“الجيش الأحمر”.. لاعبو الهوكي المخلصون الذين تمرّدوا على التقاليد السوفياتية

خارج مسابقة مهرجان “كان” السينمائي عام 2014 شاهدنا الفيلم الوثائقي الأمريكي “الجيش الأحمر” (Red Army)، الذي أخرجه الأمريكي ذو الأصل الروسي “جابي بولسكي”، وهو أحد الأفلام النادرة التي تدور في عالم الرياضة، لكن ليس من الممكن اعتباره فيلما رياضيا، بل إنه يدور حول تقنيات لعبة من الألعاب الرياضية، وهي في هذا الفيلم تحديدا لعبة “هوكي الجليد” التي يمارسها اللاعبون بواسطة مضارب طويلة وهم يتزلجون فوق سطح ملعب مغطى بالجليد.

يتخذ الفيلم خصوصيته من تفرده في اختيار الموضوع والمادة، والنفاذ إليهما من زاوية إنسانية سياسية مثيرة لاهتمام المتفرجين حول العالم، فهو ينطلق من خصوصية الموضوع الرياضي، لكي يروي قصة أخرى لا تتعلق فقط بالبطولات والمنافسات الرياضية، وما يدور عادة وراء كواليس اللعبة، بل يكشف بمهارة عن ما وراء تلك البطولات الرياضية من معاناة إنسانية، ثم يتسع الفيلم لكي يروي -على نحو ما- قصة سقوط النظام السوفياتي، مع المحافظة على خصوصية الموضوع والشخصيات والأحداث.

ولعل من أكثر ما يجعل هذا الفيلم عملا ممتعا ونموذجا فريدا للفيلم الوثائقي الحديث، هو اعتماده على قصة تكمن في داخلها عوامل درامية كثيرة تشد المشاهد، وتقدم له في الوقت نفسه كثيرا من المعلومات التي يجهلها، سواء عن “هوكي الجليد”، أو عن الجوانب الداخلية التي كانت خافية في المجتمع السوفياتي، واشتباك الرياضة بالسياسة وبالجيش وبالحرب الباردة بين المعسكرين، وكيف كان يتعين أن يدفع الإنسان الثمن في النهاية.

الجيش الأحمر.. جنود السوفيات في المعارك الرياضية

يشير عنوان الفيلم على نحو مجازي إلى فريق هوكي الجليد السوفياتي الذي كان تابعا للجيش الأحمر، وكيف كان يُعد لكي يصبح ضمن رياضات أخرى كثيرة في الاتحاد السوفياتي السابق؛ مجالا لإثبات التفوق السوفياتي في الإعداد والتنظيم، ودليلا عمليا على نجاح فكرة “العمل الجماعي”، وهي من أركان النظرة الشيوعية التقليدية، مع إنكار الذات والتخلي عن الروح الفردية، والعمل معا كفريق متجانس متحد من أجل تحقيق الهدف. لقد كان الهدف بالطبع دعائيا، وكان التفوق والفوز والحصول على البطولات يخدم السياسة الخارجية السوفياتية، لكن كانت لهذه السياسة في الوقت نفسه أضرار كبيرة أصابت اللاعبين أنفسهم.

ويشير عنوان الفيلم “الجيش الأحمر” إلى فريق هوكي الجليد الذي اعتبر الأنجح من بين كل الفرق الرياضية في الاتحاد السوفياتي، ويحمل العنوان مجازا ساخرا حينما يعتبر أن فريق الهوكي يختصر الجيش السوفياتي كله، فقد كان في الصدارة يخوض المعارك الرياضية مع الغرب.

يقدم المخرج موضوعه في سياق فني ممتع تشيع فيه روح السخرية والدعابة والمرح، خاصة وأنه يعتمد على المواجهات المباشرة مع اللاعبين السابقين في الفريق، ومع المدرب العقائدي المتشدد “بافل كروتكوف” الذي كان يتلقى تعليماته -كما يقول في الفيلم- من المكتب السياسي للحزب الشيوعي مباشرة، وهو يعترف هنا بأنه كان يكتب التقارير عن اللاعبين أثناء رحلاتهم إلى الخارج، وكان مكلفا بالقيام بكل ما يمكنه من أجل منع انشقاقهم ولجوئهم للغرب.

