صناعة الأفلام من منطلق الهواية التي تريد السّينما لذاتها، بعيدا عن هاجس الرّبح، وكأنه يعيد صياغة عبارة “فرانسوا تروفو” -وهو أحد رموز الموجة الفرنسية الجديدة- عند قوله “عندما نحب الحياة، نذهب إلى السينما” فيجعلها “عندما نحب الحياة نصنع أفلامنا”.

ويصادر الشّاب على مسارات الاستدلال التي تذهب إليها أذهاننا، فيشير إلى صندوق البضائع وإلى دفاتره المرصّفة فوقه بسخرية، ثم يقول: هذا مكتبي!

حسين بو سالم.. شاب مميز يذوب بين بضائع حانوته

يعيش الشاب حُسين بو سالم حياته المزدوجة في محله المتواضع بمدينة سلا، دون أن يتصادم في حياته دور المخرج والبقال، فهو يقضي كامل يومه في هذا المحل الضيق الذي يتخذه فضاء للعمل، ومقرّا للسّكن وغرفة لأكله، وتبدو علاقته بمختلف الزبائن على قدر كبير من الألفة والانسجام، وفي الآن نفسه يجعله مكتبا ينجز فيه مشاريعه الفنية، ويدير من خلاله عمليات الإعداد لتصوير الفيلم.

دكان حسين بوسالم، هي بيته ومكتبه ومكان الإبداعات الفنية التي يحلم بها

يبدو الشاب فخورا باهتمامه هذا، ولكن نبرته تكشف عن شيء من الألم، فلا أحد ينتبه إلى تميّزه، ويظل في أعين الجميع تاجر البقالة الذي يقضي حياته محشورا بين المواد الاستهلاكية، يلبي طلبات زبائنه، والحال أنه جاء إلى السينما بعد تجربة في العروض المسرحية الكوميدية التي يقدمها مع أخيه، والمغرب -كما نعلم- بلد العروض الجماهيرية في السّاحات العامة.

القرية الأمازيغية “إيغيل تناسيمت” بإقليم “تارودانت” بالمغرب مكان تصوير الفيلم

أثناء عمله بمحلّ البقالة، تأخذ شذرات الحكاية تتسرّب إلى ذهنه، وتأخذ خيوطها تتمدّد شيئا فشيئا، وحين تتفرّع وتتعقّد تفاصيلها يحاول أن يصنع من هذه الخيوط الكثيرة شبكة منسجمة، فيبدأ بضبط الأدوار والإعداد للإخراج، ليكون المبدع العصامي الذي يمارس السينما بالفطرة، فيحكي بالكاميرا ما يشاء، بعيدا عن الإكراهات الأكاديمية والمحاذير التقنية.

رحلة الجبل.. موقع الحكاية المستلهمة من حياة الريف

يأخذنا المخرج حسين بو سالم إلى القرية الأمازيغية “إيغيل تناسيمت” بإقليم “تارودانت” التي اختارها لتصوير الفيلم الجديد، فتكون الرحلة مفعمة بالمرح والغناء وحب الحياة، ولكنه يضنّ علينا بتفاصيل حكاية الفيلم، ولا يتقاسم معنا مراده منها، ويكتفي بوصفها أنها واقعية مستلهمة من حياة الريف المغربي.

لكنه يكتفي بالإشارة إلى أنّ مدارها على حبّ قاتل، تقع بموجبه امرأة في المحظور، حين تسوء علاقتها بزوجها، وبعد وفاته تقرّر التخلص من ابنها، لكي تتفرغ لعشقها الممنوع. وفي فضاء التصوير نتعرّف على كثير من الجزئيات والدقائق.

العشيقان يلتقيان سرا.. مشهد من الفيلم الذي هو جزء من قصة فيلم دكان الجبل

وحتى يتجنّب إنفاق الأموال الكثيرة، يختار تأثيثا طبيعية يعفيه من صرف الأموال في بناء الأثاث الخاص وتجهيزه، لأنه ينتج الفيلم بنفسه، وهو يستفيد من منجز التكنولوجيا الحديثة ليجعل السينما -وهي فن مكلف- ممارسةً في المتناول، فكل ما يحتاجه هو كاميرا رقمية تخوّل له تخزين المشاهد الكثيرة ومعاينتها في عين المكان، للتثبت من صلاحية المادة، كما تتيح له أن يعيد تصوير المشاهد غير الموفقة دون تكلفة إضافية.

شذرات الحكاية.. أجزاء من السرد الروائي يلتقطها الوثائقي

فيلم “دكان مخرج الجبل” عمل وثائقي بلا شك، ولكنه لا يخلو من السّرد المركّب، فهو يعرض حكاية حسين بو سالم الشغوف بالسينما، وفيها أقسام الفيلم النمطي الثلاثة، من بداية ووسط ونهاية.

