“داعش غدا”.. الأرواح المفقودة في الموصل

 

أمير العمري

هذا الفيلم هو أفضل عمل سينمائي تسجيلي ظهر حتى الآن عن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأكثرها توازنا واكتمالا، فهو ليس فقط عن التنظيم المقاتل ورجاله وأفعاله، بل وعن ضحاياه من “أبناء داعش” أنفسهم وعائلاتهم بعد إعلان تحرير مدينة الموصل في شهر يوليو/تموز 2017 بعد ثلاث سنوات من سيطرة التنظيم عليها.

الفيلم يحمل عنوان “داعش غدا.. الأرواح المفقودة في الموصل” (Isis Tomorrow.. The Lost Souls of Mosul) وهو من إخراج المخرج الإيطالي أليسيو روميتزي بالاشتراك مع المخرجة فرانشيسكا مانوتشي، وقد خاض كلاهما مغامرة محفوفة بالمخاطر، وخاضا في أرض لا تزال تمتلئ بالكثير من الألغام المادية والسياسية.

العرض العالمي الأول للفيلم كان في مهرجان فينيسيا السينمائي في سبتمبر/أيلول هذا العام، وكان الفيلم قد أصبح جاهزا للعرض قبل شهر واحد من افتتاح المهرجان، وهو يبدأ بعد ستة أشهر من تحرير المدينة من سيطرة التنظيم في يناير/كانون الثاني 2018.

 

أطفال الموصل.. لداعش أطفال أيضا

يركز الفيلم أساسا على الأطفال والنساء من الطرفين لا على المقاتلين، وهو ينقسم إلى جزأين: في القسم الأول نرى القصة من وجهة نظر أطفال العراقيين الذين عاشوا تحت سيطرة التنظيم في الموصل وكان عددهم يقدر بنصف مليون طفل. وفي القسم الثاني نرى القصة من وجهة نظر أبناء مقاتلي التنظيم ونسائهم وما حل بهم بعد دخول القوات العراقية المدينة.

إننا إذن أمام عمل وثائقي شديد الدقة والتوازن، يطرح الكثير من الأسئلة أكثر مما يجيب عنها، فليس هنا تعليق صوتي قادم من خارج الصورة يفرض نفسه ورؤية صاحبه -أي مخرج الفيلم نفسه- على الصور التي شاهدها، بل هو يترك شخصيات الفيلم من أبناء الواقع على الأرض هي التي تتكلم وتعرض وتشرح وتتخذ مواقف أو تطرح التساؤلات أيضا. لكن ليس معنى هذا غياب “رؤية” خاصة لمخرجَي الفيلم، هذه الرؤية تتلخص في مناشدة الرأي العام عدم إصدار الأحكام بشكل عشوائي من دون النظر إلى الموضوع من زواياه المختلفة.

لدينا أولا ضحايا داعش؛ أطفال يروون كيف أنهم حُرموا من الذهاب للمدارس بعد سيطرة تنظيم داعش على الموصل وإغلاق المدارس التي لا تتفق مع أفكارهم، ويروي أحدهم كيف قتلت “داعش” جميع أعمامه وأخواله، ولم يتبق أحد من أسرته تقريبا، وكيف كانوا يطالبون بضرورة أن ترتدي أمه الحجاب، وقد أصبح الآن يهيم على وجهه، يجمع بقايا أجهزة التكييف المحطمة، أما والده فبقي على قيد الحياة لكنه أصبح معاقا لا يستطيع السير بطريقة طبيعية.

 

داخل مخيم ضخم للنازحين نشاهد آلاف الأطفال يروي بعضهم قصصا أخرى عن معاناتهم. كان مقاتلو داعش يهتمون كثيرا بتجنيد الأطفال منذ نعومة أظافرهم، ويظهر شاب (16 سنة) يشرح أهمية الاستشهاد في ثقافة داعش (الموت في سبيل الله أسمى أمانينا).. لقد كان الجميع يريدون القتال.

في هذا الفيلم لقطات من الجو تتكرر كثيرا في السياق مع موسيقى درامية صاخبة، نرى خلالها كيف دُمرت المدينة وتحولت بيوتها إلى مجرد أنقاض على غرار المدن الألمانية التي تحطمت خلال الحرب العالمية الثانية، وانتشرت الخرائب والمخيمات وآلاف النازحين من النساء والأطفال. كان الوقت نوفمبر/تشرين الأول 2016 مع بدء الحملة العسكرية العراقية على المدينة، التصوير شديد الجرأة لأنه كان يجري أثناء القتال مباشرة حيث تنفجر القنابل من الجو وتشتعل الحرائق ويصرخ الأطفال.

