“التقرير”.. جريمة أمريكا المسكوت عنها

فيلم “التقرير” مبنية قصته على وقائع حقيقية ذات صلة بالأساليب التي استخدمتها وكالة المخابرات المركزية “سي آي أيه” وبقية الأجهزة الأمنية الأمريكية، وذلك في استجواب المشتبه بضلوعهم في أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، التي وردت في التقرير الذي أعده “دانييل جونز” بتكليف من السيناتور “ديان فاينستاين”.

في بداية الفيلم يظهر العنوان بالشكل التالي “تقرير التعذيب”، وبعد لحظات قليلة تُشطب منه كلمة “التعذيب” بخطوط حمراء. مجريات أحداث الفيلم الأمريكي الذي أخرجه وكتب سيناريوه “سكوت زد. بورنز” ستفسِر لاحقا أسباب ذلك الحذف، ومَنْ الذي يقف وراءه.

يستند الفيلم دراميا على تطور مسار المهمة الصعبة التي كُلف بها “دانييل جونز” (الممثل آدم دريفر) عام 2009، وذلك للتحقق من مصداقية وفعالية مشروع الاستجواب الجديد الذي قدمه الطبيب النفساني “جيم ميتشل” (الممثل دوغلاس هوج) عقب التفجيرات مباشرة للمخابرات المركزية الأمريكية، والذي حمل عنوان “أساليب الاستجواب المُحسّنة”، وصورّه لهم كبديل للأساليب التقليدية المتبعة في التحقيق مع المتهمين بقضايا الإرهاب وأكثر جدوى منها.

الأشرطة المفقودة.. البحث عن الأدلة

مسار “التقرير” الزمني ينطلق من عام 2002، وذلك حين أُوكلت لمجموعة تحقيق خاصة مَهمة تقصّي حقيقة ما تسرّب من معلومات عن قيام المخابرات المركزية بإتلاف مئات من أشرطة التحقيق المُصورَة، وذلك مع مشتبه بهم تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب أثناء استجوابهم، ولإخفائها قرّر المشرفون عليها التخلص منها.

صورة تجمع السيناتور “أنيت بينينغ” خلفها “دانييل جونز”

وقد دام البحث عن تلك الأشرطة سنتين، لكن الأجهزة الأمنية منعت في النهاية من ظهور نتائجه، وبعد ورود أنباء جديدة عن استخدام المحققين أساليب تعذيب بشعة تتعارض مع معاهدة جنيف لمعاملة السجناء والأسرى المتهمين بالضلوع في تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر؛ تحرّك بعض السياسيين لتقصّي حقيقتها. فمن هذه النقطة ينطلق البحث ويمضي “التقرير” في دروبه الخطيرة.

وثائقي باللون الأصفر الشاحب.. لمسة واقعية

جاء النص الروائي -بسبب قصته الواقعية- مشبعا بروح وثائقية، تعززت باستخدام صانعه أسلوبا سرديا يجمع بين الآني (الحاضر)، وبين العودة إلى الماضي (فلاش باك) المنقولة أحداثه بصورة مختلفة يغلب عليها اللون الأصفر الشاحب. أسلوب قَرّب للمتفرج الأحداث المتشابكة التي وردت في تقرير استقصائي دام العمل عليه خمس سنوات بدلا من سنة واحدة كما كان مقررا في البدء.

الممثل آدم دريفر الذي أدى دور “دانييل جونز”، والذي يُعتبر من بين أهم أدواره السينمائية

وقد تابع المكلف بالتقرير الذي عمل في أجهزة مخابراتية وتحقيقية مختلفة؛ ملايين الرسائل الداخلية ورسائل البريد المتبادلة بين المحققين ومسؤوليهم، التي بلغت في محصلتها قرابة سبعة آلاف صفحة استطاع كاتبها عرض حقائق صادمة عن مشروع التعذيب الجديد وفشل فاعليته.