يبدأ القسم الأول بمغادرته لمحل بيع المواد الغذائية والتوجه إلى القرية، وهو قسم العرض الذي يزودنا بالمعلومات الضرورية، لفهم فيلم المخرج محمد أكرم نماسي، ومن ورائه قصة حسين بو سالم.

حسين بوسالم أثناء تصوير فيلمه في قرية “إيغيل تناسيمت” الأمازيغية

ويتمثّل القسم الثّاني في الصّراع الذي يخوضه الشاب لإنجاز فيلمه، وفيه يواجه عدة عراقيل تعطّل التصوير، منها رفض الممثل بوجمعة الدور الذي منحه، لأنه لا يناسب سنه ويخشى ردة فعل الأهالي، ومنها ضرورة أن يذهب أحدهم للتلقيح، ناهيك عن أصوات الصراصير التي تفسد عليه خططه للتصوير. ولكنه ينجح ويتحدى ظروفه لتنفيذ فيلمه.

أما القسم الأخير، فيتمثل في الانتهاء من التصوير وعرض المادة الخام دون مونتاج على أهالي “إيغيل تناسيمت” الذين صور الفيلم بينهم مكافأةً لهم، ثم في رجوعه إلى محل بيع المواد الغذائية وإلى حياته الدائبة وإلى الحلم بفيلم آخر في السنة المقبلة.

مشهد “الشيخ” الذي يمتهن الشعوذة

وفي القسم الثاني يورد محمد أكرم نماسي شذرات كثيرة من فيلم حسين بو سالم، منها مشهد “الشيخ” (الفقيه في العامية المغربية) الذي يمتهن الشعوذة، فيطرد من القرية، ومنها مشهد لقاء إبراهيم وعائشة (العاشقين) في غياب الزوج، ومشهد جنازة الزوج وحمل النعش إلى المقبرة والصعوبات التي تواجهها العمة توفلة لحفظ الحوار وتقمص الدور، فنجد أنفسنا نعيش بعضا من تفاصيل الحكاية ونكمل الناقص منها أحيانا على هوانا، ونجتهد لصهر المشاهد وتركيبها في أذهاننا، لنحصل على نسختنا من الفيلم.

سينما الهواية.. تلقائية تجسد الدوافع الذّاتية

نفهم من توزيع الأدوار وضبط مواقع التصوير وزوايا الكاميرا بكثير من العفوية، أن المخرج حسين بو سالم يتبنى سينما تلقائية لا تخلو من الارتجال والسذاجة الفنية، فيتقاسم فريق العمل الأدوار اعتباطا، بين من يكلف بضبط الصوت، ومن يتولى دور النص أو يراقب مدى احترام الممثلين لمجريات السيناريو والحوارات، ثم يقدّم الجميع اقتراحاته بطريقة تشاركية تضبط الخطط بالاتفاق، بعيدا عن صرامة الأدوار في السينما المحترفة.

صوت بعض الحشرات يخرب على تصوير بعض المشاهد

ففي هذه المغامرة كثير من سمات سينما الهواية، أو السينما المستقلة التي تُبدَع خارج دوائر الإنتاج المعهودة، ومسالك التّوزيع ذات البعد التّجاري الصّرف، مع أنّ باعثها ذاتي صرف، وهو شغف المخرج ورفاقه بالإبداع السينمائي.

فلا يكاد الفيلم -أو ما توصلنا إلى صهره من شذراته- يعبّر عن رسائل سياسية تنتصر للإنسان وتناهض المنظومة القائمة، كما هو الحال في هذه السينما المستقلة التي تمثّل سعيا إلى الاستقلال الفكري المجسّم لحريّة المبدع وعمله الدّؤوب على اختراق المحظور، وإن لم تخلُ التجربة من نضال سنعرضه لاحقا.

“دكان مخرج الجبل”.. كاميرا تقتحم عزلة القرية المنسية

فيلم محمد أكرم نماسي الوثائقي “دكان مخرج الجبل”، وفيلم حسين بو سالم الروائي الذي لا نعرف له عنوانا، يجعلان كلاهما السّينما تعلة فنية لاقتحام عزلة جبال إقليم سوس المنيعة، فتنقل لنا مشاهد من الحياة اليومية، منها خوض الرّجال اليائس في قضايا السياسة ووعود الساسة، والتعبير عن خيبة أملهم بمقاطعة الانتخابات المحلية، ليقينهم أنها لن تضيف إليهم شيئا.

ومنها أعباء النساء اليومية، مثل غسلهن للملابس في مجرى المياه المنحدرة من الجبل، وطبخهن للخبز على الحصى في الأفران على الطريقة الأمازيغية، ورعي الأطفال للأغنام.

مشهد للنساء أثناء غسلهن للملابس في مجرى المياه المنحدرة من الجبل

ومع أن القرية منعزلة، فإن حياة ساكنيها لا تخلو من لحظات من المتعة أو المرح، فمنها قطف الأطفال لثمار التوت، ولعبهم كرة القدم على سفح الجبل، واحتفال الكهول الراقص على الإيقاعات الأمازيغية إثر إنهاء العمل مساء، فيمثل تصوير الفيلم في قريتهم فرصة لكسر رتابة الحياة اليومية المعهودة، والتعرف على كيفية صناعة الأفلام.