محمد ذو العشر سنوات يروي كيف قتلت داعش أسرته بعد أن رفضوا مبايعة التنظيم

 

جحيم الموصل.. هل هي نهاية العالم؟

يروي محمد (10 سنوات) كيف قتلوا أسرته بعد أن رفضوا مبايعة التنظيم، ويقول “كان الشاب يقتل أهله بيده كي يتحاشى الموت على أيدي مقاتلي التنظيم، كان الكبير يأمر الصغير بالالتحاق بالتنظيم”.

في أحد المشاهد نرى حصارا عسكريا مباشرا لأحد مواقع التنظيم وتبادل إطلاق النار. يقول طفل آخر: لقد جاؤوا بالأمس وقتلوا أمه وأخذوا شقيقه معهم، إننا في قلب الجحيم نفسه. الصور واللقطات توحي بأنها نهاية العالم وقد بدأت في الموصل، وهي ليست كباقي الصور التي سبق أن شاهدناها في عشرات الأفلام الأخرى بل هي من قلب الأحداث، فالمخرجان أولهما عمل مراسلا حربيا غطّى الكثير من أماكن النزاعات في العالم، والثانية صحفية مرموقة نالت جائزة أفضل صحفية إيطالية.

إنهما لا يكتفيان في فيلمهما بلقطات الأرشيف المأخوذة مما كانت محطات التلفزة تبثه، بل يعتمدان أساسا على ما قاما بتصويره مباشرة، وخاصة في المخيمات بين النساء والأطفال بتركيز خاص على الحالات الإنسانية. فهذا أولا وأخيرا فيلم إنساني، صحيح إنه يخوض بالضرورة في قضية سياسية لكن زاوية التناول تظل إنسانية في المقام الأول. هذا فيلم مناهض للحرب، أتى يصفها أحدهم بأنها “قذرة” وأصبح كل شيء فيها مشروعا. هل كان الأطفال الذين التحقوا بداعش ضحايا أم جناة، هل كانوا مجرد مراهقين مندفعين تراودهم أوهام البطولة مثل أبطال الأفلام الحربية أم كانوا ضحايا لآبائهم الذين أرغموهم على الالتحاق بالتنظيم لأسباب أيدولوجية، أم أن كل هذه الأسباب مجتمعة؟

شاب يشرح أهمية الاستشهاد في ثقافة داعش، حيث “الموت في سبيل الله أسمى أمانينا”

 

بعض الشباب من الجانب الآخر يرى أن من “الحلال” قتلهم جميعا لأن لا أمل في إصلاحهم، أما أحد الذين انضموا للتنظيم فيقول إنه بعد يوم واحد من انضمامه للتنظيم بدأ التدريب العسكري. ويتضمن الفيلم لقطات مأخوذة من مواقع التنظيم نفسه على شبكة الإنترنت للتدريبات العسكرية للأطفال التي كانوا يتباهون بها، وتشمل الضرب بقطعة من الحديد على الأكتاف والصدور والركل في البطن واستخدام قطع البلاط لضرب الرأس حتى يعتاد الطفل المقاتل على العنف، مع تدريس العلوم الشرعية كما يقول الشاب الذي يروي، ويقول إن والده كان يصنع القنابل ويزرع الألغام، وقد قتل في أحد الانفجارات وكان على يقين من أنه سيذهب إلى الجنة.

من ناحية أخرى هناك الشاب الذي أرغمه والده على الالتحاق بالتنظيم، لكنه تمرد على داعش ورفض القتال معهم فهددوه وقالوا له إن والده قتل في إحدى الغارات الجوية. فهذا الشاب يظهر في الفيلم من خلال إضاءة خافتة مطأطئ الرأس دون أن يظهر وجهه بصورة واضحة تفاديا للانتقام، وعندما يسألونه: هل تشعر بالغضب من والدك؟ يقول إنه سامحه. وردا على هذه القصة يظهر شاب من الاتجاه الآخر يقول إنهم جميعا يرددون نفس القصة، أي أن آباءهم هم الذين أرغموهم.