“فيتيسوف”.. لاعب الهوكي المخلص الذي أصبح متمردا

يروي صاحب الشخصية الرئيسية في الفيلم اللاعب الروسي البارز “فياشسلاف فيتيسوف” الذي كان قائدا لفريق هوكي الجليد السوفياتي كيف كان اللاعبون مرغمين على البقاء في معسكر التدريب طوال السنة، فلا يسمح لهم بمغادرة المعسكر إلا يومين كل شهر، وكيف كان المسؤولون يضمون اللاعبين في سن مبكرة، ليندمجوا داخل المعسكر بغرض تذويب شخصياتهم الفردية، وصهرهم جميعا في بوتقة واحدة، بحيث يصعب وجودهم خارج منظومة الفريق الواحد.

ولعل مما يقرب الفيلم من المشاهدين، رغم ما قد يبدو من غرابة ظاهرية في موضوعه؛ اعتماده على بطل، حيث نرى الأحداث معظم الوقت من وجهة نظره، من خلال تلك المقابلات الصعبة التي أجراها المخرج معه، وكثيرا ما تعرض للرفض والاعتراض والسخرية المباشرة منه أيضا، بل ومن الأسئلة التي يوجهها إلى ضيفه كما نشاهد.

نجح “فيتيسوف” مع فريقه في انتزاع بطولة العالم سبع مرات، ولم يهزم إلا مرة واحدة أمام الفريق الأمريكي في 1980. وقد التحق بشبيبة الجيش الأحمر وهو ابن 8 سنين وأصبح شيوعيا مخلصا، ويروي الآن -وهو في عامه الثامن والخمسين- كيف أدرك بعد كل ما حققه من نجاح أسطوري، أنه لا يمكنه التعايش مع المنظومة السوفياتية التي تحكم عالم الرياضة والمجتمع بأسره، فأصبح متمردا ضد سياسة التعنت البيروقراطي، ونظام التشكك والمراقبة والعقاب الصارم، مما أدى إلى فتور حماسه وتعرض فريقه للهزيمة، وحينها تعرض للاعتقال والضرب المبرح كما يروي، وأصبح زملاؤه يتجنبون الحديث إليه، ووضع تحت الرقابة اللصيقة.

هجرة الرياضيين.. صراع الحرب الباردة يفسد الرياضة

يرى “فيتيسوف” أيضا أن الحرب الباردة لم تكن عن الخوف كما يُروج، أي خوف كل طرف من الآخر، بل كان جوهر الصراع اقتصاديا. ويروي كيف اضطر الاتحاد السوفياتي بعد اشتداد الأزمة الاقتصادية في منتصف الثمانينيات بعد إعلان السياسة الجديدة التي عرفت بـ”البريسترويكا” و”الجلاسنوست” (أي الانفتاح السياسي والاقتصادي) التي أعلنها “جورباتشوف”؛ إلى بيع بعض اللاعبين لبلدان الغرب، وذلك لتغطية العجز في ميزانية الإنفاق على الرياضة في البلاد، ولم يكن الاتحاد السوفياتي يمانع طالما ظل اللاعبون يشاركون مع الفريق الوطني في المباريات الدولية.

 

لا يركز الفيلم على “فيتيسوف” وحده، بل يتناول جميع أعضاء الفريق، ويصور ويوثق رفض ثلاثة منهم المشاركة في بطولة العالم، ما لم يشارك “فيتيسيوف” بعد اعتقاله ومنعه من اللعب في الخارج، وقد نجحوا في ذلك بالفعل.

أما زميله وصديق عمره “كازاتونوف” -الذي كان عضوا بارزا في الفريق- أدانه علانية فيما بعد، ووقف ضده ولا يزال حتى يومنا هذا، خصوصا بعد أن تقدم “فيتيسوف” بطلب في أواخر الثمانينيات للسفر إلى الولايات المتحدة للعب ضمن فريقها الوطني، ونجح بعد صعوبات في تحقيق مأربه، وظل هناك سنوات، قبل أن يعود إلى روسيا ويتقلد منصب وزير الرياضة في حكومة “بوتين” حتى 2008.

