“سنودن”.. جندي المخابرات المتمرد يكشف خبايا البيت الأمريكي

في العام الماضي حصل فيلم “المواطن الرابع” (Citizenfour) على جائزة الأوسكار بوصفه أفضل فيلم وثائقي طويل، وكان الفيلم الذي أخرجته الأمريكية “لاورا بويتراس” يروي تجربة انشقاق الضابط الشاب في وكالة الأمن القومي الأمريكي “إدوارد سنودن” وقت وقوعها مباشرة، محذرّا من تدخل الوكالة مع غيرها من وكالات المخابرات وعلى رأسها “سي آي إيه” -التي عمل لها “سنودن” أيضا- في الحياة الشخصية للأفراد، والتدخل في شؤون الدول الأخرى، عن طريق اختراق وسائل الاتصال الحديثة.

يتحدث الفيلم الوثائقي عن “سنودن” بوصفه شابا ذا أفكار مثالية، ورؤية أخلاقية نادرة، فقد اختار أن يُعرّض حياته للخطر، وأن يتخلى عن حياة الرفاهية والنفوذ والمستقبل الذي كان ينتظره في عمله، ليصبح شريدا مطاردا يقيم خارج بلاده، مطلوبا بتهمة الخيانة وتقديم معلومات تخدم العدو، لكن الفيلم أيضا يتحدث عن تجربة المخرجة “بويتراس” التي اختارها “سنودن” نفسه، لكي تقوم بتوثيق قصة انشقاقه وهروبه وتداعيات هذه القصة المثيرة من خلال أسلوب الفيلم الوثائقي.

“أوليفر ستون”.. سيد الروائيات التي تكشف خبايا السلطة

التقط المخرج الأمريكي الشهير “أوليفر ستون” الخيط من “بويتراس”، وقرر أن يُحوِّل قصة انشقاق “سنودن” إلى فيلم روائي طويل بعنوان “سنودن” (Snowden) عام 2016، وقام ببطولته “جوزيف غوردون ليفيت”، وربما يكون هذا أفضل أفلام “ستون” وأكثرها اتساقا

لكن فيلم “سنودن” لا يشبه فيلم “قِتلة بالفطرة” بل هو في الحقيقة أقرب إلى الأفلام التي ظهرت قبله وصنعت مجد “أوليفر ستون” مثل “جي إف كي” (JFK) و”مواليد الرابع من يوليو” (Born on the Fourth of July) و”السلفادور” (Salvador)، فهو هنا يعيد إحياء تقاليد “هوليوود الليبرالية” التي خرج منها كثير من أفلام النقد السياسي الجادة منذ الستينيات وحتى يومنا هذا، وهي مصنوعة في سياق فيلم الحبكة المثيرة، ولكنها كانت تكشف الكثير من خبايا مؤسسات السلطة.

وكما كان “جي إف كي” يكشف فساد الحزب الجمهوري وكذب مؤسسة الرئاسة، وصولا إلى “ووتر غيت”، وكان “مواليد الرابع من يوليو” يكشف خيانة المؤسسة العسكرية لأبنائها، وكان “السلفادور” يكشف ممارسات مؤسسة المخابرات، وتستُّر وزارة الخارجية على “العمليات القذرة” في الخارج؛ فإن فيلم “سنودن” يركز من خلال تقنية أكثر طموحا -ربما بحكم أن الفيلم نفسه يدور حول “رجل التقنية الرفيعة”- على تحوّل شاب أمريكي طموح، من الولاء المطلق للمؤسسة -أي وكالة المخابرات- تحت ضغط الشعور الأخلاقي بالوقوع في التجاوزات التي تُسبّب الأذى للكثيرين.

ينطلق “سنودن” محذرا العالم من مغبّة تلك الممارسات القذرة التي تخفي الرغبة المسعورة في السيطرة، باستخدام أكثر الطرق والوسائل التكنولوجية المعقدة تقدما، بغض النظر عن ما يكمن في تطويع تلك الوسائل من خيانة للشعب الأمريكي أولا، واعتداء على الدول والأفراد في العالم أيضا.

“سنودن”.. عبقرية جندي ضعيف تبهر المخابرات

يبدأ الفيلم من نقطة مشابهة لما انطلقت منه مخرجة الفيلم الوثائقي عن “سنودن”، ولكنه يعود إلى الوراء، إلى ماضي الشخصية، ليروي لنا كيف بدأ “سنودن”، وكيف تطور على الصعيد المهني، ويقدم صورة مكثفة للعمل داخل وكالات الأمن والمخابرات، دون أن يهمل الجانب الشخصي في حياة بطله (علاقته بأسرته وبحبيبته).