صانعا الفيلم يخصصان جانبا من الفيلم لزيارة جنود الجيش العراقي والاطلاع على ما يقومون به

 

تحرير الموصل.. سُعار الحرب سيرتدّ يوما

يخصص صانعا الفيلم جانبا من الفيلم لزيارة جنود الجيش العراقي والاطلاع على ما يقومون به، ولكن الفيلم ينجح في تحويل الصبغة الدعائية التي يحرص عليها الضباط أمام الكاميرا إلى عكس ما ترمي إليه، مع كثير من المقالات الحية المباشرة التي يوجهان خلالها الأسئلة الجريئة، ويظهر ضابط في إضاءة خافتة لا تُظهر وجهه يقول إن هناك ستة آلاف معتقل من فلول داعش مصيرهم مجهول.

وفي لقطة عامة نرى كيف يصطف عدد كبير من الشباب والأطفال أمام الجميع، وأي شخص يشير إلى أحدهم ويقول إنه كان مع داعش يتم القبض عليه وإزاحته إلى معسكر اعتقال خاص. أحد هؤلاء المعتقلين يقول أمام الكاميرا إن أفراد التنظيم كانوا يرغمون الصغار على الالتحاق، وإنه اعتقل مع آخرين ووضع في زنزانة فيها حوالي 30 شخصا ولم يكن الضرب يتوقف، وإنه تعرض للاستجواب أربع مرات كما تلقى تعذيبا شديدا، وإن كثيرين ماتوا في السجن تحت وطأة التعذيب، وكان المطلوب إما أن ينضموا للمقاتلين أو يستمر تعذيبهم.

يحتوي الفيلم على لقطات تسجيلية تصور ما عُرف باسم “جون الجهادي” وحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة وسط تهليل عدد كبير من الأطفال والشباب. وفي يوليو/تموز 2017 تحتفل الموصل بتحريرها، ويصور الفيلم جانبا من زيارة رئيس الوزراء العبادي الذي يخطب في الجنود مؤكدا أن القوات العراقية للجميع، بينما كان القتال لا يزال مستمرا.

الفيلم يبرز الطفولة وأحلام الأطفال كيف دُمرت وتحولوا جميعا إلى مسوخ

 

توحش داعش.. ماذا عن توحشنا؟

الفيلم يصور أيضا تدهور الأوضاع في المدينة بعد تحريرها وكيف يتعرض السكان للكثير من المشاكل، ثم ينتقل إلى الجانب الآخر، إلى عائلات داعش والظروف المأساوية التي يعيشون فيها، فأبناؤهم محرومون من التعليم، والجيش لا يوزع عليهم الطعام والشراب بل يمنعونه عنهم. وتظهر بعض أرامل المقاتلين من التنظيم أمام الكاميرا يتحدثن عن سوء الأحوال، وكيف أنه لا يجب معاقبة الأطفال “الأبرياء”.

وفي لقطة مذهلة متحركة تمر الكاميرا على ما يشبه الكهوف التي تعيش فيها عائلات داعش من النساء والأطفال، ونستمع إلى عشرات القصص والروايات التي تمتلئ بالشكوى؛ الحرمان من التعليم والعمل والسكن والمعونات.

الخلاصة أن هذا الظلم الذين يتعرضون له يمكن أن يصبح مبررا وأرضية قوية في المستقبل القريب لعودة ظهور داعش مجددا، وهذا ما يحذر منه الفيلم بوضوح، ويقول إن العالم ينبغي أن يعرف من يقاتل ضده وكيف أنه لم يتم القضاء على الأسباب التي أدت إلى ظهوره وبالتالي يمكن أن يعود.

إلا أن أبرز ما يعرضه الفيلم يتمثل تحديدا في الكشف أولا عن آلية تجنيد الأطفال، ثم كيف يصبح من السهل تحويلهم إلى مقاتلين متعصبين شديدي العنف دون أن يكونوا على إدراك كامل بما يفعلونه، ثم كيف يتحول كثير منهم إلى مفجرين انتحاريين، والأهم كيف دُمرت الطفولة وأحلام الأطفال وتحولوا جميعا إلى مسوخ. بل يشير الفيلم أيضا إلى أن الأطفال على الجانب الآخر ليسوا أقل وحشية وقسوة من غيرهم، فهم يؤمنون بدورهم بضرورة الانتقام بالقتل والتعذيب والحرمان والاستبعاد.

وينتهي الفيلم بما يقوله مقاتل داعش الذي لا يكشف صناع الفيلم وجهه وهو يؤكد أن داعش سيعود ويسود مرة أخرى، وهي رسالة التحذير التي يتبناها هذا الفيلم غير المسبوق في صوره ومناظره وجرأته، والذي يقدم عشرات الحالات الإنسانية للنساء والأطفال والعجائز.