ولا يخلو هذا الجو المنعش كله من رسالة مفادها أنّ الثراء ليس شرطا لنكون سعداء، وأنّ الحياة في القرية لا تزال تحافظ على الفطرة الإنسانية التي لم تفسدها الحضارة.

السينما الإثنوغرافية.. عدسات ناقدة ترصد تجارب الشعوب

أوجدت كاميرا المخرج محمد أكرم نماسي التعلة المناسبة لاقتحام حياة سكّان قرية “إيغيل تناسيمت” وإن لفترة قصيرة، ولتصوير حياتها، فجعلت تسجيل الكواليس بديلا من عملية الوصف والسرد الثّريين، اللذين يلتقطان التفاصيل الفارقة ضمن تقارير مكتوبة أو مصوّرة، بغية الاقتراب من واقع الأهالي والتقاط تفاصيله، فجعلت طيف السينما الإثنوغرافية يطل من بعيد.

فالإثنوغرافية من مباحث العلوم الإنسانية التي تجعل دراسة المجتمعات الصغيرة أو الجماعات العرقية دراسةً علمية ميدانية مباشرة موضوعا لها، فيكون الدّارس ملزما بالعيش مع المجتمع المنعزل، موضوع دراسته، خلال فترة طويلة من أجل فهم ثقافته.

في دكانه، يقوم حسين بوسالم بإخراج فيلمه

ثم اكتشفت السينما قدرتها على القيام بالدور بنفسها، بحيث تتولى الكاميرا دور الباحث ملاحظة سلوك أفراد هذه الجماعات بطريقة دقيقة، وتوثيق المعاينة المباشرة، فتسجّل تفاعل أفرادها، أو تراقب ما تعقده من الاتفاقيات.

وليس من التعسّف وصل الفيلم بالسينما الإثنوغرافية، وإن كانت هذه الصلات بعيدة، فقد دأب النقد على تصنيف الأفلام التي تكتفي بالتقاط تفاصيل حياة المجموعات ضمن هذا الجنس الوثائقي، مع أنّ مخرجيها لا يحملون خلفية إثنوغرافية.

احتفالات في قرية “إيغيل تناسيمت” ترحيبا بالمخرج حسين بوسالم وفريقه

ويعد فيلم المخرج الأمريكي “روبرت فلاهرتي” مثالا جيّدا يستحضر في مثل هذه الحالات، فلم يكن المخرج يصدر عن مثل هذه الخلفية العلمية، حين كان يبدع فيلم “نانوك الشمالي” (Nanouk of the North)، فيعرض صراع عائلة بدويّة من شعوب الإسكيمو، من أجل ضمان البقاء في صحارى الثّلج القاسية من أقصى الشّمال الكندي.

وكذلك شأن فيلم “رجل من آران” (Man of Aran)، فليس لمخرجه “روبرت فلاهرتي” تلك الخلفية العلمية، وتدور أحداث الفيلم على جزيرة أرخبيل آران قبالة سواحل أيرلندا، ويرصد الحياة اليومية لعائلة من الصيّادين يعملون على استصلاح أرض صخرية وتهيئتها للزراعة. ومع ذلك يعدّ الفيلمان من أبرز الأفلام الإثنوغرافية.

سينما التنوع.. مخرج أمازيغي ينقل ثقافة شعبه إلى العالم

تعدّ السينما الإثنوغرافية سينما نضالية، فهي تعمل على التعريف بالثقافات المختلفة دون أن تفاضل بينها، فتدافع عن التنوع الثقافي، وتناهض العولمة التي تعمل على فرض الأسلوب الغربي المادي تصورا أوحد للإقامة في الوجود، كما تفهم الثقافة بكونها ما ينشأ عن مجمل تجارب مجموعة بشرية ومنتجاتها الاجتماعية.

حسين بوسالم يقدم نفسه أمام أهالي قرية “إيغيل تناسيمت” بأنه فنان أمازيغي

وهو الأمر نفسه الذي يحققه فيلم “دكان مخرج الجبل”، فيصرّح بطله حسين بو سالم -وهو يقدّم نفسه للأهالي في احتفال أقيم على شرف فريقه الفني- بكونه فنانا أمازيغيا، هاجسه إخراج الأفلام الناطقة باللغة الأمازيغية، والتعريف بوجوه من حياة أهلها في منطقة سوس بالوسط المغربي.

ولا شكّ أن هذا الفيلم سيذكرنا بالمهرجان الوطني للفيلم الأمازيغي الذي يقام بمدينة أغادير المغربية، ويجعل الحفاظ على الثقافة الأمازيغية هدفا له، أو يذكرنا بنظيره الذي ظهر منذ نحو عشر سنوات في الجزائر.