“ست طرق للموت في أمريكا”.. يمكنك اختيار طريقة موتك

محمد موسى

مثلما هو الحال في مطاعم الأكل السريع التي تخدم الزبائن في سياراتهم حيث تُطلَب الوجبات من نوافذ الأخيرة، توفر بعض شركات الدفن الأمريكية الفرصة لتوديع الموتى، وذلك عن طريق وضعهم في واجهات زجاجية وإفساح المجال لسيارات المُودّعين بإلقاء نظرة أخيرة عليهم.

بيد أن بعض الذين ظهروا في فيلم “نهايات بديلة.. ست طرق للموت في أمريكا” للمخرجَين الأمريكيين “ماثيو أونيل” و”بيري بيلتز” كانوا يترجلون من سياراتهم ويقتربون من الواجهة الزجاجية ويقفون عندها لبعض ثوانٍ قبل أن يتوجهوا إلى سياراتهم مرة أخرى، وليتحركوا بعدها إلى حياتهم المُزدحمة بالمشاغل.

إلى جانب توديع الموتى بالسيارات، يُقدّم الفيلم التسجيلي الأمريكي ظواهر جديدة على تقاليد الدفن في البلد، فيُوجه الفيلم الانتباه إلى التالي:

أولا “تقاليد حراسة جثث الموتى”، والتي يُفضّل بعض الأمريكيين أن ينظموها قبل وفاة الميت وليس بعده كما هو شائع.

وثانيا “الدفن العضوي”، وفيه يتم الدفن دون توابيت خشبية لاعتبارات بيئية بحتة، وذلك لأن استخدام التوابيت الخشبية مُضر بالطبيعة.

وثالثا “الدفن الفضائي”، حيث يُرسَل رُفات الموتى إلى الفضاء الخارجي.

ورابعا “القتل الرحيم” الذي تسمح به بعض الولايات الأمريكية، وفيه يُقرر المريض الميؤوس من شفائه إنهاء حياته رفقاً بعائلته، وتخلصاً من المعاناة والآلام التي لا يحتملها.

 

“جيل الخير”.. وقوف أمام أسئلة الموت

إذا كانت هذه الظواهر تبدو من الخارج مُترفة وغريبة وحتى ناشزة، فإن الفيلم عندما يبحث في كل واحدة منها ويُرافق شخصيات حقيقية اختارت هذه الطرق البديلة للموت أو الدفن؛ سيتبدّى بعدها أن هناك أساساً إنسانياً وحتى أخلاقياً متيناً وراء هذه الخيارات.

كما أن الرفاه الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه الغرب منذ عقود يمنحه الفرص للتفكير بالنهايات التي لا بدّ منها، وأن البعض اليوم يرغب بأن يواصل خياراته الفكرية والحياتية حتى النهاية، أي حتى الموت والدفن ما دام يملك القدرة على ذلك.

يوضح الفيلم وعن طريق النصوص التي يفتتح بها زمنه أن الجيل الذي وُلد بعد الحرب العالمية الثانية والذي يعرف بـ”جيل الخير” (baby boomer)؛ يقترب من نهايات حياته، وأن هذا الجيل الذي بدأ الثورة الفكرية والاجتماعية الراديكالية في ستينيات القرن الماضي وغيّر العالم الغربي إلى الأبد؛ يقف اليوم أمام أسئلة الموت، فالبعض من هذا الجيل لا يريد أن يخضع إلى موروثات اجتماعية، ويتطلع أن يختار نهاية تلائم حياته ومعتقداته.

الفيلم يوضح أن الجيل الذي وُلد بعد الحرب العالمية الثانية والذي يعرف بـ”جيل الخير” يقترب من نهايات حياته

 

آخر صرعات الدفن

تبدأ رحلة الفيلم من معرض كبير لآخر مستجدات سوق الدفن في الولايات المتحدة (تصل المبالغ المُدارة في هذا السوق إلى 16 مليار دولار في العام)، حيث لم يعد الزبون الأمريكي مُقتنعا بدفن عادي، حتى إن أحد الخبراء في المعرض توقع أن تختفي نصف شركات الدفن الأمريكية إذا لم تتفاعل مع التغييرات الجديدة في الذهنية الأمريكية.