كما كشف في التقرير أكاذيب قادة الأجهزة الأمنية وتسترهم على إخفاقه، وذلك حفاظا على مراكزهم وتجنبا لفضح عجزهم في الحصول على معلومات مفيدة من “المتهمين” عبر استخدام محققيهم أساليب تعذيب مُخيفة.

إبرة في كومة قش

يأخذ الفيلم الكثير من وقته داخل قبو شبه مظلم، وُضع فيه أعضاء فريق التحقيق المؤلف من “جونز” وستة آخرين (ثلاثة من الحزب الديمقراطي ومثلهم من الحزب الجمهوري)، والذين تَرك أكثرهم المهمة نتيجة للضغوطات النفسية التي كانوا يتعرضون إليها، إضافة لصعوبة العمل في ظلّ شروط قاهرة، فقد مَنعت المخابرات عليهم الاتصال المباشر بالأشخاص الذين ترد أسماؤهم في التقرير، كما منعتهم من التواصل مع أجهزة الإعلام، وحرمت أيضا على الفريق طباعة الوثائق التي يعملون عليها، حيث وفروا لهم حواسيب بسيطة وتركوهم يبحثون عن “الإبرة وسط كومة قش” كما يُقال.

سياسة غيّرت وجه العالم.. المرافعة السينمائية

يشتغل الفيلم كثيرا على العلاقة بين المكلف بإعداد التقرير والسيناتور المشرفة عليه، فعبر حواراتهما تتكشف ألاعيب السياسة، وغَلَبة المصالح الحزبية على مصالح الأفراد العاديين.

“دانييل جونز” خلال قيامه بالمهمة الصعبة في فيلم “التقرير”، حيث كشف جانبا خطيرا مما تمارسه المخابرات الأمريكية ضد المعتقلين

يظلّ الفيلم طيلة مساره يقظا لربط العام بالخاص، فبمقدار ما يُعتَبر “التقرير” فيلما عن بطله، فإنه أيضا عن الحياة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكيف غيّر مَنْ أراد استغلالها الجغرافية السياسية للعالم وفق رؤيتهم الأيديولوجية؟

يأتي ذلك عبر مَشاهد استجواب بعضهم أمام أعضاء الكونغرس، استنادا على ما كان يصل من “تقارير” إلى السيناتور “ديان فاينستاين”، وكيف كانوا يتملصون من الأسئلة ويتخلصون من المحاسبة بفضل الغطاء والدعم السياسي الذي توفره لهم أحزابهم ومؤسساتهم.

في النهاية لم يُقَدَّم أيٌّ من مسؤولي المخابرات للقضاء بعد كل الذي جاء في تحقيقات “الأشرطة المفقودة”، وأيضا في “التقرير” الخاص بـ”أساليب الاستجواب المحسنة”. ذلك يجعل من نص “سكوت بورنز” مرافعة سينمائية شجاعة عن هيمنة مؤسسات مخابراتية تضع نفسها فوق الجميع.

استغلال حالة الغضب.. خرق للأعراف الدولية

يمضي “التقرير” المُساهم في إنتاجه المخرج الأمريكي “ستيفن سودربيرغ” وبصماته عليه واضحة؛ في مسارات درامية متشعبة، فالإحاطة بها اشترطت مهارة إخراجية كبيرة، وسيطرة على نص يحتمل التوسع، لكنه لا يضمن عدم ضياع البوصلة، فيغرق في تفاصيل كثيرة وردت في آلاف الصفحات.

يُلمّح السيناريو المتماسك إلى استغلال أجهزة المخابرات لحالة الغضب السائدة بين الأمريكيين، وذلك بعد الحادي عشر من سبتمبر لتمرير كل ما كانت تريده، كما يُلمّح أيضا إلى تعكزها على الروح الوطنية لإسكات الأصوات المطالبة بمعاملة عادلة للسجناء والمتهمين، توافقا مع دساتير البلاد وقوانينها.

