“الإنسانية أمام المحكمة”.. هل أضحى العمل الإنساني جريمة؟

قيس قاسم

الصورة الشهيرة للطفل الكُردي الغريق “آلان” الذي وجدت جثته ملقاة على ساحل إحدى الجزر اليونانية؛ تركت أثرا عميقا في ضمير الشاب الدانماركي “سلام الدين”، ودفعته للتفكير بالسفر إلى هناك لتقديم المساعدة اللازمة للمهاجرين الهاربين من الحروب الأهلية في سوريا والعراق.

وعوضا عن تثمين دوره لإنقاذ أرواح عشرات منهم من الغرق قبالة السواحل اليونانية؛ ألقت الشرطة القبض عليه، ووجهت له تهمة المشاركة في تهريب البشر. ومنذ ذلك الحين وهو يكافح لإثبات براءته من تهم باطلة إذا أثبتها القضاء اليوناني فسيقضي بقية حياته خلف القضبان.

وخلال العشرين شهرا التي سبقت محاكمته، عاش المتطوع الدانماركي الجنسية وبعض من أعضاء منظمته “فريق الإنسانية” أوضاعا نفسية صعبة، وذلك لإحساسهم الشديد بالظلم والخوف من إلصاق جريمة بهم لم يرتكبوها.

المخرج الدانماركي يوناس برون ومنذ أواسط يناير/كانون الثاني عام 2016 لم يتركهم، فقد ظلّ يُسجّل مُجريات القضية الغريبة التي يُقدم فيها أشخاص للمحاكمة في دولة أوروبية ديمقراطية بسبب تقديمهم العون لإخوان لهم في الإنسانية، وكانت حصيلة ذلك فيلما وثائقيا مهما عنوانه “الإنسانية أمام المحكمة”.

سلام الدين.. في عين العاصفة

اهتم الوثائقي بسلام ومنحَه مساحة أكبر من المساحة المخصصة لبقية المتهمين، وذلك يعود إلى تحوّل القضية كلها ضده تقريبا، وأنه وخلال مجرى التحقيقات أصبح المتهم الرئيسي فيها. فالتركيز عليه ظهر منذ إصدار الشرطة قرارا بمنعه من مغادرة الأراضي اليونانية وإطلاق سراحه المؤقت بكفالة، على عكس بقية زملائه الإسبان الذين لم يُمنعوا من السفر، وسُمِح لهم بالعودة إلى بلادهم لحين اقتراب موعد محاكمتهم أواسط عام 2018. هذا لم يمنع ولم يُلغِ شعورهم جميعا بالغُبن واللاعدالة من نشاط إنساني لم يخرق قوانين البلد ولا أساء لناسه.

والسبب الآخر المحفز للاهتمام بسلام الدين أكثر يعود إلى نشاطه اللافت ومبادراته الفردية، ولرصدها وتكوين خلفية عمّا كان يقوم به.

ويسترجع الوثائقي تسجيلات فيلمية للفترة التي سبقت اتهامه وتُظهِر مدى حماس الشاب المتطوع لإنقاذ أرواح بشر من موت محتم، فنراه يراقب بالمنظار من سيارته البحر، وما أن يرصد قاربا يقترب من السواحل حتى يهمّ بالوصول إليه، والاتصال مباشرة بشرطة خفر السواحل اليونانية لتقديم العون وانتشال ركاب القوارب المتداعية قبل أن تبتلعها الأمواج.

في مشاهد أخرى نراه مع أعضاء من منظمة “فريق الإنسانية”، وذلك في قارب لهم وهم يقتربون من مجموعة كانت على وشك الغرق، وكيف ساعد على انتشال ركابه، وطلب مساعدة خفر السواحل اليونانية لإكمال ما قاموا به.

لا يتردد سلام في تقديم المساعدة على كافة أشكالها، فهو يوزع الأغطية والطعام عليهم ويُنظّم شؤونهم
لا يتردد سلام في تقديم المساعدة على كافة أشكالها، فهو يوزع الأغطية والطعام عليهم ويُنظّم شؤونهم

روح توّاقة للنجدة

على اليابسة وفي المخيمات البائسة التي زُج بمئات اللاجئين فيها؛ لا يتردد سلام في تقديم المساعدة على كافة أشكالها، فهو يوزع الأغطية والطعام عليهم ويُنظّم شؤونهم.