ثم يُحلّل بأسلوب يتسّم بالوضوح والدقة والتدرُّج، كيف كان ممكنا أن يصل “سنودن” إلى ما وصل إليه، وما الذي حدث بعد ذلك، وما الذي دفعه لاتخاذ تلك الخطوة في عام 2013، وهي الخطوة التي قلبت حياته، بل يمكن القول أيضا إنها قلبت حسابات أجهزة المخابرات في الولايات المتحدة رأسا على عقب.

يتحوّل الشاب الأمريكي الطموح، من الولاء المطلق للمؤسسة -أي وكالة المخابرات إلى فاضح لأسرارهم

من 2013 الذي انفجرت فيه “قضية سنودن” يرتد الفيلم إلى 2004 لنرى كيف كان “سنودن”، مثله مثل بطل “مواليد الرابع من يوليو”، جمهوري وطني مخلص مُحبّ لوطنه، يفيض بالحماس لموقف المؤسسة في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، يؤيد غزو العراق، يدعم السياسة الأمريكية، يدفعه حماسه الوطني للالتحاق بالجيش، لكي يقاتل ضد أعداء بلاده في الخارج، لكنه أضعف من أن يصبح جنديا.

تنكسر ساقه أثناء التدريبات القاسية التي لا تلائم شخصيته، فهي تميل إلى التركيز الذهني، وليس استعراض المهارة العضلية التي لا تتوفر عنده على أي حال، بعدها يتقدم لشغل وظيفة في وكالة المخابرات الأمريكية، ويلفت الأنظار خلال المقابلة مع ضابط المخابرات العتيد “كوربن” بذكائه وألمعيته وقدراته الخاصة في مجال تكنولوجيا المعلومات، فيحصل على الوظيفة بعد أن يقول له “كوربن” إن الحرب الحقيقية القادمة ستكون ضد الصين وروسيا، وإنها ستعتمد كليا على تكنولوجيا المعلومات.

“ليندسي”.. فاتنة تمثل نقيض صانع التجسس

يبدأ “سنودن” علاقة عاطفية مع الفتاة الجميلة “ليندسي” التي تعتبر النقيض لأفكاره السياسية، فهي ترفض السياسة الأمريكية في العراق بشدة، في حين يُبرّرها هو ويدافع عنها، ولكنهما رغم ذلك يقعان في الحب، وسرعان ما تنتقل للإقامة معه.

“سنودن” يبدأ علاقة عاطفية مع الفتاة “ليندسي” التي تعتبر النقيض لأفكاره السياسية

تستمر علاقة الحبيبين حتى بعد أن تعرف طبيعة عمله، ثم ينتقل هو إلى وكالة الأمن القومي لكي يعمل في مجاله، وليتمكن فيما بعد من تصميم برنامج طموح للتجسُّس، كما سيتفتح وعيه على توظيف الذكاء التكنولوجي في الإطاحة بكل ما يسمى “حقوق الإنسان”، وسينتقل شعوره بالخطر إلى داخل منزله، عندما يدرك أنهم يراقبونه ويسجلّون له كل دقائق حياته، ومن هنا تبدأ رحلة انشقاقه وإعلانه للعالم ملايين الوثائق السرية التي تدين السياسة الأمريكية.

هونغ كونغ.. لقاء في الفندق الذي شهد انفجار الفضيحة

يستخدم “ستون” المونتاج المتوازي للانتقال بين الماضي البسيط والماضي البعيد والحاضر المعقد، أي بين ثلاثة أزمنة، وتتداخل هنا الصور السريعة المعقدة لأنظمة الحاسوب، وكيف تتركز عينا “سنودن” وتمرّ وتحفظ عن ظهر قلب كل ما يمرّ أمامها من معلومات ودقائق من تلك البرامج الخافية على معظم زملائه.

وسننقتل أيضا بين آونة وأخرى، إلى الفندق الشهير الذي لجأ إليه “سنودن” بعد هروبه من أمريكا، ويقع في هونغ كونغ، حيث يستقبل هناك المخرجة والمصورة “لاورا بويتراس” التي ستصور المقابلة الشهيرة معه، برفقة صحفي الغارديان البريطانية وزميله.

نتابع ما سبق أن شاهدناه تفصيلا مصورا وقت وقوعه في فيلم “المواطن 4″، ولكن مع إضفاء مزيد من التوتر والإثارة والإضافات الهوليودية المألوفة التي تضفي على تلك المشاهد طابع التشويق، وتجسد الشخصيات بشكل أكثر درامية.