الممثل “جون هام “يلعب دور دينيس ماكدونو ، وهو المستشار القانوني للرئيس السابق باراك أوباما في فيلم “التقرير”

لقد خرق مشروع الاستجواب الجديد كل الأعراف الدولية والقيّم الأخلاقية كما سيرد في تقرير داخلي يحمل عنوان “مراجعة بانيتا”، الذي وجده المحقق أثناء بحثه ضمن الملفات السرية لـ”سي آي أيه”.

وهم الأبطال الوطنيين

تنقل مشاهد كثيرة -صُورت في العتمة وفي ممرات سيئة الإضاءة- حالات التعذيب والتشابك المضطرب بين محققين ولاءاتهم الإدارية مختلفة (البنتاغون وآي بي أف وسي آي أي)، لكن هواجسهم كانت موحدة، وهدفها تقديم أنفسهم أمام “البيت الأبيض” كأبطال وطنيين يعملون بلا كلل، وذلك لإحباط المؤامرات وكشف المخططات الإرهابية قبل وقوعها.

الممثلة الأمريكية “أنيت بينينغ” تمثل دور السيناتور “ديان فاينشتاين” في فيلم “التقرير”

سيظهر ذلك في سياق محاولة المحقق ربط خيوط البحث مع بعضها، الذي أوصله إلى ما فعله مدراء أجهزة المخابرات وهم تحت وطأة الشعور بالذنب لفشلهم في حماية المواطن الأمريكي؛ بالسجناء “الأجانب”، وكيف قبلوا تحت تأثير ذلك الشعور بشراء مشاريع استجواب سريعة استغل أصحابها حالة الارتباك السائدة في المؤسسات الأمريكية بعد التفجيرات لمصلحتهم الشخصية.

ملايين مهدورة.. أساليب تعذيب بلا جدوى

المشهد الذي يظهر فيه صاحب مشروع “أساليب الاستجواب المحسنة” برفقة مساعده بروس جنسين (الممثل رايدر سميث) أثناء عرضه على الجهات الأمنية؛ يوضح جانبا من ذلك الوضع، فالرجل الذي بدا واثقا من نفسه أكّد لهم أنه لا يفقه شيئا عن الشرق الأوسط، ولا يملك خبرة في التحقيقات، وأن كل ما يملكه هو خبرته في علم النفس، التي يعتقد أنه يستطيع من خلالها انتزاع الحقائق من أفواه المتهمين.

مشاهد كثيرة قاسية أوردها الفيلم لتعزيز بُطلان ما ادعاه، معززا مصداقية ما جاء في “التقرير”، فقد استخدم المحققون وبإشراف صاحب المشروع الذي حصل مقابله على 80 مليون دولار؛ أساليب تعذيب نفسية مُستحدثة، منها حرمان السجين من النوم وإهانته نفسيا، وذلك بتركه عاريا أمام أنظارهم، كما جربوا طريقة “الإيهام بالغرق”، وأساليب تعذيب نفسية مُحرمة دوليا، ومع ذلك لم تأتِ بنتائج جيدة.

اجتماع فريق وكالة المخابرات الأمريكية “سي آي أيه” الذي يرى بأن مصلحة أمريكا فوق الجميع

مشاهد كثيرة قوية التعبير أُريد بها توصيل حقيقة مؤلمة، وهي أن أغلب ما قُدّم من تقارير مخابراتية إلى المسؤولين السياسيين لا يخرج عن كونها أكاذيب، فاعترافات السجناء المستحصلة بفعل التعذيب جُلّها غير صحيحة، ونطق بها السجناء أملا في إنهاء طول عذابهم، فكثيرون منهم ماتوا تحت التعذيب، وانقطع بموتهم تسلسل وصول المعلومات.

