“سعيدٌ مثل لازارو”.. مأساة النقاء في قرية إيطالية مدنسة بالاحتيال والعبودية

يعيش مجموعة من الأشخاص مقيدين في اتجاه حائط داخل كهف طيلة حياتهم، يواجهون حائطا مصمتا، ولا يرون إلا ظلالا وانعكاسات متحركة تنتجها نيران مشتعلة خلفهم عندما يمر بجانبها أشياء أو أشخاص. يعطي السجناء أسماء لتلك الظلال ويعرّفونها لتمثل حقيقتهم الوحيدة وعالمهم. لا يريد سكان الكهف المغادرة أبدا ولا يفكرون فيها أصلا، فالحرية مفهوم لم يمر عليهم ولا يعرفون تلك المفردة من الأساس ليفكروا فيها.

يوما ما يكسر أحد السجناء -أو بعضهم- ذلك الرابط ويتحرر، يحدث ذلك بصعوبة بالغة، بل إن السجين يكاد يكون مجبرا على ذلك التحرر، فلا يقبل به حتى يُجر جرّا إلى الخارج فيكتشف أن الحقيقة ليست ما ظنها طيلة حياته، يكتشف فجأة وجود الشمس التي هي مثل النيران تعطي شكلا للأحياء والأشياء وتسمح له برؤيتهم.

يصدمه في البداية ذلك الضوء الباهر، بل يؤلمه أيضا، ثم يبدأ في التعود عليه، وعندما يبدأ في اختبار الموجودات، ويرى الناس والماء والشجر والضوء، ويكتشف كم كان أعمى داخل الكهف؛ يسارع لإخبار الآخرين في الكهف، لكنه عندما يبدأ في الدخول يُصاب بحالة من العمى كالتي حدثت عندما خرج أول مرة، فيصل إلى استنتاج بأن خروجه سبّب له الأذى وينصح الجميع بعدم فعل ذلك، بل إنه من الممكن أن يصل به الحال لقتل أي أحد يحاول إخراجه وجعله يتخلى عن حقيقته.

وضع أفلاطون ما يشبه الحكاية لصياغة رمزية الكهف، حكاية على هيئة حوار بين سقراط أستاذه وبين أخيه الأصغر. يمكن تطبيق تلك الرمزية على كثير من الأشياء لتفسير الوهم في العالم، بحيث يمثل الكهف العالم بشكل سطحي، وتمثل القيود التي تمنع السجناء من الخروج الجهل، أما الظلال التي يرونها فهي الحقيقة المبتورة التي يتوهم من يراها أنها الحقيقة الكاملة.

لكن هل يمكن تطبيق تلك الرمزية أو النظرية على التجهيل المتعمد؟ على مفاهيم مثل السلطة والتحكم في الأفراد الأضعف واستغلال جهلهم لحجب الشمس عنهم؟

خدعة البحيرة العميقة.. سجن يوقع السكان في فخ الماركيزة

في فيلمها الحائز على جائزة مهرجان كان لأفضل سيناريو، تطبق “أليتشي رورواتشر” نظرية الكهف على قرية صغيرة في إيطاليا، وذلك بناء على قصة قرأتها في جريدة عندما كانت صغيرة وحدثت بالفعل في الثمانينيات، حيث يعمل سكان القرية دون مقابل لمجموعة من الأثرياء السابقين بقيادة “ماركيزة” -نبيلة من النبلاء- تتاجر في التبغ.

يظن الجميع أنه من المستحيل الخروج من تلك القرية، فهناك بحيرة عميقة تفصلهم عن كل شيء وسوف يغرقون بالطبع إذا تجرأوا على العبور، لكن لم يجرؤ أحد ولم يفكر أحد أصلا بكسر تلك العبودية فهي حياتهم التي يعرفونها ولا يوجد شيء خارجها.

