“ثقب في الرأس”.. إبادة جماعية لأمة اختارت العيش الحر في أوروبا

يضع فيلم “ثقب في الرأس” (A Hole in the Head) أوروبا أمام أسئلة أخلاقية وقيمية، لسكوتها المريب عن الإبادة الجماعية التي تعرض لها الغجر ومواطنوها الرُّحّل خلال الحرب العالمية الثانية، ودوام معاملتها لهم حتى اليوم مواطنين من الدرجة الثانية أو أدنى.

وإلى جانبها يقترح مخرجه “روبرت كريتشوف” إضافةَ الغجر إلى خارطة الإبادات الجماعية، على رغم تواطؤ أوروبا بشقيها الغربي والشرقي على مسحهم من جغرافية العذاب البشري بدوافع عنصرية كامنة وغير معلنة ضدهم، بينما تؤكد تجارب الناجين منها أنها لا تقل فظاعة عن شبيهاتها، لا من حيث الدوافع ولا الممارسات.

معايشة الغجر.. واقع يفضح انتقائية السياسات الأوربية

يمكن النظر إلى محاولة “كريتشوف” السينمائية على أنها معاندة لما أُريد محوه انتقائيا من الذاكرة الأوروبية، وذلك عبر ذهابه لتوثيق شهادات الضحايا وسماع قصصهم ومعايشتهم، دون الحاجة للرجوع إلى الأرشيف أو الاستعانة بالتعليق الخارجي.

فما صار عنده بعد رحلات طويلة بدأت عام 2003 -وشملت سلوفاكيا والتشيك وصربيا وكرواتيا وبولندا وألمانيا وفرنسا- يكفي لإضافة فصول جديدة إلى كتاب التاريخ الأوروبي، وعبرها يمكن مراجعة مواقف كثير من دولها الملتبسة وتعاملها المختلف مع مجموعة بشرية مسالمة من وسطها اختارت لنفسها طريقة عيش مختلفة عن عامتها.

وبالتالي فإن رفضها أو السكوت عن ما تتعرض له من انتهاكات يُعد وفق قيمها الفكرية مشاركة فيها، فهي مَنْ أكدت ذلك المبدأ ورسخته عمليا عبر إدانتها للفاشية، وعدم السماح بانبعاثها ثانية بالعمل الدائم على إحياء ذاكرة ضحاياها، وإبقاء شمعتها متوقدة على الدوام.

على الأساس نفسه راح فيلم “ثقب في الرأس” يكتب سينمائيا ما لم يكتبه غيره عن الغجر، ويضيف صفحات إلى مَنْ شاركه همّ البحث عن مظالمهم قبله، مثل المخرج الفرنسي الجزائري المولد “توني غاتليف” الذي جسدها في معظم أعماله الوثائقية والروائية، خاصة في فيلميه “الحرية” (Freedom) و”غاديو ديلو” (Gadjo Dilo).

الغجري العجوز “غوريم راتموند أحد الضحايا الغجر

وربما إلى جانبهما يكون منجز “ألكسندر فرونتي” الوثائقي “مونتريل بيلاي.. معسكر اعتقال الغجر المنسي” الأكثر قربا إلى منجز “كريتشوف”، لإشارته الواضحة إلى دور فرنسا الديمقراطية، ومشاركتها مع النازية في عمليات إبادة الغجر، وعزلهم في معسكرات اعتقال، وتحييها مجددا قصة” المريرة، وتحيل خلفياتها إلى طبيعة سلوك أوروبا مع مواطنيها خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها.

تسجيل الواقع.. تفاصيل الحاضر تعكس التاريخ المنسي

في كل محطة من محطات تسجيل الذاكرة الغجرية تظهر شخصية تعزز مصداقية القصص المحكية، وتشجع على إضافتها إلى ملف “التاريخ المنسي للإبادة”، مع أن صانعه لم يُولِ جانب التحقق في صدقية الحكايات عناية بقدر عنايته بتسجيلها.

ففي ظل غياب تسجيل حقيقي لتاريخهم يصبح الاستماع إلى حالة الغجر من أصحابها مباشرة؛ أهم آنياًّ من تمحيص تفاصيلها، لهذا ترك بينها الشاعري والخيالي والمدون عبر الموسيقى والغناء، فمهمته التي أخذها على عاتقه باعتباره سينمائيا تمثلت في الاستماع إلى شهادات الشهود، وعرض رواتها على الشاشة كما هُم، تاركا لجمهوره بعدها إعادة تصورها في أذهانهم وأمر تصديقها من عدمه.

