“فصيلة الإخوة” العودة إلى أفغانستان

أمير العمري

أحدث الأفلام الوثائقية التي ظهرت عن الحرب في أفغانستان هو الفيلم الأمريكي “فصيلة الإخوة” The Legion of Brothers (2017) وهو من اخراج جريج باركر صاحب “المطاردة: القصة الداخلية لتعقب بن لادن” (2013). ولكنه هنا لا يبحث في تداعيات الحرب القائمة والممتدة في أفغانستان منذ عام 2001 حتى يومنا هذا ووقوع الكثير من القتلى في صفوف القوات الأمريكية العاملة هناك ضمن القوات الدولية، بل يلمس على نحو غير مباشر، تلك التداعيات “المأساوية” الناتجة عن أخطاء الحسابات السياسية، لكنه بدلا من الخوض في تفاصيلها، يشاء أن يبدأ من البداية الأولى.

يتوقف الفيلم خلال ما يقرب من 80 دقيقة أمام فصيلتين من فصائل القوات الأمريكية الخاصة التي تعرف بـ”القبعات الخضراء”، والتي أرسلت إلى أفغانستان بعد ثلاثة أسابيع فقط من أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، تحت غطاء السرية المطلقة، لتحقيق هدفين: الإطاحة بنظام طالبان، وتوجيه ضربة قاسمة لتنظيم القاعدة. لم يكن الرئيس الأمريكي جورج بوش (الإبن) قد أعلن بعد الحرب على طالبان، ولم تكن القوات الأرضية قد توغلت في الأراضي الأفغانية. كل ما أرسل من هذه القوات الخاصة المنقسمة إلى فرقتين لم يتجاوز 100 جندي. يركز الفيلم على فصيلتين منها تتكون كل واحدة من 12 فردًا. أولهما الفصيلة 595 التي توجهت إلى شمال أفغانستان، وكانت مهمتها تتلخص في الالتحام بجماعات المعارضة الشمالية المسلحة ضد طالبان، بزعامة عبد الرشيد دستم، ثم الاستيلاء على مدينة مظفر الشريف. أما الفصيلة الثانية رقم 574 التي شملت منطقة نشاطها جنوب أفغانستان فكانت مهمتها قيادة القوات الأفغانية المناوئة لطالبان بقيادة حامد قرضاي- الذي سيصبح – “رجل أمريكا” في أفغانستان ويتولى رئاسة الدولة- والاستيلاء على قندهار.

صورة لحامد قرضاي حاكم أفغانستان بعد سقوط حركة طالبان على يد القوات الأميركية بمساعدة قوات التحالف الشمالي عام 2001

يقسم المخرج فيلمه إلى فصول مختلفة، تحمل تواريخ كثيرة، تبدأ من لحظة وصول المجموعتين الى أفغانستان، ويعتمد الفيلم في السرد على المزج بين شهادات من أفراد المجموعتين، والانتقال حينا إلى أرض المعارك من خلال مشاهد ولقطات مصورة مباشرة أثناء العمليات العسكرية بكاميرات كان يحملها بعض الجنود، أو مصورة من طائرات الاستطلاع الأمريكية، مع لقطات أخرى مصنوعة لمحاكاة الأحداث على الأرض (من خلال اعادة التجسيد)، مع استخدام كثير من مواد الأرشيف، والخرائط، وصور الأقمار الاصطناعية، ورسوم الجرافيكس، ومقاطع من أخبار المحطات التليفزيونية الأمريكية. وبسبب كثرة المواد وكثرة الانتقالات غير المرتبة ترتيبا زمنيا في معظم الأحيان، يعاني الفيلم في بعض أجزائه من الاضطراب مما يؤدي إلى تشتيت ذهن المتفرج، لكن ما يبقيه مادة بصرية- صوتية مثيرة، تركيز مخرجه على نقل مشاعر الجنود بعد مرور خمس عشرة سنة على الأحداث التي يستعيدون تفاصيلها وانعكاساتها عليهم وعلى أسرهم.

