وثائقيات 2019.. صحوة سودانية وحضور سوري وتراجع مصري

مع نهاية عام وولادة عام جديد، يطيب لموقع الجزيرة الوثائقية أن يفتح ملف حصاد العام المنصرم (2019) في السينما العربية والعالمية، فيبحث في أهم ما تناولته صالات السينما من مضامين وعروض وأفلام روائية أو وثائقية.

ونخصص المقال الأول من الملف لوضعية الأفلام الوثائقية العربية والعالمية لعام 2019.

 

قيس قاسم

مراجعة المشهد الوثائقي في السينما العربية لعام 2019 تستوجب بالضرورة العودة إلى ما سبقه من أعوام لملاحظة المتغير والجديد الذي طرأ عليه. وبالمراجعة والمقارنة يمكن تثبيت العلامات التي تشير إلى أهم ما جرى على الساحة السينمائية العربية وحتى العالمية، على اعتبار أن الفيلم الوثائقي جزء حيوي منها.

ولأن السينما صناعة وفن جماهيري مؤثر، فإن عوامل كثيرة تتداخل في تشكيل مشهدها السنوي، من بينها تفاعل صنّاعها مع الأوضاع السياسية والمتغيرات الاجتماعية في كل مكان. هذا ما نلاحظه بسهولة في الوثائقيات التي حاولت رصد الحراك الشعبي السوري ومآلاته التراجيدية، كما يبدو جليا من خلال صحوة السينما السودانية أيضا، وعلى نطاق عالمي وإقليمي يمكن ملاحظة ظهور وثائقيات أفغانية مهمة على المستويين الفكري والفني.

عالميا يزداد الاهتمام بالموضوعات المتعلقة بالأخطار الجسيمة التي تهدد الوجود البشري نتيجة لعبث الإنسان بالتوازن البيئي الدقيق، ويحاول سينمائيون غربيون تجسيده في وثائقيات كبيرة.

الجزيرة الوثائقية.. مكتبة واسعة من الأفلام

 

على مستوى حجم الإنتاج العربي ثمة متغيرات واضحة تشير إلى تبادل مواقع في المراكز المتقدمة، فلبنان مثلا تراجع إنتاجه قليلا، والسوري يعزز مكانته عالميا، والوثائقي المصري ما زال موضع تساؤل وجدل.

وعلى الجانب التقني وأساليب السرد وتنويعاته يظهر ميل أكثر للقصص الحميمية/الشخصانية، فقد استخدم صنّاعها تقنيات جديدة، مستغلين التطور السريع والهائل في حقل صناعة الكاميرات وبرامج التوليف والمونتاج. وذلك ما ساعد على تقليل تكاليف إنتاج الفيلم الوثائقي العربي، وعلى سرعة إنجازه زمنيا.

هذا كله يأتي في سياق طبيعي يفرضه منطق التطور، لكنه يعكس -ضمنيا- تغيّرا وتحسنا في العوامل المساعدة على تطور صناعة الوثائقي، ومن بينها الدعم المقدم لإنتاجها والخطط الموضوعة لتوسيع دائرة عرضها ومشاركتها في المهرجانات المحلية والدولية. وكل هذا يفرض مراجعة عامة ترصد المتغيرات تلك وتثبتها بأمثلة واقعية.

 

السودان.. “صحوة” نبّهت لماض تليد

ظهرت علامات الصحوة السودانية في الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي عندما قررت الاحتفاء بتاريخها وعرض وثائقيين سوادنيين مهمين هما: “الحديث عن الأشجار” و”أوفسايد الخرطوم”. هذا الاحتفاء الخاص بالسينما السودانية وفوزها -غير المنتظر- بجوائز مهمة؛ دعا المعنيين بالسينما لمراجعة تاريخها وإعادة النظر في مقوماتها وإمكانية نهوضها ثانية بعد طول انقطاع.