ضابط المخابرات.. أسرار من كواليس الحرب الرياضية

لا يعتمد الفيلم فقط على الحوارات الصعبة الشيقة التي يجريها المخرج من وراء الكاميرا مع “فيتيسوف”، وكذلك زميله وصديقه القديم “كازاتونوف” الذي لا يزال باقيا على موقفه منه، ومع مدرب الفريق “كروتكوف”، بل هناك أيضا مقابلات موزعة على مسار الفيلم مع ضابط سابق في المخابرات السوفياتية “كي جي بي”.

ويروي ضابط المخابرات السابق بوضوح أمام حفيدته الصغيرة -التي لا تكف عن مداعبته طيلة الوقت- كيف نجح الأمريكيون في إقناع اللاعب السوفياتي الشهير “ألكسندر موجيلني” باللجوء للغرب عام 1989، مقابل مليون دولار.

يستخدم المخرج كثيرا من القصاصات الصحفية والصور الفوتوغرافية والحوارات ولقطات الأرشيف المصورة، ومنها لقطات نادرة من زمن “خروتشوف” و”بريجنيف”، ولعل من أهمها تلك اللقطات التي تصور تدريبات فريق هوكي الجليد داخل معسكر الجيش الأحمر، وكيف كانوا يتدربون على التعامل بالمضارب فوق الجليد، وكأنهم فريق للرقص التعبيري على طريقة باليه البولشوي الشهير، بل يتردد في الفيلم أنهم كانوا بالفعل يستلهمون من فرقة البولشوي في تحركاتهم، فقد استطاعوا في تلك الفترة جعل اللعبة نوعا من الفن الرفيع، لا تتميز فقط بالقوة والقدرة على الحركة في تناغم تام بين أعضاء الفريق، بل تقدم أيضا عرضا ساحرا يثير الإعجاب والحسد.

صور الفيلم.. رحلة بديعة بين الأرشيف والمقابلات

يعرض الفيلم موضوعه في علاقته بالتطورات السياسية في الاتحاد السوفياتي من خلال الصور واللقطات التي نشاهدها، وينتقل من لقطات للمباريات الشهيرة التي خاضها الفريق، مثل مبارياته مع الفريق الكندي ثم الأمريكي، إلى حوارات مع شخصيات مختلفة، ثم إلى لقطات تسجيلية للأحداث الكبرى مثل انقلاب أغسطس/آب عام 1991 الذي فشل، واستقالة “غورباتشوف” في 25 ديسمبر/كانون الأول 1991، ثم إلى لقطات ليلية لمدينة موسكو، تظهر بين فترة وأخرى، من أجل إتاحة مساحة للتنفس بين أجزاء الفيلم المختلفة.

وتتردد في الفيلم معلومات كثيرة، مع استخدام طريقة الكتابة على الشاشة وطبع الصور المزدوجة، واستخدام الكاريكاتير والرسوم. ويقول التعليق الصوتي إنه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك دوله الـ15، تقلّص الدعم المالي الذي أصبحت الدولة الروسية تقدمه للرياضة عموما، ولرياضة الهوكي بوجه خاص، مما دفع 500 لاعب روسي للذهاب إلى الخارج.

يتميز الفيلم فنيا بإيقاعه السريع، وسيطرة مخرجه على مادته رغم تشعبها وتعقيداتها، بحيث ينجح من خلال المونتاج في دفع الحركة إلى الأمام، مع تعاقب خلاب للصور، وجرأة في الاحتفاظ بما لا يحتفظ به السينمائيون عادة من لقطات، خاصة تلك التي يظهر فيها “فيتيسوف” وهو يسخر من المخرج، أو يشير إليه في استهجان.

“الجيش الأحمر” عمل وثائقي ممتع يصلح تماما للعرض على الشاشة الكبيرة والشاشة الصغيرة معا، وهو “اكتشاف” حقيقي لموهبة مخرجه “جابي بولسكي” الذي لم يقدم قبله سوى فيلم واحد روائي، ولا شك أننا سوف ننتظر بشوق فيلمه القادم.