يأتي التحرير من خارج الأفراد عن طريق سلطة أمنية تأتي لإنقاذهم وتنويرهم، فيفاجؤوا بما جهلوا طوال حياتهم، فالبحيرة ضحلة يمكن السير فيها بسهولة، وكان بالإمكان التحرر منذ أعوام مضت، لكن لن يرى الشمس من لم يسمع عنها، خصوصا إذا كان في براءة محور كل تلك الأحداث.

“لازارو”.. نقاء قدسي يقابل دنس القرية المستعبدة

“لازارو” هو شاب يافع يستغله أفراد قريته كما يستغلهم من يستعبدهم، وكأنها سلسلة لا تنكسر، فالجميع يستعبد الجميع، “لازارو” في خدمة الجميع لا يتململ أبدا ولا يعترض، وهو يملك ملامح ملائكية ثاقبة يستحيل نسيانها، ويلعب دوره الوافد الجديد “أدريانو تارديولو” وكأنه خُلق لهذا الدور تحديدا، يصادق “لازارو” ابن الماركيزة الشاب الأشقر المرفّه الذي يعترض على أفعال أمه، ويجد في رفقة “لازارو” نوعا من التطهير.

يمثل “لازارو” ذلك النقاء القدسي الذي يليق بالملائكة والأنبياء، يتحمل الإساءات وسوء المعاملة، وكأنه يملك روحا غير إنسانية أكثر خفة من كل ثقل البشرية.

تضع “أليتشي روروتشر” مخرجة الفيلم نقاء “لازارو” مقابل كل دنس العالم في مواجهة مأساوية، لكن ما مرجعية الفكرة القائلة إن الأبسط هو الأطهر دائما؟(2)

“ثقافة البرجوازيين تحضر الفساد والدنس”.. مخرج مولع بالبسطاء

في حوار تلفزيوني مع المخرج الإيطالي الأيقوني “بيير باولو بازوليني” طرحت عليه أسئلة من نوعية: إذا كنت ملحدا فلماذا تصبغ أفلامك بالحكايات الدينية، وقصصا من قبيل قصة المسيح ومريم؟ فقال:

“أنا أختبر الأشياء بشكل داخلي، نظرتي للعالم وعناصره ليست طبيعية أو علمانية، بل أرى الأشياء دائما على أنها معجزات. بالنسبة لي كل عنصر في العالم يمثل معجزة، فرؤيتي له هي رؤية دينية بالضرورة لكنها ليست طائفية أو جامدة، لهذا أبتكر طريقتي لرؤية الأشياء في أعمالي”.

“أما إذا أردت أن أجيب عن أَحَب الناس إلي، فهم تلك النوعية من البشر الذين لم يتخطوا الصف الرابع من التعليم النظامي، أناس عاديون جدا وبسطاء جدا، وتلك ليست مجرد كلمات فارغة أتشدق بها، أقول هذا لأن ثقافة البرجوازيين في بلدي وربما في فرنسا وإسبانيا أيضا تحضر الفساد والدنس دائما، بينما الجهلاء الذين لم يكملوا صفهم الأول يملكون نوعا من الفضيلة، ويفقدونها إذا ما تعرضوا للثقافة، لكن يمكن إيجاد تلك الفضيلة والنعمة مجددا في مستوى مرتفع جدا من الثقافة، أما الثقافة المتوسطة فهي مفسدة على الدوام”.

لطالما عُرف “بازوليني” بأفكاره القوية الاشتراكية ونبذه للبرجوازية بالإضافة إلى أنه غير مؤمن بالأديان، لكن هذا لا يمنعه من استخدامها كنوع من الأسطورة والسحر، فتمتزج الحياة العادية بنوع من الواقعية السحرية التراجيدية.

ففي فيلمه “تيوريما” عام 1968 نسج “بازوليني” قصة ملحمية عن البرجوازية والنقاء، التطهر وفقدان المعنى، وجعل في مركز تلك القصة كيانا إنسانيا غامضا أشبه بإله أو ملاك يغير حياة أسرة كاملة من البرجوازيين، يلاقي جميعهم مصائر مأساوية لا خلاص منها، لكن أبسطهم وأقلهم تعليما -وهي خادمة الأسرة- هي من تحظى بالمعجزة والخلاص، فتصعد مثل العذراء مريم، وترتفع عن قبح العالم.