ونبّه الوجود السينمائي السوداني في برلين إلى تاريخين؛ جديد وقديم. تاريخيا وللذين لا يعرفون الكثير عن بدايات السينما السودانية ساعد عرض نماذج منها في “البرليناله” (مهرجان برلين السينمائي) على تكوين فكرة جيدة عن ماضيها ومعرفة أهم صناعها ومنتجيها. فمن يشاهد أفلام “جماعة الفيلم السوداني” مثل “الحبل” و”جمل” و”حفلة صيد” للمخرج إبراهيم شدادي، إضافة إلى فيلمي الطيب مهدي “الضريح” و”المحطة”، ومعهما فيلم سليمان النور “ولكن الأرض تدور”.. سيتأكد من وجود محاولات سينمائية راقية توقفت لأسباب جاءت من خارجها، وفي مقدمتها أسباب سياسية أرادت تحجيم السينما بل وحتى منعها، وهذا بالضبط ما حاول عرضه المخرج صهيب قسم الباري في وثائقيه “التحدّث عن الأشجار” من خلال توثيقه حياة ونشاط أعضاء “جماعة السينما السودانية”. بهذا المعنى هو فيلم عنهم وعن واقع السينما السودانية ومستقبلها، وقبل كل شيء عن شغف السينمائيين السودانيين وإصرارهم على مواصلة العمل وإحياء فن السينما ليبقى مصدرا معرفيا وثقافيا.

من الفيلم السوداني “الحديث عن الأشجار”

 

كما يضيف “أوفسايد الخرطوم” بدوره مؤشرات على تَميّز في الوثائقي السوداني يتمثل في وجود مخرجات وثائقيات فيه. الفيلم من إخراج مروى زين، وهو ليس وثائقيا عاديا ينشد تسجيل تجارب “لاعبات كرة قدم” فحسب، إنه أبعد بكثير من هذا التبسيط، فهو يمس حالة البلاد اليوم بعد انفصال الجنوب عنها، ومرارة المحبين للسودان الذين ما زالوا يريدونه موحدا يجمع تحت سقفه كل الأعراق والطوائف.

وقد عزز الفيلم الروائي “ستموت في العشرين” للمخرج أمجد أبو العلا القناعة بوجود سينما سودانية تستمد وجودها من عراقة وانغماس في فن يستعيد بريقه في عام 2019؛ عام السينما السودانية بامتياز، وذلك من خلال فوزه بجائزة “أسد المستقبل” في الدورة الأخيرة لمهرجان البندقية السينمائي الدولي، ونيله بعدها الكثير من جوائز المهرجانات العربية والعالمية.

اللافت في الأفلام السودانية هو الجهات الممولة والمشاركة في إنتاجها، فإنتاج “الحديث عن الأشجار” فرنسي سوداني تشادي ألماني قطري مشترك، و”أوفسايد خرطوم” من إنتاج دانماركي سوداني، والروائي “ستموت في العشرين” ساهمت في دعمه عربيا مصر وقطر، وهو ما يستدعي وقفة عند جانب مهم من جوانب صناعة الوثائقي العربي وتلمّس أسباب تباطؤ مسيرته. فلسنوات طويلة تعامل المنتجون العرب وحتى الكثير من النقاد –للأسف- مع الوثائقي العربي باعتباره نوعا ثانويا بالمقارنة مع الروائي.

ويبرر المنتجون عدم رهانهم على الوثائقي بقلة مردوده المادي وضعف الإقبال عليه جماهيريا. فقد ظل الوثائقي لمدة طويلة هامشيا في المهرجانات السينمائية العربية وحتى الغربية إلى حد ما. وفي السنوات الأخيرة تجاوزت المهرجات الغربية تلك العقدة بحدود معقولة، وصار مهرجان كان وبرلين وفينيسيا وغيرها يعرض الفيلم الوثائقي في مسابقاته الرسمية الكبرى سوية مع الروائي. وعربيا يمكن ملاحظة اهتمام أكبر بالوثائقيات في السنوات الأخيرة وبشكل خاص في المهرجانات السينمائية الكبيرة مثل الجونة والقاهرة ومراكش وقرطاج وغيرها.