الفيلم يبدأ بتجمع لهؤلاء المقاتلين السابقين في حديقة منزل أحدهم لتناول الطعام مع أبنائهم وزوجاتهم. يتحاور المخرج من وراء الكاميرا مع الجنود الذين يقصون أولا لماذا التحقوا بالجيش في البداية. يتحدث البعض عن ولعهم بأفلام الحرب ورغبتهم في القيام بعمل مفيد لبلدهم، ويروي أكثر من واحد منهم كيف تأثر بوجه خاص بفيلم “القبعات الخضر” The Green Berets الذي أخرجه وقام ببطولته جون واين عام 1968. ونشاهد بعض لقطات هذا الفيلم الذي أثار في وقته، ضجة كبيرة في الصحافة الأمريكية، بسبب تبريره قتل المدنيين في فيتنام واعتبر عملا دعائيا يبرر التجاوزات المرعبة التي ارتكبت فيما بعد في مذبحة “ماي لاي”. واتضح فيما بعد أن وزارة الدفاع الأمريكية كانت وراء تمويله وانتاجه.

من اليمين سكوت نيل أحد صناع الفيلم، ومارك ناتسش و جايسون أميرن جنديين من الحرب ومشاركين في الفيلم

ليس مستغربًا أن يلعب فيلم “القبعات الخضر” دورًا في تأجيج المشاعر الوطنية لدى بعض الشباب ويكون دافعا لهم للانضمام الى فرق القتل والتصفيات الجسدية كأعنف ما يكون، وهذه النقطة تحديدا، ستصبح من النقاط التي سيتوقف الفيلم أمامها مع استرجاع الجنود لما قاموا به هناك، وما يشعرون به اليوم وهم يتذكرون كيف كانت الدماء تندفع لتغطي ملابسهم ووجوههم وتلطخ أيديهم. لكن أحدهم سرعان ما يستدرك قائلا “كان هذا هو العدو وكان يتعين علينا  أن نقتله أو يقتلنا هو”.
يروي أفراد المجموعة الأولى كيف كان يتعين عليهم استخدام الخيول لعبور الجبال الوعرة في شمال أفغانستان للوصول إلى مظهر شريف. ولم يكن هناك سوى واحد فقط منهم يتمتع بالخبرة في ركوب الخيل. ونشاهد في لقطات موثقة من أرض الواقع، كيفية استقبال عبد الرشيد دستم ورجاله لهم، وتزويدهم بالخيول، ثم يطلب منهم رجاله أن قدموا أنفسهم دائما كـ”محررين”. ويقول أحد الجنود إنه كان يرى أن مهمتهم تحرير أفغانستان من سيطرة تنظيم القاعدة الذي كان يتكون في معظمه من الأجانب الدخلاء.

في أحد المشاهد نرى كيف تتمكن المجموعة من رصد قافلة سيارات (أكثر من مائة سيارة) تتحرك على الطريق ليلا وسط الجبال، وكان من الممكن أن تصطدم في أي لحظة مع أفراد القوة الخاصة، لكن قرارا اتخذ باستدعاء الطيران وقصفها دون أن يكون القائد الذي يروي الواقعة- متأكدا من أن السيارات تنقل أفراد العدو. ونشاهد كيف يتم اصطياد السيارات من الجو التي سيتضح بعد ان يتفقدها الجنود أنها كانت تحمل مقاتلي طالبان. ويقول جندي أمريكي أن هذه المعركة أو بالأحرى- المذبحة من الجو- استمرت حتى مطلع اليوم التالي.