يَجمع المعرض الكثير من التقنيات الجديدة لحفظ رُفات الموتى، وهو سوق ينمو بسرعة هائلة، إذ إن الفيلم يُخبرنا بأن أكثر من نصف الأمريكيين اختاروا الحرق على الدفن عام 2018.

هناك الكثير الجديد في المعرض، فالذي يرغب بترك رسالة فيديو للمُعزّين به، بإمكانه اليوم فعل ذلك عن طريق صندوق زجاجي يظهر بداخله الراحل الذي سجّل الرسالة قبل وفاته.

كما تدخل التكنولوجيا في تقاليد الدفن اليوم، إذ أصبح بالمقدور وعن طريق برنامج تطبيقي في الهواتف المحمولة التواصل مع شركات الدفن ومَعرفة الكثير من المعلومات عن المتوفى، ومنها صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي.

يستعرض الفيلم الطريقة الأولى الجديدة للدفن، وترتبط بالحلول البيئية التي يفكر بها بعض الأمريكيين لأنفسهم أو للراحلين من عوائلهم
الفيلم يستعرض الطريقة الأولى الجديدة للدفن، وترتبط بالحلول البيئية التي يفكر بها بعض الأمريكيين لأنفسهم أو للراحلين من عوائلهم

 

الخلود في البحر

يستعرض الفيلم الطريقة الأولى الجديدة للدفن، وترتبط بالحلول البيئية التي يفكر بها بعض الأمريكيين لأنفسهم أو للراحلين من عوائلهم.

ويختار الفيلم قصة شابة مشغولة منذ وفاة والدها قبل أشهر من زمن تصوير العمل التسجيلي بطريقة لتخليد ذكرى والدها، وتصل هذه الشابة مع والدتها إلى أن البحر هو المكان الطبيعي لنثر رفات الوالد الراحل، والذي كان يحب البحار كثيراً وسكن بالقرب منها.

بيد أن العائلة لم تكن ترغب برمي الرفات في البحر، بل كانت تبحث عن وسيلة صديقة للبيئة لتخليد ذكرى الراحل، لتعثر في النهاية على حلّ بيئي مثالي، فهناك مؤسسات أمريكية تقوم بصناعة شعاب مرجانية لتعويض تلك التي تتدمر بسرعات كبيرة بسبب التغيرات المناخية.

تخلط الابنة بنفسها وبتأثر شديد رفات أبيها مع إسمنت الشعب المرجانية الاصطناعية، وتضع صورا عائلية فيها، وترسم قلب حب كبير على الجزء الأملس من الشعبة.

يُرافق الفيلم عمليات وضع الشعب المرجانية في البحر، وبعدها غوص الابنة إلى الشعبة التي يرقد فيها رفات والدها، وتلمس قلب الشعبة التي يخبرنا خبير في الشركة المصنّعة أنها ستقاوم التغيرات المناخية، وستبقى لنحو 500 عام قادم.

بدل أن تنتظر عائلة كويفاس موت الأب والجد حتى تحتفل الاحتفال الديني المعروف بـ"حراسة جثة الميت"؛ اختارت أن يكون هذا الاحتفال في حياته
عائلة كويفاس لم تنتظر موت الأب والجد حتى تحتفل الاحتفال الديني المعروف بـ”حراسة جثة الميت”، بل أقامت الاحتفال في حياته

 

حفل وداع قبل الموت

بدل أن تنتظر عائلة كويفاس موت الأب والجد حتى تحتفل الاحتفال الديني المعروف بـ”حراسة جثة الميت”؛ اختارت أن يكون هذا الاحتفال في حياته، وهو سيودع بنفسه أولاده وأحفاده وأقرباءه وأصدقاءه في تقليد أمريكي جديد.