وبدأت تلك المهرجانات بتخصيص جزء من ميزانياتها لدعم الوثائقي العربي بمبالغ محدودة، تساعد صنّاعها على تكملة كلفة أفلامهم من جهات داعمة أخرى، من بينها على سبيل المثال “آفاق” اللبنانية و”مؤسسة الدوحة للأفلام” القطرية. وهاتان الجهتان هما الأكبر والأهم من بين كل الجهات العربية الداعمة للفيلم الوثائقي وغير الوثائقي.

ومن التجربة فإن أفضل الأفلام الوثائقية الحائزة على جوائز مهرجانات عالمية وعربية هي من بين تلك التي حصلت على دعم من هذه الجهات، وهو ما يكشف عن وجود حساسية عالية عند المشرفين عليها في اختيار نوع الأفلام الحاصلة على دعمها المالي.

هنا لا بد من الإشارة إلى التحسن النسبي في توجهات المهرجانات الداعمة والتعامل مع المنتج الوثائقي كنوع لا يقل مستوى عن الروائي، ومرد ذلك أن أغلب المعروض عندها من وثائقيات -وبشكل خاص الحاصل على جوائزها- يذهب ويشارك خارج الوطن العربي، مما يضمن إدراج اسم المهرجان العربي إلى جانب مهرجانات سينمائية عالمية. وذلك يشجع على توسيع مساحة عرضها مهرجانيا، لكنه ما زال بحاجة إلى دخول سوق العرض الجماهيري وقبل كل شيء.

وهذا يقود إلى الكلام عن أهمية الدور الذي تلعبه جمعيات ونوادٍ سينمائية عربية تهتم بعرض المنتج الوثائقي وإن كان بشكل محدود. ويمكن تثبيت عام 2019 باعتباره عاما موفقا للعروض الوثائقية في المهرجانات العربية والدولية. وبالملموس -وعدا الأفلام السودانية- فقد حصلت الوثائقيات السورية على فرص عرض ومشاركات في مسابقات دولية ربما هي بين الأهم في تاريخها.

 

سورية.. أقل عددا وأكثر حضورا

وصول الوثائقييْن السوريين ” الكهف” و”من أجل سما” إلى القائمة القصيرة للأفلام الوثائقية المرشحة لجوائز أوسكار 2020 بعد نيلهما عددا من الجوائز العالمية يعني الكثير. ففيلم وعد الخطيب “من أجل سما” حصل قبل وصوله إلى الأوسكار على أكثر من أربعين جائزة خلال عام 2019، منها جائزة “العين الذهبية” في مهرجان كان، وأربع جوائز من مسابقات “جوائز بريطانيا للأفلام المستقلة” من بينها جائزة أفضل فيلم وثائقي وأفضل إخراج، إلى جانب حصوله على جائزة الجمهور في مهرجان “إدفا” الذي يعد من بين أهم المهرجانات المختصة بالوثائقي في العالم.

كما حصل فيلم فراس فياض “الكهف” على عدة جوائز مهمة؛ من بينها جائزة الجمهور لأفضل فيلم وثائقي في الدورة الأخيرة لمهرجان تورنتو الدولي، وإعلان شبكة “ناشيونال جيوغرافيك” للأفلام الوثائقية إدراجه ضمن لائحة ترشيحاتها لجوائز الأوسكار.

و”الكهف” من إنتاج شبكة “ناشيونال جيوغرافيك”، وتدور أحداثه في مشفى سوري تحت الأرض يقع في منطقة الغوطة الشرقية، وكان أطباؤه -ومن بينهم الشابة أماني التي تم اختيارها من قِبل طاقم المشفى لإدارة شؤونه- يقومون في ظروف قاهرة بمعالجة وإسعاف الجرحى من سكان المنطقة التي تعرضت من قبل النظام السوري لأبشع أنواع القصف بما فيها الكيميائي.