مصلحة أمريكا أهمّ من أرواح الأجانب.. الابتزاز الوطني

في مسار التطور الدرامي في الفيلم ترد حقائق كثيرة على لسان مسؤولين اعترفوا بتضليلهم المتعمد لإدارة البيت الأبيض، وذلك عبر منعهم وصول ما كان يجري في أقبية التعذيب إليها، حيث قدموا لها بدلا من ذلك تقارير عن تعذيب “مخفف” لشخصيات قريبة من قادة تنظيم “القاعدة” وخطيرة على الأمن القومي.

في مجرى تطوره الدرامي المنقول بكاميرا رائعة وتوليف مُدهش، سيُثبت “التقرير” أن أكثر الأشخاص الذين أُجريت معهم تحقيقات سرّية لم يَستلموا مراكز حساسة في التنظيم، ولم تكن لديهم معلومات مهمة.

فريق عمل فيلم “التقرير” المُشارك في مهرجان لندن للأفلام عام 2019

في مشهد يُظهر فظاظتهم يعترف رئيس العمليات السرية في وكالة الاستخبارات “خوسيه رودريغيز” (في الفيلم الممثل كارلوس غوميز) أثناء اجتماعه مع السيناتور؛ بأن رجاله أخطأوا في حق سجناء كثيرين، لكن “مصلحة” أمريكا بالنسبة إليهم هي فوق الجميع، وهي أكثر أهمية بكثير من أرواح بعض “متهمين” أجانب.

من الأقبية إلى خارجها.. مؤامرة سياسية أمنية

يذهب “سكوت بورنز” في فيلمه إلى تجسيد حالة بطله الذي بدأ يتعرض لضغوطات وتهديدات من أجهزة المخابرات، وذلك لوضع حدّ لما كان يتوصل إليه من حقائق دامغة، فاستغلوا عثورهم على ملفات ووثائق سرية كان قد استنسخها من حواسيبهم، ووجهوا له -على ضوئها- تُهمة تسريب معلومات تضرّ بالأمن القومي، وهي تهمة -كما أخبره المحامي- تكلفه 20 عاما من حياته يقضيها في السجن إذا ما ثبتت صحتها.

من هذه النقطة تبدأ لعبة سياسة جديدة تأخذ الفيلم من الأقبية إلى الخارج، حيث المناورات على نيل مكاسب منها تزداد وتتفاعل بأداء تمثيلي رائع. سيُتوج ذلك اللعب بمنع إدارة أوباما “الديمقراطية” نشر “التقرير” كما هو، وذلك بحجة الخوف على المصالح الأمريكية في الخارج، واحتمال تعرض التحالف ضد “داعش” للانهيار إذا ما أطلع العالم، وبشكل خاص العربي والإسلامي على ما يجري داخل السجون الأمريكية.

كانت الغاية الحقيقية وراء منع نشر التقرير هي ضمان رِضى المخابرات عليه، وضمان حصوله شعبيا على أصوات انتخابية كافية لتأمين دورة رئاسية جديدة له، فاكتفت إدارته بتقليص صفحات التقرير من سبعة آلاف إلى 500 صفحة، وبحذف كلمة “تعذيب” من عنوانه، أما كاتب التقرير فقد خرج سالما بعد إسقاط التهمة عنه، لكنه لم يمضِ أبعد من ذلك.

رفض البطل “دانييل جونز” تسليم نسخة أصلية من تقريره إلى صحفي يعمل في صحيفة “نيويورك تايمز”، كان يريد نشره كاملا على صفحاتها، فبرفضه ضمِن سلامته، لكنه كشف -رغم تردده- جانبا خطيرا من ممارسات المخابرات الأمريكية، قِلّة من الأفلام في الفترة الأخيرة اهتمت بها، ولعل “التقرير” هو واحد من أهمها، والدور الرئيسي الذي لعبه الممثل “آدم دريفر” فيه هو بدون شك من بين أهم أدواره السينمائية.