” الدراجات الهوائية ضد السيارات! “

قيس قاسم

مزاج المخرج السويدي “فردريك جِرتين” في عمله الجديد مختلف إلى حد كبير عما كان عليه في  فيلمه السابق “الأولاد الكبار راحوا.. باناناس” لأنه أُجبر وقتها وبسببه على خوض “معركة” صعبة مع واحدة من كبريات الشركات المتعددة الجنسيات: “دول” وعلى مستويين؛ شخصي وسينمائي.

لقد جندت أكبر شركة إنتاج زراعي في العالم كل طاقاتها المالية ونفوذها السياسي لمنع فيلم وثائقي، أنتجته شركة سينمائية صغيرة، يدور حول استخدام الشركة مبيدات كيمياوية ممنوعة ألحقت أضراراً فادحة بصحة مزارعي الموز في نيكاراغوا. أرادت إيقاف تصويره وبعد اكتماله، بعناد لافت، هددته بغرامات مالية كبيرة إذا أصرّ على عرضه، ومع هذا قدّمه فاضطرت الشركة إلى التراجع عن موقفها بعد خسارة دعوتها القضائية ضده وضد المشاركين معه في الفيلم من مزارعين فقراء.أُعد موقفه وعمله حينها انتصاراً للسينما الوثائقية ودليلاً على قدرتها خوض معارك عادلة.

اليوم وفي وثائقيه الجديد “الدراجات الهوائية ضد السيارات” لا يدخل طرفاً مباشراً  في الصراع الدائر بينهما بل يتخذ موقف المراقب له، الراصد لأبعاده التي تأخذ وبسرعة طابعاً كونياً يقترح لتجسيده سينمائياً القيام بجولات في مدن متعددة من العالم تعاني من سطوة السيارات الكاملة على شوارعها وتعمل الشركات المنتجة لها على إبعاد كل منافس محتمل لها من؛ دراجات هوائية أو غيرها من وسائل النقل.

شوارع العواصم والمدن الكبيرة هي أبطال الوثائقي دون منازع. حركة السير الدائمة، ليل نهار، وازدحامها الشديد في أوقات الذروة، لا تحتاج لتفكير كبير بزوايا التقاطها، فوحدها وبقليل من الموسيقى التصويرية المضافة إليها تغدو مشاهدها وسيلة تعبيرية تعوِّض عن آلاف الكلمات، وربما اللقطة الطويلة، الافتتاحية، لسيارة إسعاف حُشرت بين عشرات السيارات الشخصية العاجزة عن الحركة بسبب الازدحام الشديد مثالاً معبراً عن التناقض الصارخ فيها: فالسيارات التي من المفترض أن تكون في خدمة الإنسان أصبحت لكثرتها عائقاً أمام إنقاذ حياته.
 تلك الإحالة وغيرها ستُرى في نص سينمائي كُتب بروح طافحة بالسخرية المرّة. يحرص الوثائقي خلال تجواله في المدن الكبيرة على تبيّان حالة الصراع الجاري بين السيارات وبين الدراجات الهوائية. بين موقفي سائق السيارة والدراجة وفي مستويات متعددة.

المخرج السويدي فردريك جيرتين

فموقف الناشطين والمؤيدين لزدياة الإقبال على ركوب الدرجات الهوائية يستندون فيه على فهم فلسفي وموقف من العالم، الذي يتعرّض بسبب صناعة السيارات إلى كوارث بيئية تهدد حياة آلاف من البشر بالموت دهساً أو مرضاً. في حين يدافع محبو السيارات عن موقفهم بالحاجة إليها؛ اختصاراً للوقت ولمزيد من الراحة والرفاهية!
 بالتدريج يذهب “Bikes VS Cars” إلى عمق الصراع، الذي يريد صُناع السيارات والمستفيدين من بيعها وتوسيع طرقاتها تقديمه على أنها “حرباً” بينهم وبين المروِّجين للدراجات الهوائية وآخرين معهم يطالبون بتقليص إنتاجها والرهان أكثر على النقل العام، كحلّ بديل للمشاكل التي تُسبّبها السيارات الشخصية على وجه التحديد.
سيستعين الوثائقي أيضاً في مغامرة تناوله موضوعاً حديث المعالجة على المستوى السينمائي بشخصيات ذات صلة مباشرة به ومن بين الفريقين المتناقضين.

