“ولدك راجل”.. معاناة المهاجر التونسي التائه في وهم الجنة الموعودة

يناقش الفيلم الوثائقي “ولدك راجل” قضية الهجرة غير الشرعية من خلال نماذج لمهاجرين تونسيين غير قانونيين.

فقد فتحت الثورة التونسية سياقات في مجالات متعدّدة من بينها تطعيم الحراك السينمائي بمسارات الاختلاف والفعل الإبداعي الحرّ. وعلى هذا الأساس ظهرت مجموعة من الأفلام التي تناولت محاور مختلفة من بينها القضايا الشبابيّة، كما أُطلق العنان لمجموعة من التجارب التي غيّرت المشهد السينمائي التونسي، أو تلك التي عمّقت مواضيعه المتداولة.

ومن بين هذه الأفلام، الفيلم الوثائقي “ولدك راجل” للمخرج الشاب هيفل بن يوسف، ويقودنا هذا الفيلم إلى قلق اجتماعي وتجريب سينمائي بسيط يزيد من رونق التوثيق، وقد عرض الفيلم في مهرجان قرطاج السينمائي.

وعلى الرغم من أنّ موضوع الهجرة موضوع مهمّ في الواقع الاجتماعي التونسي، فإنّ التطرّق إليه لم يكن بالقدر المأمول، بل اقتصر على مجموعة من الأفلام مثل فيلم “السفراء” للناصر الكتاري (1975) الذي تناول معاناة المهاجرين المغاربة بالضواحي الباريسيّة، وفيلم “عبور” لمحمود بن محمود (1982) الذي يسرد قصة منع من المرور عبر الحدود البريطانية، وفيلم “غدوة نحرق” لمحمد بن إسماعيل (1997) الذي يتناول قصّة عودة مهاجر تونسي من فرنسا مصابا بفيروس الإيدز.

العربي.. دموع منهمرة ورسالة من بلاد الغربة

تشير الإحصاءات الرسمية في تونس إلى أنّ حوالي 25 ألف مهاجر سرّي تونسي عبروا المتوسّط منذ الثورة نحو “الجنّة الأوروبية”، مستعملين طرقا مختلفة للعبور. وقدّم الفيلم الوثائقي “ولدك راجل” طيلة 61 دقيقة نماذج مختلفة لمهاجرين، حاول من خلالهم أن يلتقط اليومي الاجتماعي في البلاد الأوروبية، ويبدو قاتما منذ الدقائق الأولى للفيلم.

فيلم”ولدك راجل” يناقش قضية الهجرة غير الشرعية من خلال نماذج لمهاجرين تونسيين غير قانونيين

وقد انطلقت فكرة التوثيق للمخرج الشاب هيفل بن يوسف من خلال زيارته للعاصمة الباريسية سنة 2012، إذ جذب انتباهه ظاهرة المهاجرين التونسيين في فترة شهدت فيها تونس نوعا من الانفلات الذي فتح أبواب البحر للمرور نحو أوروبا، وقد انطلق المخرج في التصوير والاستقصاء ومعاينة الشخصيّات ودمج ما توصّل إليه طيلة سنوات من التوثيق.

ومن خلال البدايات الأولى، نستشفّ أنّ المخرج هيفل بن يوسف جمع بين السرد والتخييل من خلال تقديم شخصيّة العربي، وهو شاب قادته رغبته إلى “الحرقة” قبل الثورة، أملا في جمع المال والعودة إلى البلاد غانما، لكن شهادته التي تعتبر مقدّمة الفيلم وعنوانه ترتسم بصيغة سوداوية، ليحيل المخرج من خلالها إلى قتامة الهجرة السرّية من خلال شابّ لم يعش حدث الثورة في بلاده، ينام ويصحى أملا في توفير لقمة عيشه ومقاومة الاغتراب فقط، وتنهال دموعه الحارّة أمام الكاميرا، ويوجّه رسالة إلى أبيه بعبارة “ولدك راجل”، وهو مصطلح تونسي متداول يحيل على الشجاعة بمعنى “لا تقلق يا أبي فابنك رجل يُعتمد عليه”.

ثم تنتقل الكاميرا من تعابير الحنين للأسرة والشوق للوطن إلى لقطات من عباب البحر برمزية السفر، ولقطات أخرى لعاصمة الأنوار، وطريق ضبابيّة تدلّ على مسار مجهول، كما تتجوّل الكاميرا بين وجوه مكفهرّة لمغتربين، وتراوح بينها وبين تونسيين يرقصون في الحانات والشوارع.