يبحث الفيلم عن الجمال رغم قسوة الأحداث في مسشفى الكهف

 

بحث عن الجمال وسط الخراب

في ذلك المشفى كان فراس فياض يبحث عن الجمال، فذلك ما يميز اشتغاله وآخرين من السوريين الذين مالوا في أفلامهم خلال الفترة الأخيرة إلى السرد الحميمي المتشبث بالجمالي، وهذا ما يشير إلى رغبة في الانتقال من السرد المباشر/التقريري إلى إيجاد وسائل تعبير أكثر شخصانية، وذلك يتضح حتى في السينما الفلسطينية التي كان يغلب عليها المباشرة.

أما في فيلم “إبراهيم إلى أجل غير مسمى” للمخرجة لينا العبد فالأمر مختلف تماما. فالسوري “من أجل سما” يُنبه أيضا إلى ذلك التوجه الأسلوبي، فهو لا يشبه غيره فيما يتعلق بلغة التعبير وتعكزه على التجربة الشخصية المعاشة، وذلك مما يمنحه مصداقية وجمالية، ويقرب تجارب أبطاله إلى الجمهور الذي يتابعها على الشاشة.

ربما ليس مصادفة أن تكون النساء بطلات للفيلمين المرشحين للأوسكار، ولا أن تكون المشافي ساحات لنقل الوجع السوري للعالم ليعرف حقيقة ما يجري على الأرض ويرى كيف يتم تدمير الإنسان والمكان وكل ما يمت إلى الحياة بصلة، يقابله إصرار السوري للبقاء على قيد الحياة. فالنساء كن من أكثر الناس تضررا بالحرب بوصفهن أمهات وأخوات ومناضلات ساهمن في مقاومة العسف.

المكان بدوره شهد خرابا لا مثيل له، وكان لا بد من نقله إلى العالم بعدسات حساسة تعرف كيف تحكي وجعه كما تحكي عن وجع الإنسان المنتهكة حريته وحقوقه.

والملاحظ في إنتاج عام 2019 قلة عدد الأفلام الوثائقية السورية مقارنة بالسنوات الأولى التي أعقبت الحرب الأهلية وما رافقها من دمار وهجرة حرص كثير من صناع الوثائقي على رصدها سواء عبر أفلام تحكي عن مآسي ركوب البحر، وصولا إلى الأماكن الجديدة التي تكتمل فيها دورة معاناتهم وتبرز أمامهم صعوبات أخرى لم يعرفوها من قبل، أقلها صعوبة التأقلم ومواجهة شرور العنصرية. ورغم هذا الانخفاض العددي فإن الحضور السوري في المشهد السينمائي الوثائقي العربي عام 2019 يعد من بين الأبرز بعد “تراجع” الوثائقيات التونسية واللّبنانية نسبيا.

فيلم “بيروت المحطة الأخيرة” لإيلي كمال شارك في مسابقة “آفاق السينما العربية” ونال جائزتها “أحسن فيلم غير روائي”

 

لبنان.. تباطؤ يعقب نشاطا لافتا

عام 2018 المزدهر وثائقيا في لبنان والمتوّجة إنتاجاته بالجوائز والإقبال النقدي الجيد لمعظمه، والحضور اللافت في المهرجانات العالمية الذي يأتي في سياق تطور تدريجي ملحوظ، تبعه عام أقل حيوية ونشاطا.

فأن يقل إنتاج بلد معين من الأفلام في مرحلة أو سنة ما فهذا أمر طبيعي، كما أنه ليس محتّما أن تحظى كل أفلامه سنويا برضا نقدي وإقبال مهرجاني عالمي، هذا أمر عادي مألوف في عالم صناعة السينما، لكن ما يلفت الانتباه أن مستوى المنتج الوثائقي خلال عام 2019 قد انخفضت نوعيته وعدده.

