وظائف الأغاني في السينما الهندية

منذ بداياتها، وحتى اليوم، ترتبط السينما الهندية بعلاقةٍ عضوية لا فكاك منها مع أغانيها، قليلةُ جداً تلك التي تخلت عنها طواعيةً، أو مُرغمةً، يمكن القول، بأنّها تمتلك ثلاث وظائف رئيسية :
ـ درامية، جمالية، وترفيهية.
ويتوّجب علينا الحذر في منح الأسبقية، الأهمية، أو الأفضلية لواحدةٍ عن الأخرى.
هي تساهم في استقطاب الجمهور، ونجاح الفيلم تجارياً، ويحرص المنتجون على الترويج لأفلامهم عن طريق بثها قبل عرضها في الصالات التجارية، يمكن إذاً سماعها، ومشاهدتها منفصلةً عن السياقات الحكائية لأصولها، كما حال الأغاني المُقتطعة من الأفلام العربية التي تحولت إلى أعمالٍ فنية قائمة بذاتها (فيديو كليب).
يحتوي الفيلم عادةً على خمسة أغاني على الأقلّ، وللوهلة الأولى، يبدو بأنّ الوظيفة الترفيهية تُشكل قاسماً مشتركاً، وتحتلّ الصدارة، ولكنّ المُشاهدة الاحترافية قادرة على إدراك ضرورتها في هذا المكان، أو ذاك من الأحداث، أو تواجدت عنوةً بدون أن تُسبب أضراراً مُعتبرة للمتفرج.

إذا اقتطعنا أغنيةً من فيلمٍ ما، ولم تتغير أحداثه، سوف ندرك فوراً هدفها الترفيهيّ، ولكن، إذا كان الفيلم نفسه يرتكز على تلك الفكرة، سوف تقودنا هذه الحقيقة إلى التأكيد بأنّ الوظيفة الترفيهية للسينما جزءٌ من فعل المُشاهدة نفسها.
عندما تتردد النخبة على صالات السينما لغاياتٍ تعليمية، ثقافية، وتربوية،… لا يمكن أن نطلب من الآخرين التعامل مع الأفلام بنفس الطريقة.

التسلية، الترفيه، وقضاء الوقت نشاطاتٍ إنسانية تتضمّن ظاهرياً، وباطنياً المتعة، وهي متاحة للجمهور في أيّ فيلم، وكلما استخلص إيجابياتٍ أكثر، كلما كان الفيلم أفضل، واحتفت به الثقافة السينمائية، وأصبح علامةً في تاريخها.

يرتكز الشغف بالسينما الهندية على عناصر ترفيهية تمنحها له، ويشاهدها المُعجبون بذائقةٍ مختلفة، وحتى يمتلكون القدرة على إدراك جوانبها المُمتعة أكثر من متفرج عاديّ، أو محترف يمقتها، أو يتعالى عليها، وتتباهى السينما الهندية بجاذبيةٍ خاصة تسحر الملايين إلى حدّ اعتبار الممثلين بمثابة أنصاف آلهة، وبناء معابد سينمائية خاصة بهم.

من جهةٍ أخرى، تتضح الوظيفة الدرامية عندما تصبح الأغاني جزءاً من الأحداث، بدونها، يتزعزع البناء الدراميّ، ويمتلك كتاب السيناريو، والمخرجون الهنود موهبة تحويل حدثاً ما إلى أغنية.

كما تضفي الوظيفة الجمالية على الأحداث بهجة، وخلال تاريخ السينما الهندية، تطورت أساليب السينمائيين في إخراج الأغاني، كما التقنيات، وذوق الجمهور أيضاً.

الفنّان الهندي الراحل “شاميي كابور” في فيلمه “جانجلي”

هذه القراءة المحكومة بمساحةٍ محددة، هي خلاصة مشاهدة أغاني مُقتطعة من مجموعة أفلامٍ تمّ إنتاجها خلال الفترة من عام 1961 وحتى 1970، وكانت وقتذاك تنتقل من الأبيض، والأسود نحو الألوان.

كانت الأغاني، ومازالت، الوسيلة المُثلى للتعبير عن مشاعر الشخصيات، عواطفهم، أفراحهم، وأحزانهم، وتستعيض الأفلام عن الحوار المباشر بالكلمات المُغناة، الموسيقى، والرقص، وبفضلها، يلتف المخرجون على الرقابة الصارمة التي تمنع إظهار القبلات، والعلاقات الجسدية على الشاشة حتى بين المتزوجين (العلاقات المُتعددة، والخيانة الزوجية نادرة في قصص، وحكايات السينما الهندية)، وهي قوانين رقابية قديمة تستند على عاداتٍ، وتقاليد مُتجذرة في الثقافة الهندية، تدعمها قناعة الممثلين أنفسهم، وحتى الجمهور، وهي فرصة للتحايل عليها بأساليب إخراجية تنضح بالكثير من الجمال، تجعلها تتخطى اللحظات العادية إلى حالاتٍ وجدانية بدون أن تتخلى عن شهوانيةٍ يتفنن المخرجون الهنود في إظهارها، وهي عادةً أقوى تأثيراً من أيّ لقطاتٍ مباشرة، ونمطية .
في تلك الفترة، كان المخرجون الهنود يصورون الأغاني في ديكوراتٍ داخلية، حتى وإن كانت أحداثها تدور في حدائق متخيلة من عوالم ألف ليلة، وليلة كما الحال في أغنية (Baharon Phool Barsao) من فيلم (Suraj لمُخرجه “ت. براكاش راو”، إنتاج عام 1966).

