“الحياة لها قيمة”.. عنصرية بيضاء تعيد حياة السود إلى القرون المظلمة

تتجول الكاميرا في مدينة شبه مهجورة، دكاكينها مغلقة ورسومات الغرافيتي والشعارات المخطوطة على الجدران كلها تتحدث عن حقوق السود، وأن لون البشرة ليس جريمة، ولا يجب أن يكون كذلك.

صورة المدينة التي هي في الخيال على غرار المدن الأمريكية الباذخة بالرفاهية والجمال والخدمات والأضواء واكتظاظ الناس وحركة المواصلات تتهاوى أمام واقع مدينة أمريكية اسمها فيرغسون، من ولاية ميسوري الأمريكية التي تصدرت وسائل الإعلام ابتداء من صيف عام 2014، وصارت عنوانا للعودة إلى قضية الحريات المدنية والتمييز العنصري والعرقي ضد السود في الولايات المتحدة.

فيرغسون.. مدينة جريحة تكسر طوق الصمت

في هذا الفيلم الوثائقي “الحياة لها قيمة” للمخرج “أليكس برازوهينكوف” (إنتاج 2015) سندخل في مواجهة ذروة تلك الأحداث التي أثارت الرأي العام وقدمت صورا مقلقة عن الحقوق والحريات في الولايات المتحدة، وذلك على خلفية مقتل الشاب ذي البشرة السوداء “مايك براون” على يد أجهزة الشرطة في مدينة فيرغسون في شهر أغسطس/آب عام 2014.

تتلو ذلك تبرئة القاتل، وهو أحد رجال الشرطة، فتنطلق مظاهرات عارمة في المدينة وفي الولاية وفي عدد من الولايات الأخرى، فضلا عن تنديد عالمي من طرف منظمات حقوق الإنسان بالقرارات والإجراءات العنصرية المتحيزة ضد الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية.

يقدم الفيلم نماذج مختارة لأناس من سكان المدينة يعملون في مهن مختلفة؛ المرأة صاحبة صالون التجميل، صاحب محل الأثاث، ناشطون مدنيون مدافعون عن حقوق الإنسان، رعاة كنائس، فنانون وصحفيون، وكل منهم يسلط الضوء على جانب من جوانب الإشكالية المعقدة التي تعصف بموضوع إنفاذ القانون، ومدى استخدام القوة إلى درجة استغلال القانون، وصولا إلى القتل بشكل تعسفي.

مشهد من المظاهرات التي عمت المدينة بعد الحادث

لون البشرة يتحول إلى لعنة.. حياة السود المهددة

يروي “ريف شاربتون” أحد الناشطين في مجال حقوق الإنسان أن حياة السود هنا مهددة، ويمكن للمرء أن يهان بسهولة على أيدي رجال الشرطة من دون رادع، ويشعر الإنسان أن كرامته مهدورة، وهذه ظاهرة متنامية كما يقول، ليس في فيرغسون وحدها بل في أماكن أخرى.

في الليل والنهار تجول الكاميرا بصحبة الشخصيات في أرجاء المدينة، لكن الأبرز هو ما قدمه الموسيقي والطالب الجامعي “تروي دونالدسون” الذي شكّل راويا مصاحبا للأحداث ومرافقا للكاميرا في تفحُّص المكان.

هناك وسط أحراش مهملة وطريق تصطف على جانبيه بضعة بيوت يشير إليها “تروي” بأنها بيوت ذويه، فهذا بيت جده وذاك بيت عمه، وذاك بيت أحد أقاربه، لكنها كلها تبدو مثل بيوت أشباح، بيوت مهجورة وخربة.

يقول “تروي” إن التمييز العنصري وزحف البيض جعل هؤلاء السود أقلية منبوذة، ولا دور اقتصادي لها هنا، رجال الشرطة هم من البيض، ولا مكان للسود في المنافسة على وظائف مدنية، ثم تلوح مبان في وسط المدينة تصفر الريح من حولها، مبان يمرّ من حولها عاطلون ومدمنو مخدرات، وهما ظاهرتان مدمرتان تعصفان بالمدينة، بالإضافة إلى التمييز العنصري.

دعوات التسامح.. تكاتف الأديان ضد العنف الأمني

هذا المثلث بأضلاعه الكارثية خلّف مدينة مأزومة وشبه منسية، صرح بذلك “أنطوني شهيد” مدير المركز الإسلامي في المدينة، وهو يُعلِّق بمرارة على ما جرى من انتهاكات مروعة بحق المدنيين، وهو يربط نفسه بسلسة معدنية في طريقه للاعتصام والتظاهر رافعا لافتة عنوانها “حياتنا لها قيمة، ولا مزيد من القتل”.

وفي المقابل تبدو صرخات الكنيسة مثل صرخة في واد، فها هو “دارين باترك” يُلقي خطبه في جمع من رواد الكنيسة مشددا على أهمية التسامح وقبول الآخر والمساواة والعدالة الاجتماعية، وبينما هو مستغرق في الوعظ تطلق الشرطة تحذيرات عبر مكبرات الصوت في ليل فيرغسون بضرورة إخلاء الطريق من طرف المتظاهرين، قبل إنفاذ القانون بحقهم.

رفع المتظاهرون لافتات تندد بوحشية الشرطة

“إنهم يقتلوننا بأموالنا”.. ضرائب في جيوب الشرطة العنيفة

لا يخفي الموسيقي “دونالدسون” ذلك الأسى على مدينته المشلولة بالخوف والبطالة والمخدرات والإهمال، ويقول وهو ينظر إلى إحدى البنايات المتهالكة: إنهم يقتلوننا بأموالنا، هم يجمعون الضرائب ويجعلونها رواتب لرجال الشرطة الذين يُشهرون أسلحتهم في وجوهنا ويقتلوننا بكل وحشية.

