“ستاربكس”.. مقهى من دون فلتر

ندى الأزهري

ستاربكس" الماركة الشهيرة، رمز العولمة المعلق فوق 28 ألف مكان في 75 بلدا، التي تحتل أفضل المواقع في المطارات. (رويترز)

“ستاربكس” الماركة الشهيرة، رمز العولمة المعلق فوق 28 ألف مكان في 75 بلدا، التي تحتل أفضل المواقع في المطارات، وتنتشر في الأحياء الأكثر مركزية في المدن، تلك التي انطلقت من سياتل نحو الساحل الشرقي فأوروبا لتصل اليوم إلى الصين؛ كانت هدفا لتحقيق أجراه الفرنسيان لوك هيرمان وجيل بوفون.

فكيف نجحت سلسلة المقاهي الأميركية هذه بتحويل مشروب عادي إلى مشروب “ساحر”، وكيف تمكنت من أن تصبح “رمزا” لا يمكن تجنبه، وأن تكون “ديانة” وليس مجرد ماركة، وكيف تحول المقهى البسيط الذي افتُتح بداية السبعينيات ردا على ثقافة الاستهلاك إلى عملاق عالمي فرض نفسه..؟ تحقيق استمر عاما كاملا كان هدفه فهم أسباب نجاح هذه الظاهرة، حيث يُفتتح فرع منه كل 15 ساعة في الصين، وكل أسبوعين في نيويورك.

 

ستاربكس.. وعود ووعود

“ستاربكس من دون فلتر” وثائقي استقصائي عرضته محطة آرتي الفرنسية الألمانية، يكشف الوجه الحقيقي المخفي بعناية لهذه الماركة تحت قناع من النخبوية والوعود والشعارات الطنانة، بينما هي مجرد مكان للمشروبات السريعة مثلها مثل الـوجبات السريعة (فاست فود) التي تترفع عن التشبه بها! فأين هي من وعودها الكثيرة لزبائنها والعاملين فيها ومزارعي القهوة من ادعاءاتها بالتضامن مع المزراعين البؤساء، وبالإنسانية تجاه العاملين فيها، وبالتميز في علاقاتها مع الزبائن وفي رعايتها للبيئة؟ إنها إمبراطورية من الوعود ومن ذر الرماد في العيون -كما يستنتج الفيلم- و”إمبراطورية الشر” كما يصفها نشطاء في سياتل مقر الشركة الرئيسي.

يستهل الفيلم بمشهد طابور طويل في مدينة تور الفرنسية حيث ينتظر العشرات في الصباح الباكر ساعات قبل افتتاح فرع جديد للمقهى، مع أن المدينة لا تنقصها المقاهي، فأسعار “ستاربكس” هي الأعلى مقارنة ببضاعة مشابهة. لكن يبدو أن هؤلاء الشباب يريدون أن يعلنوا “أنهم ينتمون لعالم ما وأنهم جزء منه”، كما يعلق مدير المجموعة في فرنسا.

المقهى مصدر زهو للمترددين عليه، ويُعتبر علامة من علامات النجاح في الولايات المتحدة، فالزبائن لا يشترون القهوة فحسب بل إن حَمْل العبوة التي عليها شعار الحورية الخضراء المرسومة على أرضية بيضاء هو علامة على الغنى وإن لم يكن حاملها غنيا. إن التردد على المقهى دليل الانتماء إلى مستوى اجتماعي معين.

يفنّد الفيلم وعود ستاربكس واحدا بعد آخر، فيتناول خطابها الاجتماعي البيئي الإنساني المتمثل بتصريحات وخطب مديرها العام هوارد شولتز ويصفه بأنه “نادر وجريء” في مضمونه، ويلتقي المخرجان بعض الأطر العليا من هؤلاء الذين وافقوا على اللقاء، كما يستعينان بتجربة عامل أميركي فيها كان الوحيد الذي قبل بالحديث معهما بعد أن اشترطت إدارة المجموعة عليهما للسماح بالتصوير في مقاهيها عدم الحديث مع العاملين. كما تضمن الفيلم مداخلات لمختصين سابقين بتسويق الماركة وأحد المؤسسين الأوائل وخبراء بالتغذية، لكن جميع محاولات المخرجين للقاء المدير العام للمجموعة شولتز باءت بالفشل.

لا تقوم المجموعة حقا بالدعاية لمقاهيها، فأفضل دعاية لها هو الزبون السائر في الشارع وبيده عبوة الماركة الكرتونية، وكذلك الناس الذين يبقون في المقهى مدة طويلة مرتاحين مسترخين، لكنها ترفع الشعارات وتعطي الوعود.

يستهل الفيلم بمشهد طابور طويل في مدينة تور الفرنسية حيث ينتظر العشرات في الصباح الباكر ساعات قبل افتتاح فرع جديد للمقهى.