عندما وصل مُخرجا الفيلم إلى عائلة كويفاس وجدا كبير العائلة مُمدداً على سريره ويتنفس بواسطة أجهزة تنفس اصطناعية، فهو مصاب بسرطان انتشر في جسده ولا أمل في شفائه.

يُرتب أولاد الأب احتفالا كبيراً، ويستعيد الأب نفسه جزءاً من حيويته وهو يُودع كل من حضر الاحتفال، ومن ضمنهم أطفال العائلة الذين لم يتعدوا السنة من أعمارهم.

سلل الوعي الصديق للبيئة إلى خيارات الدفن عند بعض الأمريكيين، مثل المرأة المريضة التي يرافقها الفيلم وهي تختار بنفسها الحل البيئي الأمثل لدفنها
امرأة أمريكية مريضة يرافقها الفيلم وتختار بنفسها الحل البيئي الأمثل لدفنها

 

دفن صديق للبيئة

تسلل الوعي الصديق للبيئة إلى خيارات الدفن عند بعض الأمريكيين، مثل المرأة المريضة التي يرافقها الفيلم وهي تختار بنفسها الحل البيئي الأمثل لدفنها، فتختار الدفن دون تابوت خشبي أو في مقابر مكلفة، ووقع اختيارها على منطقة في وسط الغابات، وفضلت الدفن دون شاهد قبر حجري يكون مُكلفاً ومضراً بالبيئة.

بدا أن المرأة التي يتابعها الفيلم قد وجدت في التفكير في هذه الحلول البيئية وسيلة لتجنب التفكير بالموت نفسه، وعندما تموت المرأة أثناء تصوير الفيلم؛ تبتعد الكاميرا قليلاً وهي تصور يوم جنازتها، وتراقب عائلتها عن بعد وهي تقوم بتجهيزها إلى مكانها الأخير، لكن في طقوس مُختلفة عن طرق الدفن الشائعة.

رُفات ينثر في الفضاء

وللذين لم يحققوا في حياتهم حلم السفر إلى الفضاء الخارجي، يُمكنهم الآن الوصول برفاتهم إلى ذلك العالم المجهول، فهناك شركات توفر هذه الإمكانية خاصة مع دخول المال الخاص في أبحاث الفضاء، ولم يعد حكرا على الحكومات كما كان الحال في السابق.

يُرافق الفيلم التسجيلي عائلة أمريكية وهي تتهيأ لإرسال رفات والدها الذي أحب الفضاء في حياته إلى هناك، على أن يتم نثر هذا الرفات في الفضاء.

لا يستطلع الفيلم الأثمان التي تُدفع للشركات التي توفر هذه الخدمة، والتي تكون على الأغلب مُرتفعة للغاية، حالها حال كل العمليات التي تخص أبحاث ورحلات الفضاء.

أمريكي يبلغ من العمر 76 عاما يتصور مع حفيده قبل أن يلجأ إلى خيار “الموت الرحيم” الذي تسمح به الولاية التي يعيش فيها

 

“الموت الرحيم”.. رغم قسوته

ولعل قصة الموت الخامسة التي قدمها الفيلم هي أكثر القصص أيلاماً فيه وأصعبها على المشاهدة، فقد سجّل العمل التسجيلي الأيام الأخيرة لأمريكي يبلغ الـ76 من العمر ويعاني مرضاً لا نجاة منه، فيقرر هذا الأمريكي وبالاتفاق مع عائلته اللجوء إلى خيار “الموت الرحيم” الذي تسمح به الولاية التي يعيش فيها.

