“مدينة الأشباح”.. داعش حين تَذبح الرقة في صمت

أمير العمري

 

ظهرت أفلام تسجيلية كثيرة عن الصراع الدائر في سوريا معظمها أفلام تتشابه في محتواها، فهي تحوي صورا كثيرة من الحرب، بعضها مصور سرا بكاميرا الهاتف المحمول ومنها لقطات سريعة صورها بعض الهواة ووضعت على موقع يوتيوب، وبعضها شهادات مثيرة لناجين من مأساة الحرب وغير ذلك.

كانت هناك أيضا أفلام أكثر طموحا على المستوى الفني من حيث رغبة مخرجيها في جعلها ليست فقط مجرد وثيقة على ما يحدث هناك، بل كانت تتعامل مع المادة المصورة بطريقة فنية لسرد موضوع يثير الفكر، أي يحمل من الأبعاد الإنسانية ما يجعل للمادة التوثيقية المصورة أبعادا أكبر من مجرد “إثارة الاهتمام” أو “تحقيق الصدمة” أو الإضافة إلى “الدعاية المناهضة للحرب”، والتي تهدف إلى لفت أنظار العالم إلى ما يقع هناك من مآس على المستوى الإنساني.

أما فيلمنا هذا فهو يختلف عن هذه الأفلام، ويبدو حقيقيا جدا، صادقا وصادما ربما أكثر من كل ما سبقه من أفلام تسجيلية، وهو بالإضافة إلى هذه العناصر كلها يمتلك أسلوبا فنيا رفيعا يجعل منه عملا ممتعا في مشاهدته رغم موضوعه القاسي العنيف الذي نشاهد في طياته مناظر تقشعر لها الأبدان، وكونه لا يخلو من لحظات تأمل وجودية تصل إلى أعلى درجات الشاعرية.

“الصحافة المضادة” في مواجهة داعش

الفيلم هو “مدينة الأشباح” (City of Ghosts) الذي أخرجه المخرج الأمريكي “ماتيو هاينمان” (Matthew Heineman)، وصوّر أجزاء منه في أرض الواقع بالفعل (أي في مدينة الرقة السورية التي يرمز إليها عنوان الفيلم)، فهي المدينة التي اتخذ منها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) معقلا ثانيا له بعد الموصل في العراق، ومنها يبدأ الفيلم ويظل يعود إليها كثيرا.

الموضوع جريء ومثير، وحتى بعد خروج قوات داعش من الرقة مؤخرا لاتزال تداعياته تتردد، ويدور حول مجموعة من الشباب السوريين قرروا التصدي لتنظيم الدولة ومقاومته ولو بكشف ما يحدث من اغتيالات منظمة لمدينتهم وكشف الحقائق أمام العالم، وتوجيه دعاية مضادة لما يقوله التنظيم وينشره على صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر الأفلام التي يصورها ويضعها على موقع مثل يوتيوب وغيره، بهدف تجنيد الشباب.

هذا فيلم عن “الصحافة المضادة”، وعن تحول هؤلاء الشباب من أهل المدينة إلى مراسلين صحفيين، يصورون كل ما يحدث داخل مدينتهم سرا وينقلونه إلى العالم باستخدام أذرع إعلامية تعتمد على التكنولوجيا الحديثة في عالم الإنترنت، وتتواصل مع الخلية التي أقاموها في الخارج عبر سكايب أو الهواتف المحمولة النقالة، بحيث تضمن استمرار عملية المقاومة الإعلامية لداعش، مع استمرار تحرك هذه العناصر واختبائها طوال الوقت حتى لا تكتشف عناصر داعش أماكنهم ومن ثم تكون نهايتهم كما حدث للكثير من زملائهم بالفعل.

كل هذه الطرق والوسائل ليست مجرد كلمات تُسرد في الفيلم، بل صور ومشاهد ومواقف حقيقية مباشرة مصورة في الفيلم، سواء عبر اللقطات التي تصورها مجموعة الصحفيين المقاومين الذين أطلقوا على حملتهم اسم “الرقة تُذبح في صمت”، أو عبر تصوير المخرج لزملائهم في الخارج -في تركيا أولا ثم في برلين- وهم يتواصلون مع زملائهم في الداخل، وكيف أصبحوا يعيشون في خوف مستمر دائم من خطر الاغتيال.

فتنظيم الدولة الإسلامية لا يقف عديم الحيلة أمام هذه الهجمة الإعلامية الشبابية التي تفضح ممارساته وكذب دعايته، بل يشن حملة مضادة عنيفة لتصفية هؤلاء الشباب، منهم من يتم قتله مباشرة على أرض الواقع أو يعتقل ويتعرض للتعذيب، ومنهم من يتم تعقبه عبر قائمة اغتيالات أعدها التنظيم وأعلن عنها، وأخذ يحذر علانية كل من يرتبط بهؤلاء الشباب بل ويُنزل أشدّ أنواع العقاب بعائلاتهم أيضا.

مواجهة ترهن الروح والأهل والوطن

في الفيلم مشهد مصور سرا لشاب من شباب المجموعة يتم توقيفه على الحدود مع تركيا وتفتيشه هو وزميله، وبعد العثور على مواد مصورة في هاتفه، يتم اقتياد الاثنين إلى مكان لا نراه بالطبع، لكن المعلومات الموثقة بالصور تأتي فيما بعد، وتظهر أن التنظيم قام بقتلهما رميا بالرصاص، وفي لقطة مروعة نرى إعدام الاثنين في ساحة عامة بالمدينة.