أول المؤشرات جاء من برلين مع عرض “وردة” لغسان سلهب الذي زاد اسم مخرجه سقف التوقعات علوا، فسلهب من بين أكثر المخرجين العرب تميزا في أعماله السينمائية الخارجة عن السياقات المألوفة. المفاجأة أن فيلمه لم يصل إلى مستوى ما قدمه من نتاج، وقد أراد في “وردة” تقديم قراءة بصرية ذاتية للمفكرة الألمانية “روزا لوكسمبرغ”، لكن العمل عليها لم يكن بالمستوى المطلوب، فجاء فيلمه أقل من المنتظر.

وبينما حافظت الأفلام الروائية اللبنانية على وجودها في المحافل السينمائية، انحسر الوثائقي بأفلام قليلة من بينها “بيروت المحطة الأخيرة” لإيلي كمال الذي شارك ضمن مسابقة “آفاق السينما العربية” في الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة السينمائي ونال جائزتها “أحسن فيلم غير روائي”.

ويستكشف فيلم ” بيروت المحطة الأخيرة” -كما جاء في موجز عرض أفلام المسابقة- مفاهيم الحدود والهوية والانتماء في منطقة من العالم كُتب عليها أن تكون دائمة الاضطراب. وباستخدام السكك الحديدية المهملة في لبنان وما بقي من بنيتها التحتية المهجورة كمناظر أساسية، يخلط بها بين الحقائق الشخصية والتاريخية أثناء القيام برحلة تأملية وجغرافية من محطات القطار الطرفية في البلاد باتجاه المحطة المركزية لعاصمتها بيروت. وفي محاولة تحليل السؤال وفهم مستقبله وحاضره وعدم اليقين؛ يطرح إيلي كمال نوعا خاصا من الأسئلة البصرية.

 

تونس.. مرتبة بين بين

في نفس المهرجان والمسابقة عُرض التونسي “عالبار” لسامي التليلي، ليسد بجودته وتفرد أسلوبه في الربط بين لعبة كرة القدم ومحطات مهمة من تاريخ تونس السياسي؛ بعضا من نقص نوعي عانته السينما الوثائقية التونسية في السنة السابقة، وأغلب نتاجاتها عرضت في الدورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية، ولم توفق في تعويض “الفتور” الحاصل في 2019، مقارنة بالعام الذي سبقه وما قبله، حيث شكل حضورها علامة مميزة في المشهد السينمائي العربي نوعا وكمّا.

ومما يزيد من حدة ظهور الفتور النسبي للوثائقي النجاحات التي حققتها الأفلام الروائية التونسية ونالت استحسانا عربيا ودوليا، كالتي حصل عليها “بيك نعيش” لمحمد البرصاوي و”حلم نورا” لهند بوجمعة.

 

المغرب.. ثبوت الحال

تونس هي جزء من المشهد المغاربي الذي لم تطرأ عليه تغيّرات كبيرة. فنشاطها الروائي يضعها في مقدمة الدول المنتجة لسينما جادة وجيدة، ووثائقياتها متباينة المستوى بين عام وآخر. وذلك ينطبق على الجزائر التي قدمت روائع روائية كـ”بابيشا” لمنية مدور و”أبو ليلى” لأمين سيدي بومدين، لكنها اكتفت في الوثائقيات بتحفة حسان فرحاني “143 طريق الصحراء”.