ستاربكس.. المكان الثالث

تتصف مقاهي ستاربكس -المتشابهة في ديكورها مهما اختلفت المدينة- بحرصها على “التميز” في التعامل مع الزبائن، وفي سعيها لمنحهم شعورا بأنهم في ملجأ للسلام، وفي عالم من النعومة والرفاهية والأمان والحميمية، يبدو الاسترخاء فيه وكأنه “هدية” للفرد بعد يوم متعب. إنه “المكان الثالث”.

مفهوم “المكان الثالث” هذا أطلقه عالم الاجتماع راي أولدنبرغ على مساحة للقاء بين البيت والعمل، إنه مكان تبادل اجتماعي وسياسي يجمع بين المواطنين للنقاش، لكن ماذا يحصل في الواقع في ستاربكس؟ كيف يكون مكانا للتواصل ورواده يستغلون “الواي فاي” المجاني في المقهى ليتسمّرون في معظم الأحيان وحيدين أمام شاشتهم بل شاشاتهم؟!

ادعاء آخر بنت عليه الإمبراطورية شعارها وهو علاقتها الخاصة مع الزبون. صحيح، هي راعت هؤلاء الذين لا يشربون القهوة بعد ساعة معينة من النهار، أو ببساطة الذين لا يحبون القهوة، وهذا حال كثير من الأمريكيين الذين يفضلون المشروبات الغازية، فابتكرت لهم مشروبات بديلة أكثر دسما من تلك.

تذكر مختصة تغذية بريطانية أن هذه المشروبات تحتوي على كمية كبيرة من السكر والدهون، وهناك منتج لديهم فيه ما يعادل 25 ملعقة سكر. أما قهوتهم فهي لذيذة فعلا ولكنها غير استثنائية، ولا تستدعي هذا الفرق في السعر مقارنة بالمقاهي الأخرى.

ويبدو أنهم يُشعرون الزبون بحرارة استقباله وبقيمته، فلا يعطونه رقما لاستلام الطلبية بل يسألونه عن اسمه لينادوه به، وفي هذا التصرف ذكاء، إنما سنلاحظ معه الأساليب المتبعة لجعله يطلب أكثر، وترغيبه باستمرار لإضافة هذا أو ذاك للقهوة أو الحلوى. وفي جميع الأحوال كيف لموظفي ستاربكس أن يستقبلوا الزبائن بخصوصية وحرارة وهم هنا “ليقدموا أرقاما فقط في نهاية النهار”، وبعضهم يحمل مقياسا للوقت حتى لا تضيع أي ثانية، كما يقول عامل فيه صورته الكاميرا الخفية؟

راعت ستاربكس هؤلاء الذين لا يشربون القهوة بعد ساعة معينة من النهار، أو الذين لا يحبون القهوة، وهذا حال كثير من الأمريكيين الذين يفضلون المشروبات الغازية، فابتكرت لهم مشروبات بديلة أكثر دسما من تلك. (رويترز)

ستاربكس.. شعارات تنشد دليلا

بعد أن اشترطت الشركة عدم حديث فريق الفيلم مع العاملين الذين وصفهم المدير العام بأنهم “شركاء”، ورفض العاملين الإدلاء بشهادتهم حتى بعد تركهم العمل، وبعد ستة أشهر من التنقل بين عدة عواصم ومدن عالمية من باريس إلى نيويورك والمكسيك مرورا بلندن ومن باريس إلى شنغهاي، أراد هيرمان وبوفون التغلغل أكثر في سير عمل المقهى، حيث دسّوا صحفية في أحد مقاهي ستاربكس الباريسية لتعمل فيها كمتدربة مدة شهرين، ولتسجل بكاميرا خفية خفايا ظروف العمل في تلك المقاهي وتفنيد ادعاءات الشركة العالمية.

بدا فورا أن مفهوم “شركاء” غريب على إحساس العاملين تماما مع كل الضغوط الهائلة عليهم، فلا وقت لالتقاط الأنفاس وهم في مقارنة يومية مع مدخول نفس اليوم من العام السابق، كما أنهم هنا لأداء كل المهام التي من ضمنها تنظيف المحل حيث يقضون ثلث وقت العمل في هذا الأمر.

وكشف المخرجان كذلك ظروف العاملين في الولايات المتحدة حيث قوانين العمل أقل صرامة منها في فرنسا. هناك يحقّ لأرباب العمل تقليص ساعات عمل العاملين الشهرية ومعها أجورهم، فأين الشراكة والشعور بالأمان وساعات العمل غير مضمونة، والراتب أقل في نهاية الشهر فيما هو بالكاد يكفيهم؟ ظروف عمل صعبة ورواتب متدنية لا تتناسب مع ادعاءات المدير ذي “القلب الكبير”. لقد بدأت صورة الماركة تسودّ هناك لا سيما وأن الشركة حققت أرباحا وصلت إلى مليار دولار عام 2017.