سينمائياً، كانت الأغاني مشبعةً بكلّ أنواع حركات الكاميرا (ثابتة، بانورامية، على رافعة،..)، وأحجام اللقطات (كبيرة، متوسطة، وعامة)، ومونتاج يجمع هذه المفردات في إيقاع بطئ غالباً (ما عدا حالات الرقص)، يناسب الأجواء الرومانسية التي كانت تغلب عليها.
لم تكن ملابس الشخصيات الرئيسية (العشاق) تتغير كثيراً، وفي معظم الأحيان، تحافظ الأغنية على وحدة الزمان، والمكان.
وحتى عندما يغني عاشقٌ جالساً بين أعضاء فرقة موسيقية، تُعوض حركات الكاميرا المتنوعة، والمونتاج عن ثبات حركته، والمكان الواحد (أغنية Aye Meri Zohra Jabeen في فيلم Waqt لمُخرجه “ياش شوبرا” ، إنتاج عام 1965).

كانت الأماكن الأثيرة لتلك الأغاني الحقول، الغابات، والحدائق،.. الطبيعة الأخاذة بشكلٍ عامّ، وأيضاً القصور الباذخة، والبيوت الفخمة، وحتى الفقيرة (أغنية Khilona Jan Kar  في فيلم Khilona لمخرجه “شاندر فوهرا”، إنتاج عام 1970)، لكنها لم تبتعد كثيراً عن المعابد، والشوارع .

وبدون الدخول في علاقة الماء بالطقوس الدينية الهندية، يمكن اعتبار الأمطار واحدة من الاستخدامات الجمالية، والدرامية الأكثر تجسيداً للرغبات بين الشخصيات الرئيسية.

لا تخلو تلك الأغاني من الهزل الذي يطبع الممثلين الرجال خاصة، كما الحال في أغنية Mujhe Duniya Walo من فيلم Leader لمُخرجه “رام موخرجي” من إنتاج 1964، الحبيب “ديليب كومار” ثملاً يغني في صالون قصر فاخر بين عددٍ كبير من المدعوّين متغزلاً بحبيبته “فيجايانتيمالا” بمُصاحبة موسيقى تمتزج فيها الإيقاعات الهندية مع رقصة الفالس.

وطوال تاريخها، برعت السينما الهندية في تركيب جغرافيا، وشخصياتٍ سينمائية، وتعوّد الجمهور بأن تتوقف الأحداث فجأةً عن تدفقها السرديّ الطبيعي، وتنساب أغنية تجسّد أفكار، وخيالات الشخصيات الرئيسية، تحققها الأغاني بدون إبطاءٍ، أو حرج.

في أغنية Aaj Phir Jeene Ki من فيلم Guide لمخرجه “فيجاي أناند”، وإنتاج عام 1965، العاشقان في شاحنة ممتلئة بأكوام من القش، الحبيبة “وحيدة رحمن” تغني لحبيبها “ديف أناند”، وفي لقطاتٍ تالية نشاهدهما يمتطيان جمالاً تتهادى بهما في موكبٍ فلاحين، وفي لحظاتٍ تالية، نراهما يتنزهان في أماكن أثرية، ومعابد مهجورة، لقد تمّ التصوير في ديكوراتٍ خارجية متعددة، ومكلفة إنتاجياً، ولا يبخل منتجو الأفلام الهندية في الإنفاق على الأغاني، ولأسبابٍ جماهيرية معروفة، ومحببة، يتعمدون التصوير في بلدانٍ أخرى، وكانت سويسرا الأكثر جذباً لهم في الستينيّات.

رُبما يتذكر المُغرمون، والكارهون للسينما الهندية فيلم Junglee لمُخرجه “سوبود موخرجي” من إنتاج عام 1961، ذاك الفيلم الذي شاهده الملايين أكثر من مرةٍ ليس من أجل حكاية حفظوها عن ظهر قلب، ويمكن معرفتها بدون مشاهدة الفيلم أصلاً، ولكن، بهدف الاستمتاع بأغانيه، ومنها (chahe koi mujhe junglee kahe)، تلك الأغنية الرائعة، والطريفة التي كنا نرددها صغاراً بدون معرفة معاني كلماتها، و”شامي كابور”، وحبيبته “سائرة بانو” يتقلبا فوق الثلوج البيضاء، وهي، كالعادة، تتمنع، وتشيح بوجهها خجلاً، وهو يدفئ قبلها بكلمات غزلٍ يتصنع أداءها بكلّ الطرافة، وخفة الظلّ التي يُجيدها، والنشاط الذي تطفح بها حركاته، وإيماءات وجهه التي كانت تخفق لها قلوب النساء في تلك الفترة، وكنا نقلده كي نحظى على ابتسامة إحدى بنات الجيران، وعندما تخيب آمالنا، نعود إلى الصالات كي نغرق في أحلام يقظة كانت تقدمها لنا الأفلامٌ الهندية بكرم، وسخاء .