يحظى سلام بشعبية كبيرة بين المهاجرين، فبعضهم يعرفه شخصيا لأنه هو من أنقذ حياتهم، ومن بين العوامل التي ساعدته على كسب وُدّهم إتقانه العربية وروحه الطيبة.

ينقل الوثائقي مشاهد له وهو يقوم بشراء أغذية من الأسواق يوزعها على المهاجرين في معسكر بيترا، وفي أخرى وهو يلعب مع أطفال المعسكر كرة القدم وينظم لهم فعاليات تُدخل الفرح إلى قلوبهم.

أمضى سلام الدين مع فريقه الإنساني شهورا عديدة وهو يجاهد لمساعدة الذين هم في حاجة إلى مساعدة
أمضى سلام الدين مع فريقه الإنساني شهورا عديدة وهو يجاهد لمساعدة الذين هم في حاجة إلى مساعدة

بديل غير مرغوب

لقد أمضى سلام الدين مع فريقه الإنساني شهورا عديدة وهو يجاهد لمساعدة الذين هم في حاجة إلى مساعدة، وذلك في ظل تلكؤ الجهات الرسمية اليونانية في تقديمها. ويبدو أن هذا الأمر أزعج أجهزة الشرطة التي غيَّرت من تصرفاتها إزاء المهاجرين، وبالتدريج عملت على تركهم يواجهون مصيرهم لوحدهم.

الإحساس بذلك التوجه تولد عند “فريق الإنسانية” ومن بينهم سلام نتيجة مراقبة ومعايشة قريبة، وبدلا من كبح اندفاعه؛ استمر الشاب بتقديم العون للمحتاجين إليه انطلاقا من تجربة عائلته.

يتذكر سلام ما تعرضت له عائلته إبان فترة الحرب الأهلية في مولدافيا، وكيف أجبرتهم الظروف على تركها طلبا للحماية، حيث نشأ سلام في الدانمارك لكنه ظل يشعر بما يشعر به المهاجر، ويعرف ما الذي يدفعه لترك كل شيء وراءه في سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لقد رحّب والده وعائلته بمبادرته وبما يقدمه ابنهم من مساعدة لمهاجرين يمرون اليوم بما مرّوا هم به خلال فترة عصيبة من حياتهم.

مقابلة سلام الدين للمحامي اليوناني زادت من مخاوفه، وذلك بعد أن عرف ما ينتظره في حالة إثبات التهمة الموجهة إليه
مقابلة سلام الدين للمحامي اليوناني زادت من مخاوفه، وذلك بعد أن عرف ما ينتظره في حالة إثبات التهمة الموجهة إليه

السجن 600 سنة.. حكم مرتقب

مقابلة سلام الدين للمحامي اليوناني زادت من مخاوفه، وذلك بعد أن عرف ما ينتظره في حالة إثبات التهمة الموجهة إليه، فالقانون اليوناني يُعاقب مهرّب البشر بالسجن مدة عشر سنوات عن كل شخص قام بتهريبه، وبما أنه أنقذ حياة أكثر من 60 شخصا، فقد يصل مجموع سنوات حكمه إلى ما يقارب 600 سنة.

كل تلك التفاصيل القانونية والموقف السياسي المُتغيّر من الهجرة دفعته لمراجعة وزارة الداخلية لاستحصال قرار منها يسمح له بالسفر إلى الدانمارك لتكليف محام له هناك.

يمضي الشاب وقته بين متابعة عمله الإنساني ومراجعة الجهات الرسمية التي كانت تماطل وتطيل فترة انتظاره، مما زاده قلقا وخوفا على مستقبله المهدد بالانهيار.

ويستغل الوثائقي بدوره تلك الفترة القلقة ليُصور وينقل الظروف الصعبة التي يعيشها المهاجرون في مخيمات مؤقتة تفتقر لأبسط شروط العيش الآدمي. وتدفعهم المطالبة بحسم قضاياهم وتقليل فترة انتظارهم إلى الشكوى والتظاهر ضد دوائر الهجرة التي صارت تتشدد أكثر في الفترة الأخيرة مقارنة بالسنوات الأولى التي تزامنت والموجات الأولى من الهجرة الإجبارية إلى اليونان ومنها إلى بقية الدول.

يبدو من سلوك الموظفين المتشدد أنهم يخضعون لضغوط دول الاتحاد الأوروبي الراغبة بالحدّ من الهجرة إليها عبر قطع شريان وصولهم إلى اليونان أولا.