يعمل القائمون على المجموعة على تلميع صورتها بالقول إن 90% من القهوة المستخدمة في ستاربكس آتية من جمعيات تعاونية للمزارعين. (رويترز)

ستاربكس.. خيبة المزارعين

ومع 350 ألف عامل لديها فإن سلسلة المقاهي الأميركية وما تبرزه من شعارات وقيم ودفاع عن البيئة وكفاح ضد التمييز بكل أنواعه، واهتمامها بالأوضاع الاجتماعية للعاملين فيها، تريد أن تدفع عن نفسها تهمة أن تكون مثل بقية الشركات المتعددة الجنسيات وهي تدعي أيضا أن 90% من منتجاتها آتية من “زراعة منصفة” للمزراعين، فماذا عن هذا؟

ادعاء اللجوء لتجارة عادلة مع المزارعين خدعة أخرى كما يكشف الفيلم. فمع المقادير الهائلة من القهوة اللازمة لتزويد فروعها أراد صانعا الفيلم التحري على الأرض، فذهب فريق العمل إلى المكسيك للقاء المزارعين ليتحدثوا عن تعاونهم مع ستاربكس.

يعمل القائمون على المجموعة على تلميع صورتها بالقول إن 90% من القهوة المستخدمة في ستاربكس آتية من جمعيات تعاونية للمزارعين، وأنها وعدت هؤلاء بالتخلص من الوسطاء وإقامة علاقة مباشرة بين المزارع والمشتري لدفع أجور منصفة. وقد عدّل المزارعون أسلوب الإنتاج ووسائله كي تلائم متطلبات سلسلة المقاهي، لكن الشركة لم تتخل كما وعدت عن الوسيط، ولم نلحظ بالتالي هذه العلاقة المباشرة بين المنتجين والمستهلكين.

تستخدم مقاهي ستاربكس كؤوسا مصنوعة من ورق مدعّم ببلاستيك غير قابل لإعادة التدوير، ومع أربعة مليارات كأس مستخدمة في العام فإنها تتسبب بقطع ملايين الأشجار. (رويترز)

ستاربكس.. هل هي صديقة للبيئة؟

تزداد لائحة الشعارات ومعها كل ما يناقضها، فسلسلة مقاهي ستاربكس متهمة أيضا بأنها لا تحترم البيئة رغم ادعائها العكس، فالمقاهي تستخدم كؤوسا مصنوعة من ورق مدعّم ببلاستيك غير قابل لإعادة التدوير، ومع أربعة مليارات كأس مستخدمة في العام فإنها تتسبب بقطع ملايين الأشجار.. إنها كارثة بيئية.

ويبدو أن ثمة كارثة عقارية كذلك، فمقاهي ستاربكس تتمركز في مواقع إستراتيجية في المدن بحيث تشكل جزءا من هويتها ومن المشهد العام، وتوصف هذه الإستراتيجية “العدوانية” في الفيلم بأنها “افتراس الأقاليم”، لاسيما إذا عرفنا أنه في مساحة 400 متر مربع هناك 17 مقهى ستاربكس في نيويورك. إنها إستراتيجية تخنق المنافسة أيضا، كما يشهد صاحب مطعم في نيويورك طُرد من مقهاه بعد أن اشترته ستاربكس، وهو ما يعني أن كل مكان تفتح فيه مقهى لها يغلق آخر منافس.

لقد افتتحوا في الصين 3000 مقهى حتى اليوم، ومع كل هذه المقاهي المتكاثرة في كل مكان من العالم فإن ستاربكس تجد وسيلة لعدم دفع الضرائب أحيانا. ففي بريطانيا ثبت تلاعبها عام 2012 بعد أن ادعت الخسائر خلال 15 عاما، كما أنها لا تدفع ضرائب في فرنسا على الأرباح لأنها بحسب زعمها لا تحقق أرباحا.

بدأ هوارد شولتز بالتغيير وكان أوله مع "الحورية" العارية المرسومة على الكأس فأمست "أكثر طهرانية" بعد أن قصقص عريها. (رويترز)

حورية ستاربكس.. طاهرة أم عارية؟

يعود الفيلم في جزء منه إلى تاريخ المقهى الذي بدأ مكانا بسيطا “ضد ثقافة الاستهلاك”. ففي بداية السبعينيات بدأ ظهور خطابات تنتقد ثقافة الاستهلاك وتدعو إلى رأسمالية بديلة أو هيبية (نسبة إلى حركة الهيبيز الشهيرة). إنها المرحلة الرومانسية، حينها قرر ثلاثة من الأصدقاء شغوفون بالقهوة بيع قهوة عالية الجودة، فوجدت بضاعتهم ومقهاهم فيما بعد مرتادين كثرا إلى أن وقع مفهومهم للمقهى ضحية النجاح.

في مستهل الثمانينيات جاء من عالم الأعمال مدير جيد للمبيعات والتسويق، كان يرى “أبعد” بكثير من المؤسسين، إنه هوارد شولتز، وبات فيما بعد المدير العام بعد أن اشترى الماركة، وأخذت معه الأمور منحى آخر إذ أنه لم يكن من أصحاب “ثقافة الضد” التي كان عليها المؤسسون الأوائل. بدأ شولتز بالتغيير وكان أوله مع “الحورية” العارية المرسومة على الكأس فأمست “أكثر طهرانية” بعد أن قصقص عريها.