“بازوليني”.. آثار الواقعية السحرية على السينما الإيطالية

أثّر “بازوليني” وأسلوبه في السينما العالمية بشكل عام والإيطالية بشكل خاص، فإذا أخذنا “أليتشي روروتشر” مثالا فسوف نجد بصماته حاضرة في واقعيتها السحرية، وفي حكايتها البسيطة عن إيطاليا الريفية وتضادها مع المدنية، في اللفتات الإعجازية التي لا تبدو أبدا مقتطعة عن سياق الحياة الواقعية التي تصورها، وسنجد أنها تتشارك بعض النقاط الفكرية مع “بازوليني” أيضا.

بازوليني عُرف بأفكاره القوية الاشتراكية ونبذه للبرجوازية بالإضافة إلى أنه غير مؤمن بالأديان

في ذلك السياق يرى الناقد “روري أوكونر” أنه يمكننا القول إن فيلم “سعيدٌ مثل لازارو” مدين لـ”بازوليني” في افتتانه بالفلاحين والقديسين والوجوه، أو حتى مدينٌ لـ”غابرييل غارسيا ماركيز” أهم كتّاب الواقعية السحرية بدمجه بين الحياة الريفية والسحر، لكننا بذلك سنظلم الحيوية الفائقة والجرأة اللتين تناولت بهما “أليتشي روروتشر” عملها بالإضافة لدفئها الشديد بوصفها صانعة أفلام، إذ لا يبدو أن هناك أي تفصيلة خارج نسيج الفيلم وتماسكه، وكل لقطة تحوي حساسية شديدة بالمكان والموضوع وكأنه شيء إلهي. (3)

فإذا نظرنا إلى فيلميها الأكثر نجاحا “سعيد مثل لازارو” و”العجائب” فإننا سنلمس فكرة الاحتفاء بنقاء البسطاء مقابل مكر الآخرين، فهذه هي الفكرة التي سيطرت على بازوليني في معظم أعماله.

مصائر القديسين.. قدسية ساذجة تنبع من براءة الطفولة

في فيلمها “العجائب” الحائز على الجائزة الكبرى من مهرجان كان عام 2014 تستقي “أليتشي روروتشر” من طفولتها تفاصيل حياة قرويين بسطاء يبدأ القلق في اجتياح حياتهم، حين تتدخل أشكال من الرأسمالية داخلها، لكنها في النهاية تحتفي بشاعرية الحياة على الأطراف، والمشاعر الإنسانية الخام التي لم تشبه الحداثة بعد.

وفي فيلم “سعيد مثل لازارو” يمكن أيضا لمس تأثير “بازوليني” الديني، فنجد أن مصير “لازارو” النقي يتماثل مع مصائر القديسين والملائكة وما يلاقونه من عنف من العوام، بل إنه يصل لمصير أشبه بالسيد المسيح نفسه في الثقافة الغربية.

وفي الفيلمين نجد تلك البراءة متجسدة في الأصغر سنا، فهي قصص ذات صبغة أسطورية لا تخلو من الحزن الذي يقبع في القلب لأيام بعد مشاهدتك لها، لكن بعدما ينحل يترك فقط إحساسا بالدفء ندر وجوده في الأفلام الحديثة.

المصادر:

1-كهف أفلاطون
https://en.wikipedia.org/wiki/Allegory_of_the_Cave
2- حوار مع أليتشي روروتشر

Happy as Lazzaro (Lazzaro Felice) interview: Director Alice Rohrwacher discusses the tragic ties between power and exploitation


3- Lazzaro Felice, cannes 2018 review, the filmstage
https://thefilmstage.com/reviews/cannes-review-alice-rohrwachers-talents-fully-bloom-with-the-masterful-lazzaro-felice/