يعود المخرج بين حين وآخر، إلى حفل الطعام وتجمع الجنود بعد أن تقاعدوا من الخدمة العسكرية، وهم يروون تأثير غيابهم الطويل الذي كان يستغرق أحيانا أكثر من ستة أشهر، على زوجاتهم وأبنائهم. أحد الجنود يقول إنه لم يكن يود أن يكون في مكان زوجته التي حملت وأنجبت وأشرفت- أثناء غيابه- على ذهاب الأبناء الى المدرسة واعتنت بهم في البيت، بالاضافة الى عملها. يسعى الفيلم على هذا النحو  إلى “أنسنة” شخصيات الجنود، والتماهي مع تضحياتهم أمام المشاهدين الأمريكيين خصوصا، واستدرار تعاطفهم مع الجنود وهم يتحدثون الآن بنوع من تأنيب الضمير او الشعور بالذنب عندما يصفون عمليات القتل ومنها القصف بالطيران.. 

القائد الذي كان مسؤولا عن اتخاذ قرار القصف الجوي يبدو حزينًا وهو يتحدث عن أسفه لاضطراره لاستخدام هذا الأسلوب، الذي يختلف تماما عن المواجهة المباشرة مع العدو. ويتساءل عن الحالة التي ستصبح عليها الحروب مستقبلا بعد أن يختفي العنصر “البشري الذي يجعلك تشعر بالعدو وأنت تواجهه”. وربما تكمن الاجابة على تساؤلات كهذه في الاختراع الذي سيظهر بعد هذه العمليات الخاصة مباشرة أي الطائرات من جون طيار التي مازالت تستخدم في أفغانستان وغيرها والتي تسببت- كما أوضحنا عند تناول فيلم “درون” في مقال سابق، في وقوع الكثير من المذابح للمدنيين الأبرياء.

أفراد الفرقة 574 يروون ذكرياتهم عن مشاركة قوات قرضاي الزحف نحو مدينة قندهار معقل طالبان. عندما وصلوا الى أطرافها، كان هناك تخوف من وجود قوات كبيرة ستقاومهم في داخلها، ولذلك اتخذ القائد قرارا باستخدام قاذفات القنابل الضخمة لقصف أحد المواقع القريبة بقنبلة تزن ألفي رطل من المتفجرات. ويعلق كثير من الجنود بأن هذا القرار لم يكن صائبا، فقد كانت المدينة قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى للسقوط من دون قتال. لكن القرار اتخذ وأخطأت القنبلة الرهيبة الهدف وسقطت على أفراد المجموعة فتسببت في قتل ثلاثة من الجنود في أول حادث من نوعه بنيران صديقة في أفغانستان.

بين وقت وآخر نشاهد كيف يتردد أفراد الفصيلة على منزل زميلهم الذي كان الضحية الأولى لهذا القصف. يزورون أسرته، يتحدثون إلى ابنه الذي أصبح شابًا، يسرون عن زوجته، ولا يفوت المخرج فرصة الاستماع لما يرويه الإبن والزوجة عن كيفية استقبالهم لخبر مصرع الزوج- الأب، وتصوير ملابسه العسكرية، وصوره ودراجته النارية.. وغير ذلك من الصور التي تولد شحنة عاطفية من الفيلم.

يصطحب المخرج أيضا بعض الجنود الأمريكيين إلى مواقع في جبال أفغانستان اليوم، خاصة ويقول أحد الجنود إنه ظل يتردد بصفة مستمرة على أفغانستان منذ انتهاء مهمته هناك لكي يزور ويتفقد الأماكن التي ترتبط في ذاكرته بالمهمة القديمة. 

لاشك أن مرور الزمن يساهم في رؤية الأمور من منظار مختلف. وفي الجزء الأخير من الفيلم نغمة رثاء واضح تجاه ما وقع في الماضي، ولما سيقع فيما بعد، أي بعد أن تمتد العمليات العسكرية الأمريكية إلى العراق كما يقول البعض منهم، ويفقد الأمريكيون حسب الأرقام التي تظهر على الشاشة نحو ستة آلاف جندي منذ بداية ذلك النزاع المسلح حتى الآن.