يعتمد بناء الفيلم على متابعة القصص الشخصية لخمسة من شباب الحملة، يرصد الفيلم طوال الوقت انفعالاتهم وما يواجهونه من تهديدات ويشاهدونه من صور ومقاطع فيديو تبعث على الرعب، سواء مما يبعث إليهم به مراسلو الحملة في الرقة الذين يعملون ويتحركون بشكل سري، ويواصلون نقل الأخبار والحقائق والصور والأفلام الوثائقية المباشرة التي يقومون بتصويرها سرا، كذلك ما يبثه تنظيم الدولة نفسه على مواقعه من مناظر تقشعر لها الأبدان كنوع من التهديد لمخالفيه من ناحية، والأفلام الأخرى الدعائية التي تزعم أنه يقوم بتقديم حلول لكل مشاكل الحياة للسكان.

من هذه المناظر نرى والد أحد نشطاء الحملة (محمود) وشقيقه اللذين يتمكنان من الهرب إلى تركيا، لكن داعش تلقي القبض على والدهما وتجبره على الظهور أمام الكاميرا لكي يحذر الآباء في الرقة ويطالبهم بعدم السماح لأبنائهم بمخالفة تعليمات داعش، لكن التلويح لهما بصورة والدهما المحتجز في ظروف سيئة لا يثنيهما ولا يدفعهما للاستسلام أو الكفّ عن نشاطهما، فيأتي الجزء المرعب الذي يتضمن فيديو قتل الأب بإطلاق الرصاص على رأسه مباشرة.

وفي مشاهد أخرى يصور المخرج هاينمان من الداخل كيف يتم تدريب الأطفال على القتل من دون أدنى تردد، حيث نراهم يصوبون المسدسات على رؤوس مجموعة من الأسرى الحقيقيين الذين يجثون أمامهم على الأرض وقد أعطوا ظهورهم لهم.

إعلام داعش.. توحش وإبهار

يوضح الفيلم عبر كثير من اللقطات كيف يقوم أعضاء من تنظيم الدولة بعمل أفلام، وذلك باستخدام الوسائل التقنية الحديثة والمؤثرات الخاصة الصوتية والبصرية، ومنحها طابعا احترافيا مؤثرا لا يقل في تأثيره عن تأثير أفلام هوليود.

يتضمن الفيلم مناظر عديدة أخرى لإعدامات الشوارع لكل من يخالف التنظيم، ومنهم أطفال أو صبية صغار يقومون بإعدامهم. ثم نشاهد في مشهد آخر كيف يقوم أنصار داعش بانتزاع وتحطيم أجهزة الأطباق اللاقطة من فوق أسطح جميع البنايات في الرقة وتجميعها في مقبرة كبيرة تمهيدا للتخلص منها، فهم يمنعون التقاط القنوات التلفزيونية، كما يراقبون الإنترنت ويتتبعون الذبذبات التي تصدر عن أجهزة الهاتف المحمول والحواسيب، وفي هذه الظروف يستمر عمل المجموعة.

يصور المخرج في البداية كيف يتم الاحتفال بأعضاء هذه الحملة من الصحفيين الشباب في نيويورك، حيث يقيم اتحاد الصحافة الأمريكية احتفالا خاصا يحضره المتحدث الرسمي باسم الحملة الذي يُطلع العالم خلال الاجتماع على الدور الشجاع الذي يقوم به زملاؤه هناك. هذا المشهد يتقاطع مع أجزاء كثيرة من نشرات الأخبار التلفزيونية التي تبثها القنوات الأوروبية والأمريكية، وتتضمن أنباء عن حملة “الرقة تذبح في صمت”.

ومن الرقة إلى تركيا، داخل منازل مؤمنة لا يكشف عنها الفيلم يقيم فيها أعضاء الحملة الذين تمكنوا من الفرار ومنهم محمود وزوجته الشابة، ثم في برلين بعد أن لجؤوا إليها، وكيف ينجب محمود طفلا، وفي نهاية الفيلم يجلس عزيز الحمزة يتأمل صور رفاقه الذين قضوا نحبهم بعد أن كشف تنظيم الدولة دورهم في محاربته بالطريقة الوحيدة التي يملكونها، وهي الإعلام.

 

 

من “أرض الكارتل” إلى “مدينة الأشباح”

يتميز الفيلم بإيقاعه اللاهث السريع، وانتقالاته بين الأماكن المختلفة دون أن يفقد التركيز والسيطرة على موضوعه الأساسي، وهو لا يندمج في تصوير وسرد فظائع داعش بقدر ما يتوقف طويلا أمام هؤلاء الشباب الخمسة، حيث يصبح الإنسان في الفيلم هو الأصل والأساس، وهو الذي يتصدى ويقاوم ويدفع الثمن.

“ماتيو هاينمان” هو نفسه مخرج الفيلم الوثائقي البديع “أرض الكارتل”، ورغم أن الفيلم السابق كان يتضمن الكثير من التفاصيل والزوايا حول موضوعه، فإن “مدينة الأشباح” هو الأكثر خطورة، فقد كان يتعين عليه متابعة مجموعة شباب الحملة في كل ما يتعرضون له من متاعب أثناء هروبهم من سوريا إلى تركيا ومنها إلى ألمانيا. والفيلم بمعنى ما أيضا هو فيلم من أفلام الرحلة، رحلة الفرار من الموت.