“سحر ما فات في كنوز المرئيات”.. فيلم أفسدته السياسة والنفاق

كلما ذكر اسم المخرج المصري مدكور ثابت في حضوري تساءلت بكل أمانة عن عدم معرفتي بأعماله إذ كان يقدَّم أحيانا كأحد الأسماء المعروفة في السينما المصرية، ويقول البعض في السينما العربية عامة. وبلغ بي الشك أنني لمت نفسي على بعض التقصير إذ لا يعقل لمن يعنى بالسينما أن لا يكون عارفا بتجربة مهمة في مصر، ومصر بالذات.

 

وذهب بي التساؤل ومحاسبة النفس حتى اتهامي بالأحكام المسبقة إذ غالبا ما أعتبر أن مخرجا يتبوأ مراكز مسؤولية وخاصة في دولة عربية لا يمكن -أو لنقل من الصعب جدا- أن تنتظر منه شيئا يذكر في ميدان الإبداع الفني.

وبالفعل فإن للسيد مدكور ثابت تاريخا معروفا بالإدارة السينمائية المصرية وخاصة المراكز ذات البعد السياسي منها. فقد مر بالجامعة من خلال التدريس ثم الإدارة على رأس جامعة الفنون، كما تولى إدارة المركز القومي السينمائي وتربع لسنوات على رأس الإدارة العامة للرقابة على المصنفات الفنية. وهنا مربط الفرس؛ إن كنت تؤمن بالسينما فلا بد أن تكون لك القناعة التامة بأن الفن والرقابة لا يلتقيان.

المخرج “مدكور ثابت” أثناء تكريمه في مهرجان مسقط السينمائي 2010

ومع ذلك سعيت إلى مشاهدة الفيلم الجديد لهذا المخرج وعنوانه “سحر ما فات في كنوز المرئيات” وقد عرض لأول مرة في افتتاح مهرجان يعنى بالسينمات العربية في عرض دولي أول. وازدادت مخاوفي عندما علمت بالأمر، ففيلم مصري جديد لا يُهمش بهذا الشكل إن كان له طرح جدي. فالسينما المصرية بمحاسنها ومساوئها لها من القدرة ما يمكنها من اكتساح أي مهرجان مهم وعلى الأقل من بين المهرجانات العديدة والمتعددة في الدول العربية.

وثائقي يقلّب في دفاتر مصر السياسية

والحقيقة تقال إن موضوع الفيلم يشد الانتباه لا محالة. فالملخص الذي حصلت عليه قبل أن أشاهد الفيلم زاد فضولي وتسلحت بأكثر الأحاسيس إيجابية. فعندما تقرأ بأن في هذا الفيلم الوثائقي يقلّب المخرج في دفاتر بلده السياسية والسينمائية معا على امتداد 100 عام -أي منذ اختراع السينما وإلى غاية اليوم- لا يمكنك إلا أن تقول ما شاء الله، عمل جبار في ميدان يسهل فيه الانزلاق. فليس لأي كان أن يقرأ تاريخ دولة عربية دون المساس بمصالح بعض أصحاب النفوذ متى تحلى ببعض النزاهة.

وقلت في نفسي إن كثيرا من الأنظمة تسمح بالنقد طالما جاء من الداخل وبعض المخرجين يقدرون في لحظة وعي أن يرتفعوا بالخطاب السينمائي ولو داخل أكثر الأنظمة رجعية.

من الأرشيف السينمائي مفاجآت من العيار الثقيل عن الأزمنة المتعاقبة، حيث يبدأ من صور التقطها الأخوان لوميير عن أول قطار يطلق صفارته في مصر، ليمر بالعهد الملكي، ثم ثورة الضباط الأحرار وتولي محمد نجيب السلطة، مارا بسنوات حكم عبد الناصر والسادات، إلى أن يبلغ عهد الرئيس محمد حسني مبارك.

هنا قلت: إن كان هناك في الفيلم عيار ثقيل في تاريخ مصر، فسيكون والله فيلما من عيار أثقل.

فهو يقدم الفيلم على أنه مقاربة طريفة وتقدمية لتاريخ مصر، حيث نقرأ “وفي هذا العمل الوثائقي الكبير، تتشابك المشاريع التنموية مع الحروب والدسائس والمؤامرات، وتتقاطع دروب مصر بين ملكية حزينة سقطت بعد طول ترنح، وجمهورية لم تكتمل.. إلخ”. وهنا تساءلت: ألا يبعث هذا على الأمل في عمل سينمائي جدير بالاحترام.

بهذه الأحاسيس الإيجابية والاستعداد النفسي الأكثر إيجابية أقدمت على مشاهدة الفيلم، وكلما تقدمت في المشاهدة بدأت كل هذه الإيجابية تتلاشى وتترك الفضاء لخيبة الظن أولا، ثم تحولت إلى إحساس بالغضب، وحتى الغضب أضحى في النهاية ردة فعل أكثر مما يستحقه هذا الفيلم.