مخابرات العصر.. لعبة جيل التكنولوجيا الحديثة

يصور الفيلم كثيرا من تفاصيل العمل داخل أجهزة المخابرات، وفي مشهد أو اثنين يطلعنا على ما يشبه مخزنا كبيرا داخل وكالة المخابرات المركزية، يضم كل أجهزة الحاسوب منذ الاختراع الأول الشهير الذي استخدم في التجسس، أي جهاز “إنيغما” الذي اخترعه البريطانيون لاختراق الشفرة الألمانية في الحرب العالمية الثانية، وهذا الجهاز له دور مركزي في فيلم “لعبة المحاكاة” (The Imitation Game).

يطلع “سنودن” من زميل له بمكاتب الوكالة في جنيف على أحدث البرامج السرية

ولكن الطريف أن إدارة المخابرات أسندت مهمة الإشراف على هذا المخزن -المعادل للأرشيف في المصالح الحكومية العتيقة- إلى ضابط متقدم في العمر يقوم بدوره هنا “نيكولاس كيدج” الذي يضيف نكهة كوميدية ساخرة إلى الشخصية، فهو يشعر بأن عصره الذي كان -أي عصر التقارير الميدانية والتحليلات التي تقوم على أوراق الصحف وشرائط الفيديو- قد انتهى، وأنه أصبح بالتالي مثل تلك الأجهزة العتيقة الموجودة في المتحف، أما العصر الحالي فهو عصر اختراق البيوت والمكاتب في العالم كله، من خلال التكنولوجيا الجديدة التي يُمثلّها جيل “سنودن”.

اختراق المنزل.. رعب يتسلل إلى كيان البطل ويهز الثقة

سيطلع “سنودن” من زميل له بمكاتب الوكالة في جنيف على أحدث البرامج السرية، ويضمن الحصول على أي معلومات أو صور أو تسجيلات صوتية أو رسائل بريد إلكتروني، من خلال الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر والكاميرات السرية، وحتى الكاميرات الموجودة في أجهزة الحاسوب المحمول. وفي لقطة ذات مغزى يطلب “سنودن” من “ليندسي” في منزلهما تغطية كاميرا حاسوبها المحمول، بعد تنامي شعوره الشخصي بعدم الأمان.

لقاء جماهيري مباشر مع سنودن في روسيا

وعندما يكتشف “سنودن” أن وكالات الاستخبارات تضرب عرض الحائط بالقانون الذي ينظم الحصول على المعلومات، وأنها حتى في حالة التقاضي تكون النتيجة دائما لصالحها وليست لصالح المواطن؛ تصبح هذه النقطة الفاصلة، عندها يقرر “سنودن” التمرُّد على المؤسسة، ويبدأ في التحول من اليمين إلى اليسار، أو من الخضوع للمؤسسة إلى الانقلاب عليها وكشفها أمام الرأي العام في العالم.

رحلة من الإيمان إلى الشك ثم التمرد.. قصة ترسم ماضي المخرج

الطريف أن هذه الشخصيات المتحولة -من الإيمان إلى الشك ثم التمرد- التي ينمو وعيها من داخل التجربة نفسها، هي من أكثر السمات التي هيمنت على أفلام “ستون” التي صنعت شهرته، ربما منذ “السلفادور” ثم “الفصيلة” (Platoon)، فقد كان “ستون” -على نحو ما- يجد نفسه في تلك الشخصيات، مراجعا ما وقع له شخصيا، بعد أن ذهب مدفوعا بحسّه الوطني للقتال في فيتنام، ثم عاد محبطا ليصبح شخصا آخر.

كما تحول من كاتب سيناريو يؤمن بفكرة التطهير الفاشي عن طريق العنف والدين -كما يتضح في فيلم “عام التنين” (Year of the Dragon) الذي كتب له السيناريو وأخرجه “مايكل شيمينو”- إلى أحد أهم مخرجي هوليوود المتمردين على النظام.

ومع ذلك يجب أن أستدرك لأقول إنه رغم قوة فيلم “سنودن” وبراعة “ستون” مخرجا وكاتبا مشاركا مع “كيران فيتزجيرالد” في كتابة السيناريو وفي دفع الأحداث بدقة بالغة داخل الفيلم، ورغم سيطرته المدهشة على الممثلين، خاصة “جوزيف غوردون ليفيت” في دور “سنودن”؛ فإن المرء لا يملك في النهاية إلا أن يتساءل -من خارج الفيلم-: وماذا كانت نتيجة تلك الضربة العنيفة التي وجهها “سنودن” إلى المؤسسة؟ هل توقفت “المؤسسة” عن ممارساتها أو قلّصت من تدخلّها في حياة الأفراد في الداخل الأمريكي أو في الخارج؟ وهل ساهمت ضربة “سنودن” في كبح جماح السياسة الأمريكية، أم أنها أفادت مؤسسات الإعلام التي عاشت وربما ما زالت تعيش على قصته، إلى أن تظهر بالطبع، قصة أخرى أكثر إثارة.