العراقي الذي كذب على العالم !

أمستردام – محمد موسى
من معضلات الافلام التسجيلية الاستقصائية، بخاصة تلك التي تتناول قضايا راهنة، هي حساسيتها الكبيرة للتطورات التي قد تشهدها هذه القضايا، والتي يعقب بعضها تصوير تلك الافلام، الى الحد الذي يسلبها اهميتها احيانا. فطبيعة تلك الافلام، والتي تسعى لكشف حقائق جديدة لمشاهديها والوصول معه الى خلاصات والعثور على اجوبة، تخوض احيانا تنافسا مع التركيبة التقليدية للتحقيق الصحفي او التلفزيوني. هذه المنافسة لا تكون في صالح الفيلم التسجيلي الاستقصائي بالعادة، بسبب تحول الاخير سريعا الى جزء من الماكنة الاخبارية المتواصلة، والتي تصبغه بالآني وتفقده روح الوثيقة التاريخية الطويلة الآجل.
من الافلام التسجيلية التي عانت من تصاعد احداث القضية التي يتناولها، وإلتفات الاعلام الشعبي للموضوعة، هو فيلم المخرج الدنمركي بول – أيريك هايلبوث ( الرجل الذي ادخل العالم للحرب بالكذب). فقبل الانتهاء من العمليات الفنية الخاصة بالفيلم، قامت الشخصية الرئيسية في القضية التي يتناولها الفيلم، بالتوجه الى الاعلام العالمي، متحدثة لعدة صحف ومحطات تلفزيونية اوربية وامريكية، الامر الذي حول جزء مهم من الفيلم التسجيلي الى مايشبه العودة الى آخبار قديمة، بل ان المطلع على قصة الشخصية الرئيسية، لا بد أن يشعر بالاسف على الوقت الذي سيضيع من وقت الفيلم ووقته ايضا، وخاصة في المشاهد التي يتسائل فيها المخرج عن الاسباب التي دفعت شخصيته للاقدام على فعل جسيم كالذي قامت به؟ ودواعي الاختفاء عن العالم والذي بدأ قبل عقد من السنوات؟ ولماذا لم يبدي الندم على فعلته؟ كل هذه الاسئلة تم الاجابة عليها في مقابلة مفصلة مع الشخصية المعنية قبل اشهر من عرض الفيلم التسجيلي.
يضع الفيلم، الذي كان ضمن احد البرامج الخاصة في الدورة الاخيرة من مهرجان “أدفا” للفيلم التسجيلي في العاصمة الهولندية امستردام، وعرضته قناة “كنفاس” التلفزيونية البلجيكية مؤخرا، هدفا واضحا لمهمته التحقيقية، وهو ايجاد المهندس العراقي، الذي طلب اللجوء السياسي في المانيا في عام 1999، وقدم عندها معلومات خطيرة عن اسلحة بايولوجية يقوم نظام صدام حسين باخفائها بمركبات متحركة. هذه المعلومات، والتي قامت المخابرات الالمانية بتمريرها الى المخابرات الامريكية وقتها، ستتحول بعد عام 2001 الى احد المصادر التي ستعتمد عليها الحكومة الامريكية لتبرير حربها القادمة على العراق. بل إن الكلمة الشهيرة لوزير الخارجية الامريكي السابق كولن باول في مجلس الامم المتحدة تضمنت إشارات الى شهادة المهندس العراقي.
قصة هذا العراقي ومكانه الحالي سيتحولا الى “لغز”، ليس فقط للمخرج الدنمركي، فالصحافة الالمانية نفسها اهتمت كثيرا بايجاده. لكن المخابرات الالمانية، وباجراء متوقع، قامت باخفائه تماما، ومنعت وصول الاعلام اليه، قبل ان يتغير هذا في شتاء العام الماضي، عندما اقدم هو نفسه، وربما بالاتفاق مع السلطات الالمانية المختصة، على كشف هويته، واعترف باختلاقة قصة الاسلحة العراقية المحظورة، دون أن يبدي ندما على فعلته، فهو مازال يؤمن ان إسقاط النظام العراقي السابق يستحق الثمن الذي يدفعه العراقيين منذ حرب عام 2003 ولليوم.