“خرجت في جنح الليل دون إخبار أمّي باعتزامي الهجرة”

سيف هو شاب يبحث عن لقمة عيشه من خلال درّاجة هوائية يتجوّل بها في الشوارع الباريسية، يروي كيف استطاع أن يصل باريس، إذ وصل إلى فرنسا بتأشيرة سياحية صالحة لمدة شهر واحد، ثم قرّر بعد ذلك الاستقرار هناك بصفة غير قانونية، وتعرّف على فتاة كولومبية ساعدته على إيجاد عمل، وسهّلت تعايشه مع المجتمع الجديد.

سيف يبحث عن لقمة عيشه بعمله على درّاجة هوائية يتجوّل بها في الشوارع الباريسية

أمّا رضوان فقد تعرّف على فتاة فرنسية في نزل بمدينة الحمّامات التونسية، وقد مكّنته لاحقا من الالتحاق بفرنسا والعمل بائعا للوجبات السريعة من خلال شاحنة متنقّلة.

ينتقل بنا المخرج إلى سويسرا لتتواصل الشهادات، وهناك يروي لنا أبو بكر مغامرته، فقد خرج من منزل والديه ليهاجر سرّا عبر قارب نحو إيطاليا، وهناك يقبض عليه ويودع السجن، ثم أُطلق سراحه فواصل طريقه نحو فرنسا آملا تأمين حياة كريمة قبل أن ينتقل إلى محطّته الحالية في سويسرا. يقول أبو بكر: خرجت في جنح الليل دون إخبار أمّي باعتزامي الهجرة سرّا، ما عدا خالي الذي وعدته أن أهاتفه خلال أسبوع، وإن لم يقع ذلك فليكن متأكدا أني من عداد الأموات.

“بوبكر” مهاجر خرج من منزل والديه سرّا عبر قارب نحو إيطاليا

ويسرد الفيلم عبر هذا التقديم غاية واحدة من الهجرة السرّية للشباب التونسي، وهي جمع المال، كغيرهم من أقرانهم الذين يعيشون في أوروبا، فتحسين الأوضاع والطموح لكسب المال هو الدافع الرئيسي للمخاطرة، بالرغم من اتفاقهم على أنّ الأوضاع في تونس تمكّن من العيش الكريم في حضن العائلة، غير أن نظرتهم تتغير بمجرد اصطدامهم بالواقع الجديد الذي يلوح أمامهم.

عالم المحرمات.. عدسة تتسلل إلى مواقع الخطر المشبوهة

تواصل الكاميرا تتبّع شخصيات الفيلم التي تتعدد أحيانا وتترابط، ولعل الفيلم الوثائقي “ولدك راجل” يستمد أهميته من خلال الموضوع الإنساني الذي يتطرق إليه، لكنه يتميز أيضا من خلال تعريض الكاميرا للخطر والدخول في المناطق المحرّمة، إذ يتتبع المخرج شابين يتاجران بالحشيش بصفة سرّية لتحقيق ربح سريع يمكّنهما من مقاومة معترك الغربة.

يتتبع المخرج شابين يتاجران بالحشيش بصفة سرّية لتحقيق ربح سريع يمكّنهما من مقاومة معترك الغربة
وبكثير من التفاصيل التي تحيل على الواقع الحي يصف العربي المناطق التي ينخرط فيها في هذه التجارة الممنوعة وطرق البيع، وتزداد التفاصيل عبر سرد طريقة التغطية على مثل هذا النشاط، من خلال التمويه بعمل ثانوي، وهو توزيع الأوراق الإعلانية لأجل محو أثر النشاط المشبوه وتتبّعات الشرطة.تواصل الكاميرا التركيز على هذه النشاطات من خلال شخصيّات أخرى، إذ يروي شخص مخفيّ تفاصيل نشاط المتاجرة في المخدّرات والاندماج في الشبكات الأوروبية، واضطراره للانخراط في هذا العمل، من أجل توفير الأموال بطريقة سريعة، باعتبار أنّ العمل العادي دون عقد جعله عرضة للاستغلال والابتزاز من طرف أرباب العمل الذين يستغلّون عدم امتلاكه لأوراق رسميّة، ليشغّلوه مقابل مبالغ زهيدة.