وقد شارك المغرب بدوره في مهرجانات محلية وعالمية بأفلام روائية من قبيل “آدم” لمريم التوازي و”سيد المجهول” لعلاء الدين الجم، واكتفى بوثائقيات قليلة من بينها “مكان تحت الشمس” لكمال عيطونة، ويحكي الفيلم عن مجموعة أصدقاء يعملون في التجارة المتجولة في زنقة الجزائر بمدينة تطوان يقررون تأسيس جمعية لحماية حقوقهم بعد إنشاء مركز تجاري قرب المكان الذي يعرضون فيه سلعهم. وإلى جانب هذا الفيلم هناك أفلام قليلة لا يمكن مقارنتها بالمنجز الروائي في مطلق الأحوال.

 

الوثائقي المصري.. سؤال التراجع والركود

أما عن مصر فلا يزال السؤال عن تراجع سينماها وقلة مشاركتها في مهرجانات عالمية يتكرر، ويضاف إلى سؤال التراجع موضوعيا سؤال الوثائقي وسبب ضعفه وقلة حظوظه حتى في الساحة المصرية، فحصيلة ما أُنتج منها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، والجيد من بينها قليل.

يمكن الإشارة إلى ثلاثة كَثُر الحديث عنها هي: “الشغلة” لرامز يوسف، و”في أستوديو مصر” لمنى أسعد، و”إحكيلي” لماريان خوري (الفائز بجائزة الجمهور في الدورة الـ41 لمهرجان القاهرة السينمائي). وهي أفلام لا يتعدى أحسنها درجة الوسط أو المقبول، وهو ما يُبقي السؤال عن واقعها وكيف يمكن تجاوز ركودها قائما وبحاجة إلى جواب شافٍ.

 

الأردن.. محاولات تستحق الإشادة

على المستوى العربي عموما -وبشكل خاص في الدول التي يقل فيها الإنتاج السينمائي- نلاحظ شح الوثائقي، ويستثنى من ذلك الأردن الذي يقدم بين فترة وأخرى أفلاما جيدة، نذكر منها المعروض في العام الماضي (2019)، وهو فيلم “أرواح صغيرة” للمخرجة دينا ناصر، وتناولت فيه أوضاع أطفال سوريين اضطروا مع أهاليهم للعيش في مخيمات أردنية. وقد رافقتهم المخرجة طيلة أربع سنوات، وواكبت التحولات التي طرأت على حياتهم، والنتيجة فيلم جيد المستوى.

 

أمريكا.. ريادة الإنتاج العالمي

عالميا ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية تنتج أفلاما وثائقية كبيرة، وهذا نابع من قوة الصناعة السينمائية لديها وقدرتها على تحقيق أرباح منها، على عكس ما تعانيه السينما الوثائقية في مناطق أخرى من العالم.

الميزة الأخرى للإنتاج الأمريكي هو قدرتها على الإحاطة بموضوعات متباينة؛ من الآني إلى التاريخي، ومن العلمي والطبيعي إلى الاجتماعي والسياسي دون أن يقل مستوى أي منها.

يمكن ملاحظة ذلك من الأفلام نفسها المعروضة في العام الماضي (2019) وبعضها يتنافس على جوائز الأوسكار، مثل فيلم “مصنع أمريكي” الذي يتناول حالة خاصة تتعلق بالمتغيرات الاقتصادية التي يشهدها العالم وبروز الصين طرفا قويا فيها. ومن خلالها يعرض صانعه التصادم بين الرؤى المتعلقة بمفهوم “الرأسمالية” بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية.

وهذا المنجز الرائع لا يقل مستواه عن “أبولو2” العلمي المضمون المشغول بأدوات سينمائية لا تتوفر إلا عند الجهة القادرة على تغطية تكاليفه وضمان استرجاعها من السوق السينمائي العالمي والمحلي.

 

أوروبا.. خصوصية تنبع من عراقتها

بقناعة خاصة تُنتج أوروبا وثائقياتها، وبخصوصية نابعة من عراقتها، ويبرز التيار الروسي قويا بينها إلى جانب دول شرق أوروبا التي بدأت تضع أقدامها على مسرح الوثائقي بعد طول انقطاع، واللافت رسوخ حضور سينما دول أوروبية صغيرة مثل الدانمارك والنرويج والسويد وبلجيكا.