رغم السرية التي احاطت بها الاجهزة الامنية الالمانية قصة المهندس العراقي، إلا معلومات قليلة تسربت عنه الى الاعلام الالماني، وهي التي سيستند عليها فيلم (الرجل الذي ادخل العالم للحرب بالكذب) في بحثه، الذي يقوده في النهاية الى بيت العراقي في أحدى المدن الالمانية الصغيرة. لكنه، اي المهندس العراقي يرفض الحديث للمخرج، ويتصل بالبوليس، الذي يسرع بابعاد فريق الفيلم عن المنطقة كلها.
كان يمكن للفيلم التسجيلي ان يكون كارثة لمخرجه والجهة الانتاجية التي تقف خلف، لو لم يفرد جزء من وقته للتحقيق في الاسباب التي جعلت شهادة المهندس العراقي تملك كل تلك الاهمية وقتها ، رغم ، وكما كشف بعض الذين تحدثوا للمخرج من المسؤليين الامنيين الامريكيين السابقين وسفير المانيا السابق في الولايات المتحدة الامريكية، بان السلطات الالمانية نقلت للامريكيين وبعد اشهر من شهادة المهندس العراقي، إن تحقيقاتها الخاصة الالحقة ومراقبتها لسلوك الشاب العراقي جعلها تشكك كثيرا في شهادته. لكن الادارة الامريكية لم تولي وقتها اي اهتمام لنصائح الالمان.
تحقيق الفيلم في قصة الشهادة ، ستاخذه الى وجهة غير متوقعة قليلا، فهو يصل الى نتائج تتضمن نقدا عنيفا للادارة السياسية الالمانية ( والتي اخذت موقفا حاسما شهيرا ضد الحرب الامريكية البريطانية على العراق)، فلماذا لم تقدم الحكومة الالمانية في الاشهر التي سبقت الحرب، وخاصة عندما كان سياسيتها العلنية ضد تلك الحرب القادمة تلقى شعبية كبيرة في المانيا واوربا، على كشف شكوكها بخصوص قصة المهندس العراقي ؟ هذا السؤال يبقى بدون اجابة، فالسلطات الالمانية الرسمية ترفض اصلا الاعتراف بقصة المهندس العراقي.
يهيمن هدف الوصول الى مكان المهندس العراقي على معظم وقت الفيلم التسجيلي، ليبدو هذا الهدف احيانا وسيلة لاضافة اثارة مفتعلة على المشروع التسجيلي. فالفيلم يسافر مثلا الى العراق، في محاولة للوصول الى عائلة المهندس. تلك السفرة لن تؤدي الى اي نتائج كبيرة، لا على صعيد مقابلة العائلة، او النبش في ماضي المهندس العراقي قبل تركه بلده وتوجهه الى المانيا.
يمكن الآن ، وبسبب كشف المهندس العراقي لهويته في مقابلات عدة في العام الماضي ، ذكر اسمه الصريح هنا ( يدعى رافد احمد علوان الجنابي) ، وهو الامر الذي كان الفيلم سيقوم به على اي حال ، رغم الخطورة التي تنطوي عليها خطوة كهذه ، بتعريض الشخص المقصود الى مخاطر جمة ، خاصة بغياب التاكيدات الكافية للمخرج وفريقه ( وكما بدا في الفيلم على الاقل ) ، بان الشخص الذي قام باختلاق قصة الاسلحة العراقية هو الشخص الذي قام المخرج بتتبع اثاره في عدة مدن المانية ، قبل ان يجده في النهاية ، يتمشى وحيدا في شارع مدينة المانية صغيرة ، في نهار يوم صيفي ، بعيدا كثيرا عن العراق ، والذي يتهم الآن بانه احد اسباب الحرب التي دمرت الكثير منه ، وأهلكت عشرات الألف من أبنائه.