يحاول “رضوان” بيع الوجبات السريعة متهرّباً من الضرائب، ومتنقلاً من مكان إلى آخر هرباً من الشرطة

أما رضوان فيواصل بيع الوجبات السريعة متهرّبا من الضرائب، متنقلا من مكان إلى آخر هربا من الشرطة، حتى أصبح همّه الوحيد العمل بعيدا عن الرقابة، وهو ما جعل الطبيعي بالنسبة له هو الهروب الدائم والحذر.

وتتنوّع الوضعيّات والصور لتتّجه نحو الغربة السلبّية، إذ يُظهر الوثائقي مجموعة من المهاجرين السرّيين التونسيين يمارسون الرقص وعروضا فرجويّة في الشارع، بقصد جمع بضعة قطع نقدية نحاسيّة لتأمين عيشهم.

سلبيات الغربة.. تجارب فاشلة ومآسٍ تنتظر الفرج

لعل من مميزات هذا الوثائقي تركيزه على الجوانب السلبيّة للغربة، فلا يُظهر إلا التجارب الفاشلة، وهو اختيار المخرج ليكون الوثائقي بمثابة الموعظة، فالغوص في هذه الفئة من الشباب الهائم يضفي ذلك الشعور بالقلق ويجعل الصورة المقلقة تحتكّ بأحاسيس المشاهد حين تمتزج بالضياع والمعاناة التي يبرزها الفيلم.

وتتوحّد شهادات جميع الشخصيّات نحو ذلك الشعور باليأس وانغلاق الأبواب، وتتفق في كون الهجرة السرّية مأساة تنتظر الفرج وتحتاج مقاومتها للكثير من الصبر.

مجموعة من المهاجرين السرّيين التونسيين يمارسون الرقص وعروضاً في الشارع لتأمين عيشهم

ووسط هذا الشعور بالضياع وانسداد الفرص لتسوية وضعيّتهم القانونيّة ترصد لنا الكاميرا مجموعة من الأحاسيس الفيّاضة، فتروي كلُّ شخصيّة الضريبةَ المعنوية والشوق للعائلة والأصدقاء والوطن، وهي صور يخيّم عليها الحزن مثل ذلك الطقس الباريسي.

وتزداد قساوة الوضع من خلال متابعتهم أثناء العمليّات الإرهابية التي وقعت في باريس، إذ تتضاعف معاناتهم مع تشديد الإجراءات الأمنيّة التي تدفعهم لالتزام منازلهم وعدم مبارحتها، خوفا من الخضوع للتفتيش الأمني وترحيلهم.

رمزية الصورة المقلقة.. شد وجذب يجسد تموجات المشهد

يلوح جليا أن الفيلم زاوية ذاتية للمخرج، فقد اعتمد فيه على صور بسيطة جدّا لكنّها معبّرة، كما وُفّق في اختيار الشخصيّات واستنطاقها، صور تجمع بين الحزن والأمل، يلوح من خلالها البناء السردي للوثائقي في نسق في ظاهره هادئ، لكنّه تصعيدي من البداية إلى النهاية.

صور مشبعة بالرمزية، زوايا قريبة تنقل إحساسا بالغبن سرعان ما يقطعه المخرج بمشاهد مضادّة تماما، من خلال الانتقال إلى جانب آخر من الشخصيّات؛ مثل الطرافة، والهروب من الواقع المرّ، وسهرات المجون، ومعاكسة الفتيات.

هذا الشدّ والجذب جعل الصورة المقلقة نوعا من المعالجة الاجتماعية والوصف لشخصيّات متناقضة في ذواتها. وقد اعتمد المخرج على خلفية صوتية ساكنة تعلو تارة لتعمق الجانب النفسي للصورة، وتغيب تارة أخرى لتفسح المجال للصمت أو للتعبير عن المأساة عبر الشهادات، كما عمد المخرج إلى تطعيم الوثائقي بموسيقى “الراب” التونسية عبر أغاني شبابية ثورية تثور على الواقع.

