“يوم جميل في الجوار”.. رسالة غفران على غير ميعاد

ينتمي فيلم “يوم جميل في الجوار” للنجم “توم هانكس” من حيث الإنتاج والتمثيل والدراما إلى المجتمع الأمريكي، لكنه لا ينتمي تماما إلى السينما الأمريكية التي تُراهن دائما على توقعات الجمهور وتعمل على تلبيتها، بينما يغامر السينمائي الأوروبي غالبا بالكشف عمّا يمكن أن يكون احتياجا لدى الجمهور ويُلبّيه أيضا.

كما تُقدّم المخرجة “مارييل هيلر” في ثالث أفلامها بعد “أنت صديقي” و”هل يمكن أن تغفر لي” عالما مُدهشا من التسامح، وذلك عبر قصة عاشها الأمريكيون منذ عام 1968، لكنهم يرونها هذه المرة بعيون جديدة.

حوار طفولي تحت الضغط.. تاريخ كأن لم يكن

تدور قصة فيلم “يوم جميل في الجوار” (بدأ عرضه في 22 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في الولايات المتحدة) حول الصحفي “توم جونود” الذي يرفض تعليمات رئيس تحرير المجلة التي يعمل بها حين طلب منه إجراء حوار مع مُقدّم برامج أطفال، لكنه تحت ضغط التهديد بالطرد من العمل يضطر إلى الموافقة، خاصة أن الإصدار الذي تقرر أن يتضمن الحوار هو إصدار خاص تقدمه إدارة المجلة المعروفة بـ”إسكواير” لقرّائها، ويشمل حوارات مع عدد من الشخصيات المعروفة في المجتمع الأمريكي.

وتقوم إدارة المجلة عادة بالتواصل مع النجوم لعرض فكرة إجراء الحوار، أولا لضمان موافقتهم على شخص الصحفي الذي يتم اختياره لإجراء المقابلة، وقد رفض هؤلاء اسم “توم جونود” باسثناء مُقدّم برامج الأطفال “فريد روجرز”.

ورغم موافقته ظل “جونود” يتساءل عن جدوى تلك الحوارات الخفيفة، ويتذكر حواراته الجادة مع شخصيات في مجال المال والأعمال والسياسة، وأخيرا قرّر أنه سيجري الحوار ويقدمه للمجلة، ثم يحذفه من تاريخه المهني وكأنه لم يحدث.

كان الإصدار الخاص من مجلة “إسكواير” عام 1998 يواكب مرور ثلاثين عاما على بدء المُنتِج التلفزيوني والكاتب ومُقدّم البرامج الأقدم والأشهر في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية “فريد روجرز” في تقديم برنامجه للأطفال، وقد حقق الرجل نجاحا لم يسبقه إليه أحد في مجاله، حتى أنه تلقى نحو 40 جائزة وتكريما من مختلف جامعات الولايات المتحدة الأمريكية.

على اليمين تظهر صورة “فريد روجرز” وعلى اليسار “توم هانكس” يُحاكي المشهد نفسه (غيتي)

لكمة على وجه الأب.. جراح أعمق من جراح الوجه

لم يُشكّل ذلك النجاح أيّ فارق يُذكر لدى الصحفي “توم” الغاضب دائما، وازدادت صعوبة الأمر بعد إصابته في وجهه إثر شجار مؤجل منذ أكثر من عشرين عاما، وقد حدث قبل فترة قليلة من موعده مع روجرز لإجراء الحوار، وجاءت الإصابة بين عينيه مباشرة، وذلك بعد أن اشتبك مع والده وحاول أحد الضيوف في حفل زفاف شقيقته إنقاذ الوالد من بين يدي ابنه، فَلَكَمَ “توم” في وجهه.

كان الصحفي الغاضب يحاول تجنّب المشاجرة، لكن الأب فرض نفسه واقترف ما اعتبره الابن وقاحة وتطفلا حين تدخّل في حياته الشخصية، فانفجرت كل الأسئلة القديمة في رأس الابن حول أب خان زوجته وابنه الصغير، وترك الأم تحتضر في المستشفى، ولم يُكلّف نفسه بالحضور للسؤال عنها، واضطر الولد الصغير للتوقيع على أوراق استلام جثة أمه ودفنها، بينما يلهو الأب مع نساء الليل.