بعد طول مراجعات يحصل سلام الدين على حق المغادرة المؤقتة والمشروطة بعودته إلى المحكمة حين يحين موعد انعقاده
بعد طول مراجعات يحصل سلام الدين على حق المغادرة المؤقتة والمشروطة بعودته إلى المحكمة حين يحين موعد انعقاده

بطل إنساني

بعد طول مراجعات يحصل سلام الدين على حق المغادرة المؤقتة والمشروطة بعودته إلى المحكمة حين يحين موعد انعقادها. وفي الدانمارك يُستَقبل سلام الدين من قبل المنظمة الإنسانية وأصدقائه وأهله كبطل.

مراجعته للمحامي أوصلته إلى قناعة بضرورة التحرك السياسي خارج الأطر القانونية، لقد سمع بالدعم السياسي الذي يُقدم لزملائه الإسبان في حين ظل هو يراوح مكانه.

تحركه الجديد انصبّ أولا على جهات سياسية دانماركية متعاطفة معه ومع المهاجرين، بعدها توجه إلى بروكسل لمقابلة ممثلي الدانمارك في الوحدة الأوروبية، فهدفه من الزيارة كان توضيح موقفه القانوني وعرض احتمالات ما ينتظره من أحكام.

أما على المستوى الإنساني والقيمي فقد أوصل رسالة مفادها أن الحكم عليه بجرم لم يرتكبه هو ظلم وإجحاف، لكن الأكثر خطورة منها هو الغرض الخفي من التهمة نفسها، والتي يُراد بها منعه وأمثاله من القيام بفعل إنساني مجرد من المصالح والمنافع الشخصية.

الإستراتيجية الجديدة التي نصحه المحامي بها والمقربون منه تعتمد على إشعار المحكمة اليونانية بأنه ليس وحيدا، وأن ما قام به ليس فيه ما يدعو للخجل، على العكس هم يفخرون بذلك، وأي خرق قانوني تُمارسه الأجهزة القضائية ضده سيُقابل برفض منهم وسيتوجهون لفضحه أمام العالم.

إنها قضية الهجرة التي تريد أوروبا اليوم وضع حدّ لها، ليس من خلال معالجة أسبابها، بل عبر غلق حدودها
إنها قضية الهجرة التي تريد أوروبا اليوم وضع حدّ لها، ليس من خلال معالجة أسبابها، بل عبر غلق حدودها

الهجرة.. صورة مأساوية

خلال التحرك والانتظار يمرّ سلام الدين بلحظات خوف وخيبة أمل من دول تدّعي الديمقراطية، وبالضد منها يأتي التضامن الحقيقي إليه من قبل منظمات وشخصيات مدافعة عن حقوق الإنسان، ويحظى بدعم من زملاء لم يتخلوا عنه في أشد الظروف صعوبة.

كل ذلك ينقله الوثائقي الذي تحوّل في نصفه الثاني إلى فيلم مَحاكم يدور بين غرف المحامين وأروقة اللجان الحقوقية، لكنه رغم ذلك لم يفقد بوصلته كفيلم معنيّ وقبل كل شيء بعرض حالة صغيرة ضمن قضية أكبر يتعرض فيها بشر كل يوم لخطر الموت، أو العيش في ظروف غاية في القسوة والصعوبة.

إنها قضية الهجرة التي تريد أوروبا اليوم وضع حدّ لها، ليس من خلال معالجة أسبابها، بل عبر غلق حدودها، حلٌّ يأتي على حسابهم أو على حساب من يبادر إلى مساعدتهم.

هذا التصور جاء نتيجة لمرافقة صانع الوثائقي الطويلة للشاب الدانماركي وبقية فريقه، وأيضا من خلال زيارته إلى أغلبية معسكرات اللاجئين في اليونان.

ومع وصول سلام الدين إلى اليونان واستعداده لدخول قاعة المحكمة؛ يخصص الوثائقي دقائقه الأخيرة لعرض التآزر العائلي الرائع الذي مدّ المتهم بالشجاعة اللازمة للدفاع عن نفسه أمام القضاة.

النتيجة كانت إعلان براءته من كل التهم الموجهة إليه، فبراءته مع بقية زملائه اعتبرها سلام الدين نصرا لهم وللقيم النبيلة، وتعبيرا صادقا عن روح تضامنية لا ينبغي أن تزول من الوجود بإرادة سياسية أنانية لا ترى في العالم إلا مصالحها الضيقة.