في ساو باولو البرازيلية يقابل واحدة من الناشطات في حركة “الدراجات الهوائية” أثناء مشاركتها في مظاهرة تطالب الحكومة البرازيلية بتخصيص مساحات قليلة من شوارعها لركاب الدراجات الهوائية بعد أن ارتفعت بينهم نسبة المدهوسين كثيراً خلال السنوات الأخيرة.
تأخذ الناشطة فريق العمل في جولة ميدانية تعرض لهم خلالها التوسيعات الكبيرة (جسور وممرات معلقّة وطرق خارجية سريعة) تشهدها شوارع المدينة لإتاحة المزيد من سرعة الحركة للسيارات الشخصية في حين تظهر باصات النقل العامة مهجورة وفارغة لسوء حالتها وغلاء تذاكر ركوبها لدرجة تدفعها للتساؤل عن السبب في ذلك، ولماذا طغت حركة السيارات على غيرها في المدينة بحيث وصلت نسبة السيارات فيها إلى ثلث عدد سكانها تقريباً!
 لا ينتظر الوثائقي الجواب من ذلك المكان الخانق فيذهب إلى لوس أنجلوس الأمريكية لمواصفات تاريخية خاصة بها. فالمدينة كانت تُعدّ في بداية القرن الماضي واحدة من بين أكثر المدن حباً للدراجات الهوائية وكان عندها أفضل نظام نقل عام في العالم، أما اليوم فيندر أن تجد من يركبها لأن شوارعها قد كُرّست بالكامل للسيارات الخاصة، كما انتهت بالكامل وسائل النقل العمومية فيها، وبشكل خاص “التراموايات” التي اشتُهرت بها.

سيظهر من تحرّيه عن أسباب الإزاحة أن شركات صناعة السيارات العملاقة مثل؛ “جنرال موتورز” و”شيفرون” قد خططت لذلك وتعاونت مؤسسات الولاية وسياسيها على تحقيق ما أرادته. لقد اشترت الشركات الكبيرة كل مؤسسات النقل العام في الولاية وبالتدريج قامت بتصفيتها، ليخلو الطريق كله لسياراتهم.
وسعّوا الطرق من مسارين إلى ستة مسارات وشجعّوا مُصمّمو المدينة على بناء مشاريع سكنية جديدة على أطرافها بحيث لا يمكن لأحد من سكانها الوصول إلى عمله في المدينة دون سيارة، ما سبب زيادة مهولة في حجم الإنتاج الذي لم يتناسب مطلقاً مع زيادة السكان كما تشير الإحصائيات التي سيستعين بها الوثائقي في كل مكان يُخضعه للفحص.

حجة المنتفعين من صناعة السيارات أن الإقبال عليها يعود إلى رغبة الناس في العيش براحة ويسر. يقدم الوثائقي عشرات اللقطات الدعائية التي تبيّن السعادة الطافحة على وجوه الناس وهم يتنقّلون بسيارتهم بين المدن مع عوائلهم وكلها توحي بأن لا وجود لوسيلة نقل أخرى في العالم غير السيارات. زيارته إلى كوبنهاغن جاءت ردّاً على كل ما سمعه من تبريرات في لوس أنجلوس، فقسم كبير من سكان المدينة الأوروبية يتنقّلون ويذهبون إلى عملهم بواسطة الدراجات الهوائية.

فصل مصاحبة الوثائقي لسائق تاكسي في المدينة هو الأجمل فيه. حيث تركه يتكلم ويتذمر من سواق الدراجات الهوائية وجعل من كاميراته الداخلية التي نصبها داخل سيارته تبدو كما لو أنها “عيونه” التي يرى بهما حركة الدراجات المنافسه له على الطريق وقد لازمها بموسيقى تصويرية راقصة، كتبتها له خصيصاً “فلورنسيا دي كونتشيللو”، وهي تعكس سعادة الناس في تجوالهم الحر على الدراجات وتغيض وجودها سواق السيارات. يذهب حوالي أربعين بالمئة من سكانها إلى عملهم بالدراجات الهوائية والمساحة المخصّصة لها تزيد على مجموع المساحات المخصصة للدراجات الهوائية في الولايات المتحدة الأمريكية كلها. تُنظم حركة سيرها بأضوية مرورية تعطيها الأولوية على السيارات كما خصصت لها البلدية طرقاً “خضراء” تقابل الطرق الخارجية السريعة للسيارات، تسمح لراكبها بقطع ما يقارب عشرين كلم بالساعة دون توقف! ليست وحدها كوبنهاغن فهناك إلى جانبها مدن أوروبية يُطلق عليها تسمية: مدن الدراجات الهوائية مثل، أمستردام الهولندية.