يصور المخرجان الرجل العليل مع زوجته وهو يتلقى تعليمات أخذ الجرعة القاتلة من طبيبه، وعندما يصل إلى بيته يبدأ بهِمّة كبيرة في مساعدة زوج ابنته في صناعة التابوت الخشبي الذي ستوضع فيه جثته. ليقول زوج البنت لعمّه الذي يختبر حجم التابوت عن طريق الجلوس فيه: كنتَ لي نعم الصديق والمعلّم، وأن أساعدك في صناعة تابوتك هذا شرفُ لي.

وعلى الرغم من أن تلفزيونات غربية وأفلام تسجيلية قدمت في الماضي اللحظات الأخيرة لناس اختاروا الموت الرحيم، فإن ما تسجله كاميرات فيلم “نهايات بديلة.. ست طرق للموت في أمريكا” لموت الأمريكي المريض؛ تُعد واحدة من أكثر الدقائق قسوة في مثل هذا النوع من المواقف.

يمنح الفيلم الحرية بوضع كاميراته كيفما يشاء، ويقترب كثيراً من الرجل الذي كان يتمدد على أريكة في غرفة جلوسه وبجانب زوجته التي أعطته الجرعة التي ستنهي حياته. يُطلق الجسد الضخم صوتاً غريباً يخيف كل من في البيت، بيد أن الزوجة التي عملت كمعالجة نفسية تُطمئن العائلة في الغرفة بأنه الصوت الذي يُطلقه الجسد قبل الموت. تتابع الكاميرا تصوير المشهد حتى انقطاع نفس الأب، فيما خيّم الوجوم والحزن الشديد على جميع من كان في الغرفة.

يختتم الفيلم زمنه بقصة عن طفل رحل عن العالم وهو في الخامسة فقط من عمره، وذلك بعد إصابته بالسرطان.

كان الطفل واعياً بخطورة مرضه، وطلب من أهله أن لا يقيموا عزاء تقليديا بعد موته، فهو يُريد للجميع أن يحتفل، وبعد تردد بسيط من والد الطفل تقرر العائلة أن تلبي طلب الابن، حيث تنظّم بعد عشرة أيام من وفاته حفلة للأطفال وتدعو عليها أطفال العائلة مع ذويهم.

وتعتبر أم الطفل أنه “من الممكن تذكّر الموتى بطرق مختلفة”، وتقول للكاميرا: من الذي يقول إن حفلا كهذا هو استهانة بذكرى ابني؟

 

احترام خصوصيات

يحصل الفيلم على مدخل للدخول لحياة ناس عاديين وهم يمرون بأكثر أيامهم إيلاما، وهو أمر يُعد صعباً كثيراً في عوالم السينما التسجيلية، أي الحصول على ثقة هؤلاء الناس خاصة في عصر التخمة الإعلامية الذي نعيشه.

يحتفظ الفيلم بمسافة ملائمة من بعض المواقف الحسّاسة والخاصة، ولا تتطفل كاميراته كثيرا عندما يتبدى أن العوائل تحتاج أن تُتَرك لشأنها، فمن اللائق أن تبتعد الكاميرا عنهم وتدعهم يعيشون تلك اللحظات الخاصة دون حضور فرق التصوير والصوت.

صُوّر الفيلم على طوال فترة زمنية امتدت لأكثر من سنة، وهو الأمر الذي مَكَّنه من التعرف على شخصياته وهي على قيد الحياة، ثم سجل بعد ذلك وفاتها ودفنها في سابقة على السينما التسجيلية.

يستعين الفيلم بموسيقى حزينة مؤثرة ألفها الأمريكي جوناثان زالبن، لكنها لا تنزلق إلى العاطفية الشديدة، فالموسيقى كانت الواسطة التي يمكن عبرها التمعن في قصص شخصيات الفيلم والنهايات التي اختاروها، والتي لم تكن غريبة أو شاذة (ما عدا اختيار الدفن في الفضاء الذي يُعد ترفا لا يقدر عليه إلا الأغنياء)، وتنسجم مع الحيوات التي عاشتها الشخصيات في حياتها، لتكون طقوس الدفن والموت امتدادا واعيا لهذه الحيوات.