صعوبة الوثائقي السلوفاكي التشيكي المشترك تكمن في تصديه لعملية توثيق تجارب شخصية متشابكة بقوة مع تاريخ مجموعة بشرية، ومن بين معوقات كتابة ما تعرضت له من ظلم ومحاولات إبادة؛ عزلتُها وقلة المتصدين لكتابتها وتوثيقها، سواء من داخلهم أو من خارجهم.

فكان اللجوء إلى مصاحبة شخصيات تصدت للمهمة؛ حلاًّ مساعدا فرض نفسه على متن النص السينمائي المعاند والصبور، والمتحلي بجماليات المَشاهد الواسعة واللقطات البعيدة والصور الشخصية المقربة والمعبرة بقوة عن دواخل أصحابها والمصحوبة على الدوام بموسيقى مذهلة.

نصب الغجر.. إحياء الإبادة النازية وتجاهل الجريمة الراهنة

أكثر الأمكنة التي جرى التصوير فيها كانت في سلوفاكيا والتشيك، ولوجود نصب تذكاري في سلوفاكيا يشير إلى ارتكاب مجازر جماعية ضد الغجر على أراضيها، وأيضا لما في المشهد من مفارقة تتمثل في تجاهل تاريخها الحديث، وعدم الإشارة إلى وجود مقابر جماعية دفنوا فيها، وإهمال فكرة التفتيش عن جثامينها، وهو ما يطرح أسئلة عن الأسباب الكامنة وراء ذلك السلوك.

فنانون غجر أسسوا معرضا دائما ومتحفا يقدمون فيه أعمالهم التشكيلية في صربيا

وقد دفع ذلك بعض النشطاء والمفكرين الديمقراطيين لأخذ مهمة البحث على عاتقهم، لا لتعاطفهم مع الغجر فحسب، وإنما بدافع رغبتهم أيضا في كتابة تاريخ بلادهم بمنطق عادل بعيد عن الانتقائية.

لهذا حرص الوثائقي على تسجيل أحاديثهم بالقرب من “النصب الحزين” عن إبادة النازيين الجماعية للقبائل الرُّحل، واكتفاء الأنظمة الاشتراكية بالإشارة إلى مسؤولية النازية الكاملة عن ما جرى لمواطنيها، دون مواجهة ذاتها بأسئلة شجاعة، مثل: كيف سنتعامل مع الغجر الباقين على قيد الحياة، وكيف سندوّن تاريخ إبادتهم ونوثقه؟

لقد أبقوا الأسئلة معلقة ليمهد الاستنكاف عن وضعها على الأرض لاحقا لممارسات عدائية ضدهم، ولتشكّل موقفا عاما رافضا للتعايش مع المختلفين معهم في أسلوب عيشهم، وقد جرى ذلك في تشيكوسلوفاكيا وفي بولندا وغيرها من دول شرق أوروبا، وكان موجودا أصلا في فرنسا التي تُحيل ملازمة الوثائقي الطويلة للغجري العجوز جوانبَ من تورطها.

كفاح المثقفين.. جيل جديد يحمل القضية ويأبى التهميش

كان العجوز الغجري مقتنعا بعدم جدوى نقل تفاصيل تجارب عائلته وحياته المتأثرة بنهايتهم داخل معسكرات الاعتقال إلى أولاده، ليس خجلا منها، بل رغبة في تجنب إشراكهم في آلام الماضي.

يفتح ذلك للوثائقي ممرا للوصول إلى وجهات نظر أخرى أكثر ميلا للتنظيم، والعمل على كتابة تلك المرحلة، وتقديم قضية الغجر ضمن مفهوم إنساني لا يرتضي التجاهل والتهميش، ويقوده جيل من المثقفين والمتعلمين الذين بادروا إلى توصيل قضيتهم بأساليب سلمية تتوافق مع طبيعة وإمكانات المجتمعات المقيمين فيها.

فخيار الحرية المطلقة ورفض العيش ضمن شروط الحضارة الغربية لم يعد مقبولا عند الكثير منهم، وهذا ما حاول الوثائقي عدم التفريط به، باعتباره مؤشرا على تنازع رغبات وأهواء مكونات المجموعة الواحدة.

آثار الجحيم.. معرض فني يرسم ذكريات الطفولة

أسس فنانون غجر في صربيا معرضا دائما ومتحفا يقدمون فيه أعمالهم التشكيلية، وتمس أكثر لوحاتهم جوانب من تجاربهم الشخصية من منظور الطفولة، فجل الباقين منهم اليوم على قيد الحياة كانوا خلال الحرب العالمية الثانية أطفالا، وقد دخل بعضهم مع عوائلهم إلى معسكرات النازية السيئة الصيت، وبعضهم الآخر شهد موت أهله على يد رجال جهاز الأمن “غستابو” والجيش النازي.