معاناة المهجر وأشواق الوطن.. عقبات في طريق التعايش

يمكن اعتبار أن ملخص الهجرة السرّية من خلال وثائقي “ولدك راجل” يعتمد على وجهتي نظر؛ إحداهما وجهة نظر رمزية للمخرج تسير بالوثائقي إلى إظهار مغامرات الوصول التي يترصّدها الموت كل لحظة، ومأساة الغربة التي تجعل نفسية المهاجر تميل إلى الضياع وانسداد الأبواب والأحلام المتبخرة، واللجوء إلى تجارة المخدرات ومجون الخمر، واتخاذ ذلك وسيلةً للنسيان.

مهاجرون في أوروبا يبيتون في العراء بحثا عن فرصة عمل وهروبا من السلطات

أما وجهة النظر الثانية فهي وجهة نظر الشخصيات نفسها، فعلى الرغم من معاناتها وشوقها للوطن الأمّ وطموحها لإيجاد عمل، فإنّها تتشبّث بأمل أن يُكتب لهم مورد رزق، وبالتالي تسوى وضعيتهم القانونية. فالشخصيات الفيلمية المتناقضة تتسلّح بالأمل والصبر، وترفض العودة إلى البلد، لأنّها تعتبر العودة إقرارا بالفشل، وهو ما سيجعلهم محلّ تهكّم من قبل أصدقائهم وأقاربهم في البلد الأمّ.

وفي الجزء الأخير من الفيلم، تميل الصورة نحو الانفراج، فتنزاح المشاهد نحو الدلالة على تعايشهم في المجتمع الأوروبي وانخراطهم في النسيج الاجتماعي وتكوين مجتمع مصغّر، من خلال حضورهم لحفل زفاف أحد المهاجرين السرّيين هناك، ليباركوا له انفراج أزمته بعد سنوات من الانتظار، ممنّين النفس في الآن ذاته بأن يُكتب لهم أيضا الزواج من فرنسية، لتسوية وضعيّتهم القانونية التي ستسمح لهم لاحقا بالحصول على عمل بطرق أقل تعقيدا.

نهاية الفيلم.. حظوظ سعيدة بائسة ترسم المصائر

يقرر العربي أن يغادر باريس نحو مدينة مونوبولي في الجنوب الفرنسي للالتحاق بأحد الأصدقاء هناك، إثر انسداد الآفاق في عاصمة الأنوار بعد سنوات من الانتظار.

في المشهد الأخير من الفيلم يُظهر المخرج شخصيّتي العربي وصديقه في آخر نفق، وينتهي الوثائقي بالإعلان عن مصير شخصيّات الفيلم بعد 5 سنوات من التصوير، إذ تنتهي تلك الرحلة بالعربي وقد تزوج وحصل على أوراق الإقامة وغادر التراب الفرنسي نحو الولايات المتحدة الأمريكية.

بينما استمرت وضعيّة سيف على حالها، فما زال يواصل العمل على درّاجته الهوائية متنقلا هنا وهناك بعيدا عن أعين الشرطة، ويواصل رضوان السعي وراء إيجاد ترخيص لفتح محلّ الوجبات السريعة. أمّا أبو بكر فيواصل العمل في أحد المطاعم السويسرية بطريقة سرّية، رغم رغبته في العودة النهائية إلى بلده تونس، لكنه يبقى بين المطرقة والسندان خوفا من العقوبة التي تنتظره.

وهم الجنة الموعودة.. وثيقة ترصد آلام الرحلة وصدمة الوصول

“ولدك راجل” هو سفر في عمق المعاناة والغربة المحفوفة بالخطر، وهو رصد لشخصيات تائهة، منها من يتوق للعودة إلى وضعه السابق في تونس، ومنها من يتسلح بالصبر ويفضل العيش في هذه الوضعية على العودة إلى بلده مهزوما.

إنه وثائقي اجتماعي بامتياز جمع بين المتضادات، لكنه يثير التساؤل الملح: هل كانت هذه الشخصيات مجبرة فعلا على مغادرة الوطن؟ أم أنّها كان يمكن أن تواصل نسق حياتها العادي في وطنها؟

هذه الوثيقة هي نموذج لشخصيات من جملة الآلاف التي غادرت بلدها إبان الثورة، وهو تدفّق لا يعني أنّه هروب من الوطن، بقدر ما هو تفعيل لتلك الصورة الذهنيّة التي ترتسم في الخيال، وهي أن أوروبا هي “الجنّة الموعودة”.. لكنّ هذا الوثائقي الذي جمع صورا من هموم الهجرة السرّية وأوهامها يحيل على الواقع من زاوية أخرى.