من خلال بحثه يتوصل الوثائقي التنويري إلى حقيقة أن مدينتي أمستردام وكوبنهاغن ليستا مركزاً لصناعة السيارات وإلا لكان مصير شوارعها مثل بقية المدن المنتجة للسيارات! يقود البحث عن حقيقة هذا التشخيص الوثائقي إلى معرفة دور “اللوبي” الصناعي في ألمانيا، باعتبارها واحدة من أكثر الدول الأوروبية إنتاجاً للسيارات.
سيكتشف وجود مجموعة “لوبيات” تعمل على كسب السياسيين وإقناعهم بقبول المشاريع المقترحة لتوسيع أنظمة الطرق بما يتناسب مع زيادة إنتاجية شركات السيارات. يتوصل إلى حقيقة أن أحزاب سياسية كبيرة في ألمانيا، منها حزب المستشارة أنجيلا ميركل، قد تلقى معونات مالية من شركة “بي.إم.دبليو” أثناء حملاته الانتخابية الأخيرة، والأمر ذاته يحدث في تورونتو الكندية وكاليفورنيا الأمريكية.

يحصل الشريط على مجموعة تسجيلات تفضح مرشحين لإدارة ولايات أمريكية دافعوا بحماسة شديدة أثناء حملاتهم الانتخابية عن فكرة توسيع الطرق السريعة بما يتوافق مع تصورات مدراء شركات إنتاج السيارات الأمريكية المقرّبين من المؤسسات الحكومية الفاعلة هناك لشدة ارتباط مصالحهم الشخصية مع مصالح تلك الشركات. ولأنه لا يريد الانحياز لجهة واحدة من الصراع يرجع إلى ساو باولو البرازيلية ليقابل نشطاء كانوا على موعد مع المحافظ الجديد للمدينة الذي أبدى تفهّماً لمطالبهم حول تخصيص مساحات من الشوارع لصالح الدراجات الهوائية.
في صباح أحد الأيام يستيقظ الوثائقي مبكراً ويسجل عملية صبغ مساحة من شوارع المدينة باللون الأحمر القاني. أخيراً حدث انعطاف رسمي لصالح ركاب الدراجات الهوائية ما سيزيد من قناعة الحركات الناشطة بأهمية وفعالية توجهّاتهم، وستشجعها على تنظيم أنفسها والقيام بضغط أكبر على السياسيين لقبول وجود الدراجات فيها، فالشوارع لم ترصف للسيارت الخصوصية فحسب، بل لكل وسائل النقل والبشر.

الازدحامات الخانقة التي تجبر السائقين على الانتظار داخل سياراتهم لمدة ساعة أو ساعتين أثناء فترة الذروة المرورية وفرّت بدورها مناخاً يقبل مناقشة فكرة التخفيف من عدد السيارات. فالطرق ومهما اتسعت لن تحلّ المشكلة. يستعرض الشريط في جولة مبهرة حول العالم حجم الطرقات في المدن الكبيرة وعجزها الدائم عن حل الاختناقات المرورية فيها، ويستنتج منها؛ أنه كلما توسعت الطرق ازداد عدد السيارات وتفاقمت المشكلة، التي لا حلّ لها كما يقترح الوثائقي، المتوقع له حضوراً قوياً في المهرجانات العالمية وقبولاً بين الجمهور، إلا بالتفهُّم  الجيد لطبيعتها التخريبية الشاملة ووضع مصلحة البشرية فوق مصلحة شركات صناعة السيارت وتشجيع الناس على ركوب الدراجات الهوائية ليصبح  وجودها في الشوارع واقعاً كما هي السيارات.