ولا يمكن حصر المنجز الأوروبي والغربي عموما بسهولة لسعته وتنوعه، لكن يمكن الإشارة إلى أعمال مهمة من بينها أثارت جدلا، كالبريطاني “المحصن” للمخرجة “أورسولا ماكفارين” الذي تناولت فيه شهادات عن المتحرش الجنسي المنتج “هارفي واينستاين” وظهور حركة “وأنا أيضا” (Me Too) الأنثوية، وشاركت في إنتاجه هيئة الإذاعة البريطانية.

ومن بريطانيا جاء أيضا “مارادونا” لـ”أسيف كاباديا”، ويعد من بين أفضل الأفلام التي تناولت جوانب من حياة أسطورة كرة القدم الأرجنتيني “دييغو مارادونا”.

كما قدم المخرج الدانماركي الألمعي “مادس بروجر” تحفة استقصائية عن مقتل الأمين العام السابق للأمم المتحدة بحادث طائرة بعنوان “قضية هامرشولد الباردة”، ولا يقل عنه أهمية وروعة الفيلم الروسي “جنازة رسمية”، ولا الصيني “أمة الطفل الواحد”.

 

أمريكا اللاتينية.. روائي معتبر ووثائقي خجول

في أمريكا اللاتينية هناك ما يشبه التباين الكبير بين مستويات الروائي والوثائقي الموجود في عالمنا العربي، فرغم وجود سينما روائية مهمة جدّا في دول القارة فإنها تفتقر إلى الوثائقي الذي يوازيها، وهذا لا يمنع طبعا من ظهور وثائقيات مفردة رائعة كالمكسيكي “عائلة منتصف الليل” للمخرج “لوكا لورنتزن”، ويذهب الفيلم لرصد ظاهرة تتمثل في عوائل مكسيكية تعمل بالأجرة في تقديم خدمات طبية كقيادة سيارات إسعاف أهلية وما شابه. وجاءت الفكرة نتيجة لقلة المتوفر من سيارات إسعاف لدى بلدية مكسيكو سيتي، وهذا يعكس بدوره حالة من ضعف الخدمات المقدمة للمواطن، وإلى مشكلات اجتماعية تتفاقم باضطراد.

 

آسيا الواعدة.. أفغانستان مثالا

يُلاحظ على الجانب الآسيوي التطور الحاصل في صنعتها الوثائقية، ويمكن أخذ أفغانستان مثالا، فهذا البلد المُقل إنتاجيا بسبب الظروف القاهرة التي يمر بها لا يتوقع أحد أن تخرج منه وثائقيات مهمة، إلا أن هذا حدث وظهر في نهاية العام قبل الأخير في فيلم “كابل.. مدينة في الريح” لمخرجه أبوزر أميني.

وفي السنة الماضية (2019) جاءنا من أفغانستان “مسافر منتصف الليل” لحسن فاضيلي، وهو تحفة بصرية مصورة بعدسات كاميرات محمولة سجلت رحلة المخرج وعائلته إلى خارج البلاد هربا من حركة طالبان التي هددته بالقتل بعد إخراجه فيلما عن رجل ترك صفوفها.

ورُصدت الرحلة التي امتدت من آسيا إلى أوروبا بكاميرات بسيطة، لكنها لم تخلُ من جماليات وضعت المنجز في مكانة جيدة، وقوبل باستحسان نقدي كبير، وبمزيد من الدعوات للمشاركة في مهرجانات سينمائية مهمة.

 

منطقتنا.. بعيون أجنبية

على جانب آخر، ثمة أعمال آسيوية وغربية اهتمت بما يجري في منطقتنا، وحاولت توثيق أحداثه بموضوعية وبعيدا عن النمطية التي رافقت نقلها في فترات سابقة، ومن بينها الفيلم الإيرلندي “غزة” حيث ينقل صانعاه “جاري كين” و”أندري مكانيل” واقعا آخر تعيشه المدينة غير ذاك الذي تنقله وسائل الإعلام، وهو واقع يعكس رغبة أهلها في العيش بسلام.