معرض فني في صربيا يسجل قصص الغجر بصريا من منظور الطفولة

ارتكانا عليها راح الوثائقي يسجل قصص الغجر بصريا من منظور الطفولة، لقدرتها على إضفاء مصداقية كبيرة على سيرة رواتها. يجتمع الرواة في تجارب طفولتهم المعذبة على تاريخ مشترك، يتمثل بالمشاهدة والمعايشة الحيّة، بينما يبقى كل واحد منهم حاملا ندبته الخاصة معه، وتبقى علامة في جسده تشير إلى مروره بالجحيم النازي، وخروجه منه حيا بمحض الصدفة.

كثير منهم ترك النازيون علامات بارزة على أجسادهم، كالثقوب التي حفروها في رؤوسهم بدوافع مختلفة، مثل إجراء تجارب طبية عليهم لغرض تغيير تركيبتهم الجينية، أو لضربة شديدة تلقوها على رؤوسهم، أو “دمغة” تسجيل أرقامهم في قائمة السجناء. ندبات يستحيل إزالتها، ولم يخطر في بال مُحدِثيها أنها ستصبح ذات يوم -وفي وثائقي- شاهدا ضدهم، ودليلا على شناعة ما فعلوه بأقوام مسالمين اختاروا الحرية أسلوبا لعيشهم.

صراع الشرطة الغاشمة.. رسالة إلى رئيس الجمهورية

قام صانع الفيلم “روبرت كريتشوف” بجولات كثيرة وعرض قصص العشرات ممن مر بتجربة السجن، أو انحدر من عائلة صُفيت في غرف التعذيب، أو تسممت بالغازات، وقد حقق بذلك هدفه بشكل بارع، فقد ذكّرنا بقصص نقلها غيره إلى السينما، وحاولوا خلالها توثيق تجارب الإبادة على مجموعات أخرى في أعمال منفصلة ومتباعدة غالبا.

بينما امتاز جهد “كريتشوف” ببانوراميته واختصاره عشرات القصص في عمل واحد مدته 90 دقيقة، وقد عرض فيه بشكل مدهش جزءا من إهمال استمر طويلا، وكسر بكتابة نصه المتميز حاجز الصمت الأوروبي المريب.

معسكرات الغجر التي سجنتهم أوروبا فيها

لم يرغب في قراءة الماضي فحسب، بل الحاضر أيضا، عبر نقل ومواكبة تجربة الرجل المسن وصراعه الآني مع رجال الشرطة الفرنسية، بعد انتزاعه عنوة من عربته التي ولد فيها، وضربهم له أمام أطفاله بذرائع باطلة لم يسكت عليها، فخرج بمظاهرات وسط الشوارع، ورفع قضية (رسالة) ضدهم إلى رئيس الجمهورية الفرنسية.

رفضه الاستكانة لمطالبتهم له بالعيش مثل البقية، ثبّتت خصوصيته بوصفه غجريا رحالا محبا للحرية، يحترم في الوقت نفسه حرية الآخرين، لهذا لم يجد تضادا بينه وبين بقية البشر، بل رأى فيه تنوعا وغنى كتب عنه، وذلك بعد اقتناعه لاحقا بجدوى توثيق التجارب الشخصية، وتحويلها نصا يصدر في كتاب.

وحش التطرف اليميني.. هاجس الخطر القادم يهدد الغجر

تجربة العجوز الغجري أعطت للوثائقي فرصة للربط بين ماضي الغجر بكل أثقاله ومآسيه، وبين الحاضر الواشي بمضي أوروبا على نفس النهج، إذا ما ظلت نظرتها متعالية رافضة للآخر المختلف، وهو ما يتعارض مع قيمها الديمقراطية والتعددية المعلنة التي طالما سَخر منها العجوز الغجري، لمعرفته بما فيها من رياء يخاف من عواقبه.

ليس العجوز وحده من انتبه إلى ذلك الجانب، فأغلب من شارك في الوثائقي على اختلاف مواقعهم حذروا من عودة التطرف اليميني المتعاطف مع الفاشية، وتوصلوا إلى قناعة مفادها أن سكوتهم على القهر والتمييز، سيشجع الآخرين على المضي أبعد في اضطهادهم.

لذلك فهم حريصون في نشاطهم التثقيفي، وفي محاضراتهم وكتاباتهم وأعمالهم الإبداعية على الربط بين صعود النازية الجديدة في أوروبا، وبين القبول أو التغاضي عن سلوكيات نابذة للمجموعات البشرية الأخرى -وخاصة الغجر- بذرائع شتى، كلها ستقود في النهاية كما علمهم التاريخ إلى إبادات بشرية جديدة.