يقول “رودني” تاجر الأثاث ذو الأصول الأفريقية إن معاقبة أي شخص بسبب لون بشرته هي من أبسط ما يمكن فعله في هذه البلدة العجيبة، ويقول إن الغرامات المالية تُفرض بلا رحمة علينا، فضلا عن التهديد المباشر بالسجن والضرب بالهراوات، لقد عدنا حقا إلى زمن التمييز العنصري، عدنا إلى ما قبل أربعمئة عام.

هذه الشكوى تجدها مثل لازمة تتكرر في صفوف المتظاهرين المنتشرين في شوارع المدينة في تلك الليلة الباردة من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، الكل يردد أن حياتنا لها قيمة وحياة السود لها قيمة، ولقد عدنا إلى أبشع مراحل العنصرية، حشود مكتظة، رجال شرطة متنمرون ينتظرون الإشارة للانقضاض على فرائسهم، الكلاب الأمنية متأهبة، ثم يبدأ إطلاق قنابل الدخان والغاز المسيل للدموع لتعم الفوضى والصراخ والهتاف على المشهد برمته.

تولد العنف من العنف.. صدمة العنصرية تصل إلى البيت الأبيض

ولأن العنف يستدعي العنف، يُظهر الفيلم لقطات لاعتداءات على محلات وعمليات نهب وحرق وتحطيم سيارات الشرطة وضرب الشرطة بالحجارة، وهو ما استدعى أن يظهر الرئيس “أوباما” أكثر من مرة متحدثا عن جدوى الترويع والترويع المتبادل، وجدوى إحراق الممتلكات والاعتداء على الأشخاص، وإلقاء القنابل الحارقة على منازل المدنيين، لكن الرئيس المصدوم من استمرار الممارسات العنصرية في أوساط الشرطة في تلك المدينة الهائجة لا يستطيع إلا أن يدعو إلى ضبط النفس والهدوء.

لعلها معايشة واقعية للمكان، معايشة تُقدم شكلا وثائقيا متماسكا وموضوعيا، في تتبُّع تفاصيل الحدث وانعكاساته، سواء من خلال مقابلة عدد من الأشخاص من سكان المدينة، أو من خلال ترك المدينة تتحدث عن نفسها.

فقد أصبح المكان أداة للتعبير عن جانب من فصول القصة، فالجدران تكتظ برسوم الغرافيتي، صورة “براون” الشاب المغدور، وصور شباب سود آخرين انضموا إلى قائمة القتل التعسفي، في مشاهد عنف تندرج تحت دعوى ملاحقة تجار المخدرات وعصابات القتل والجريمة المنظمة، ذلك هو العذر الذي تتشبث به أجهزة الشرطة وإدارة المدينة ومدن أمريكية أخرى شهدت فصول تلك المواجهات الشرسة.

وهناك على جدران فيرغسون ستجد ما يشبه السجل ليوميات المدينة، تُعلِّق فتاة من أصول صينية أنها تعيش في خوف، فالمطعم الذي تعمل فيه مغلق منذ مدة، وتلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورا مهما في الدعوة إلى التظاهر، وحتى لاستخدام العنف وهو الأمر الأكثر رعبا ورهبة كما تقول.

موسيقى الراب.. ساحة التعبير الخالد في مدينة كئيبة

على الجانب الآخر ينخرط بعض الشباب الساخط من كل ما يجري في فرق للراب يوثقون ما يحدث من خلال الغناء، أغانيهم تبث عبر الإذاعة المحلية مليئة بالشكوى والتمرد ورفض العنصرية، يعلق المغنون أنهم جاؤوا إلى هنا من أجل إطلاق أصواتهم لكي تكون الحقيقة مسموعة، إذ لا يكفي التظاهر، فالتظاهرة غالبا ما تفرق، لكن الأصوات عبر الإذاعات وإنتاج أغاني الراب لا ينتهي صداها، وهي تذكر بوقائع التمييز العنصري المرير الذي تعيش فصوله مدينة فيرغسون، مثلها مثل مدن أخرى شهدت نفس المأساة، لكن في صيغ أخرى.

في شارع المدينة قليل الحركة لا يظهر إلا بضعة صبية يمارسون لعبة كرة القدم على جانب الطريق، يعلق “تروي” أنهم هنا يلعبون في الشارع، لأن المدينة غير معنية بجيل كامل من الشباب والأطفال، وكأنها عقوبة للجميع، فلا توجد ملاعب مناسبة، وحتى المدرسة المجاورة في وضع بائس ليس بعيدا عنها، يشير “تروي” إلى أنها بناية مريبة لا نستطيع الاقتراب أكثر منها، لا نعرف بالضبط ما يجري فيها، لكن بالتأكيد هنالك ترويج أو اتجار بالمخدرات وربما جرائم أخرى، لكن لماذا انحرف هؤلاء الشباب إلى هذا السلوك؟

يتساءل “تروي” ليجيب بسبب الإهمال والتهميش والاحتقار والإذلال والعنف وصولا إلى القتل، هي مشاعر إحباط متراكمة يمكنك تلمُّسها أو الإحساس بها في مدينة كئيبة، تدب فيها الحياة تحت وطأة معضلات حقيقية تتعلق بالحياة المهدرة والكرامة الضائعة.