والفيلم الألماني “واقع آخر” الذي ينقل حال مهاجرين في ألمانيا -وبعضهم من أصول عربية- من منظور مختلف، عبر مجموعة من الشباب الذين دخلوا عالم الجريمة، وبعد أن أمضى بعضهم أعواما في السجن، فهم يريدون الآن التصالح مع واقعهم ونبذ تاريخ طويل من العنف لم يحصدوا منه سوى الندم.

وفي هذا المجال هناك الكثير من الأفلام تتباين مستوياتها، لكن أغلبها ينشد تنوير مجتمعاتها بحقيقة ما يجري في هذا الجزء من العالم.

 

الوثائقي العربي.. محاولات جادة وتطور مستمر

الوثائقي العربي في مرحلة تطور، وهناك محاولات جادة ترى النور يوميا، مما يسهم في تغيير نظرة المشاهد والناقد للفيلم الوثائقي، وتساعد مشاركاته في المهرجانات العالمية والعربية على انتشاره ونشر الثقافة السينمائية الوثائقية معه، كما يساعد الدعم المادي المقدم منها لصُنّاعه -وبشكل خاص الشباب منهم- على خوض تجربة الوثائقي.

وفي هذا الصدد يمكن ملاحظة كثرة المحاولات في حقل الوثائقي القصير، لكن الجيد منها قليل، وبعض السينمائيين الشباب يعتبر العمل على القصير تمرينا نحو الروائي، وهو ما يضعف منجزهم، فالفيلم القصير له مواصفاته السينمائية التي ينبغي التعامل معها بجدية وبفهم أنها كمنجز إبداعي لا تختلف عن الروائي أو الوثائقي الطويل.

الوثائقي العربي ما زال لم يصل إلى مستوى الروائي لأسباب قد أشرنا إليها، وأكثرها إعاقة ضعف الإنتاج، كما أنه يواجه صعوبة في التوزيع بعد اكتماله.

 

سؤال الحراك الشعبي.. هل مِن وثائقيات ترصده؟

في العام المنصرم شهدت الجزائر والعراق ولبنان حراكا شعبيا ينشد التغيير، وامتلأت الساحات بالمحتجين، رافقهم سينمائيون حملوا كاميراتهم لتسجيل تلك اللحظات. فهل سيظهر ذلك التسجيل في أفلام وثائقية قريبا؟

هذا سؤال مستقبلي، لكنه شديد الصلة بالحاضر ويتعلق بالعراق بدرجة أكبر، فلبنان أثناء وبعد الحرب الأهلية قدم سينما مهمة ربما شكلت موضوعات الحرب سمتها الأكبر، على عكس العراق الذي يشهد متغيرات وأحداثا جساما لم ير العالم انعكاسها على الشاشة إلا في حدود بسيطة، وأغلب من يقوم بهذا الدور مخرجون مقيمون في الخارج، وهو أمر محير على السينمائيين العراقيين الإجابة عليه خاصة وأن البلاد متخمة بثيمات وموضوعات وثائقية شبه جاهزة تنتظر فقط من يأتي ويوثقها. والسؤال نفسه مطروح على السينمائيين الجزائريين الذين سبق لهم وأن جسدوا ثورتهم التحررية من نير الاستعمار بعدد من الأعمال السينمائية المهمة.

الإسهامات الوثائقية من الدول العربية الضعيفة الإنتاج عموما والتي تنقصها الخبرة السينمائية؛ ما زالت قليلة العدد، لم تقدم الكثير نوعيا، لكنْ ثمة حراك سينمائي أردني لا بد من الإشارة إليه، فهو واعد.