“فيلم سحر ما فات” وثائقي أفسدته السياسة والنفاق

فالنص الذي قرأته لم يكذب في وصف المحتوى، ولكن زاد في تجميل النية، معطيا الفيلم ومخرجه نوايا هي أبعد ما يمكن في نظري عن الخطاب الخطر الذي يحمله هذا الفيلم. فمن السهل أن يعتقد مخرج أن بإمكانه تلخيص قرن من التاريخ أو ربما يتخيل أنه سهل. ولكن ما هو صعب هو تقديم قراءة لهذا التاريخ تكون ليس فقط موضوعية بل وأمينة، بمعنى أنها لا تغطي عين الشمس بغربال. وهذا للأسف ما لم يقم به الأستاذ الدكتور مدكور ثابت، وهذا ما لم نلحظه في فيلمه الأخير.

دور الصورة.. بين القول والفعل

يبدأ الفيلم بسرد أفكار متداولة وبديهية عن دور الصورة وأهميتها في التاريخ المعاصر للفنون، والأهم دورها في إظهار الحقائق. ثم يؤكد المخرج -الذي يتدخل من خلال التعليق على الصور- أن المخرج النزيه هو الذي يعمل على التدقيق والتفحص في الصور التي تؤرخ لمرور الزمن والسياسات. في الواقع لا يختلف اثنان على هذا، فالمشكلة في نظري هي: هل المخرج الذي يقول هذا يفعل ما يقول؟ وحتى عندما نراه يمثل ويمسك بأشرطة أفلام فإن القول والفعل ليسا إلا مبالغة.

فلم أتقدم في المشاهدة كثيرا حتى رسخت لدي قناعة بأن الإجابة سلبية للأسف. بل لقد انتابني إحساس بأن تكرار هذا المبدأ والتأكيد عليه هو في الواقع تعبير عن شيئين اثنين: الأول أن المخرج لا يفعل ما يقول فعلا وهو واع بذلك، إذ لا يكفي أن تقول إنك تتفحص الصور لأن تكون فعلا من المتفحصين.

الثاني أن هذا الوعي مرفق برغبة تغريرية بالمشاهد، فالقناعة بنزاهة الصور في حين أنها تحمل خطابا “بروباغنديا” باتخاذ وجهة نظر تجميلية للتاريخ المصري في خدمة بعض الأطراف دون أي مساحة انتقادية هو تلاعب بالحقائق.

من حق الدكتور مدكور ثابت أن يعبر عن قناعاته الشخصية من خلال السينما طبعا. لكن لا داعي لإعطاء الدروس في نزاهة العمل السينمائي وهو مكرس لخدمة نظام سياسي بطريقة بعيدة كل البعد عن الاستقلالية. وربما لهذا السبب بدا الفيلم خاويا من أي عمق فكري أو جمالي.

فيلم أم درس في التاريخ؟

يعرف المخرج -كما يعلم الجميع- أن سرد التاريخ بتفاصيله مستحيل، لذلك اختار التوقف عند محطات مهمة في تاريخ مصر. وهذا ما يتعلمه الطلبة في معاهد السينما والتلفزيون. ولكن هنا تكمن مسؤولية المخرج في الخطاب الإجمالي للفيلم، ويؤكد ذلك الكلام الذي يرافق الصور، فيبدو أن الفكرة الأساسية للفيلم تمجيد لمصر، وليس المقصود هنا التقليل من ذلك.

لهذا بدا الفيلم كأنه تجميع لبعض المشاهد حسب تسلسل الأحداث دون تقديم قراءة عميقة لها. لكأني بالمخرج نسي أو تناسى أن الأمر يتعلق أساسا بعمل فني لا بوثيقة تربوية موجهة لتلامذة المدارس الابتدائية. وهذا هو الخلط الذي نعيبه على هذا المخرج أو على الأقل في هذا العمل.

مشهد من حرب أكتوبر في فيلم “سحر ما فات”

لعل الإيجابي في العملية هو تمكن الأستاذ الدكتور مدكور ثابت من الحصول على صور لم تكن في حوزة الأرشيف المصري بل كانت محتكرة من قبل بعض المؤسسات الفرنسية والإنجليزية.

ولكن هذا دور مدير المركز القومي للسينما لا دور المخرج الذي يطرح على نفسه مشروعا فنيا وفكريا وثقافيا. والأكيد أن الدكتور ثابت يعرف جيدا الفرق بين الاثنين. ففي العادة لا تستهويني الكتابة عن الأفلام التي لا تعجبني. ولكن عندما يتعلق الأمر بعمل يحمل خطابا خطيرا يهزأ بالفن والثقافة مكرسا مبادئ التخلف والرجعية فإنه يصبح من الواجب أن نقول على الأقل إن هذا لا يعقل في القرن الواحد والعشرين.

ولا نملك هنا إلا أن نتفق مع بعض ما قرأناه. حيث يكتب أحمد شقير (القاهرة): “فقد يكون هناك جهد مبذول في تجميع اللقطات السينمائية، ولكني لم أشعر بأي جهد فني تم بذله في تنفيذ الفيلم.

فـ”فيلم سحر ما فات” للأسف أفسدته السياسة والنفاق.