حملت اللكمة التي وجّهها الابن إلى أبيه كل ذلك الغضب فسقط أرضا، بينما تلقّى الابن لكمة من زوج الابنة فجُرح بين عينيه.

الصحفي توم جونود يستقبل فريد روجرز استقبالا دافئا قبل أن يحاوره

الاستهانة بالضيف.. رُبّ ضارة نافعة

لم يرهق “توم جونود” (الممثل ماثيو ريس) نفسه بإجراء بحث لإعداد الأسئلة عن “فريد روجرز” قبل إجراء الحوار لسببين؛ الأول هو اعتقاده أن الرجل أبسط من أيّ بحث، وأن الحوار نفسه غير مهم، أما الثاني فهو أن “روجرز” واحد من أشهر الأمريكيين، لذلك تجاهل “توم” الإصابة التي تُشوّه وجهه، واتصل بمدير أعمال “روجرز” هاتفيا ليُحدّد موعد اللقاء، وازدات ثقة الصحفي بنفسه حين فُوجئ بـ”فريد روجرز” نفسه يتصل به، ويبلغه أنه جاهز للحوار في اليوم التالي.

وفي جلسة الحوار الأولى لم يتوقف “فريد روجرز” عن طرح الأسئلة على الصحفي، على عكس ما هو مفترض في مثل هذه الحالات، للدرجة التي جعلت “توم” يُنهي الجلسة، لكنه عاد مرات ومرات بعد أن كشفت الحوارات المتتالية ذلك العمق الإنساني الذي يتمتع به “روجرز”.

وبدلا من تقديم حوار لا يتجاوز 400 كلمة، قدّم توم 4000 كلمة، فتحمست رئيس التحرير وحوّلت الحوار إلى موضوع رئيسي وغلاف فاز توم عنه بجائزة، لكن الجائزة الأهم كانت ذلك التدخل الناعم الذي أدى إلى غفران الابن لوالده، واستعادة الأسرة لعلاقات دافئة، والتخلص من عبء الغضب والنفور الدائم.

ديكور البرنامج الشهير لـ”فريد روجرز” واسمه “حي فريد روجرز”

“حي فريد روجرز”.. حين يُشكّل الديكور ملاذا

بدءا من اللقطة الأولى للفيلم الذي كتبه كل من “ميكا فيتزرمان” و”نوح هابستر”؛ يشعر المشاهد بمفاجأة تتعلق بالعودة إلى عالم التسعينيات وما قبله، وذلك عبر تفاصيل لونية، كما يوحي الديكور الذي تحوّل إلى مركز للفيلم تدور كل المشاهد حوله، لكنها تعود إليه في النهاية.

ذلك الديكور هو نفسه ديكور البرنامج الشهير لـ”فريد روجرز” واسمه “حي فريد روجرز”، لكن الزاوية التي تم تصوير “توم هانكس” فيها جالسا ومتحدثا مباشرة إلى الجمهور؛ تُشير إلى معنى أكثر عمقا، إذ يبدو الحي أو المنزل أو الديكور بكل تفاصيله “ملاذا” أو “ملجأ” بعيدا عن الصخب والضجيج والعنف الذي يجتاح العالم.

الممثل الأمريكي توم هانكس يراجع سكريبت برنامج “حي فريد روجرز”

“هانكس”.. مرآة تجعل الواقع فيلما سينمائيا

إن تقديم الأدوار التي تنتمي لقصص حقيقية ليس جديدا على هانكس، فقد قدّم من قبل المحامي “جيفري بورز” الذي تم طرده من الشركة التي يعمل بها بعدما علم زملاؤه بإصابته بالإيدز في فيلم “فيلادلفيا”، وشخصية رائد فضاء في الفيلم الشهير “أبولو 13″، والذي يحكي قصة رحلة ناسا للفضاء في المركبة المعروفة باسم “أبولو”.

كما جسّد “هانكس” أيضا دور المحقق في عملية الملاحقة الشهيرة للمُحتال والمُزوِّر “فرانك أباغنيل” (الممثل ليوناردو دي كابريو)، الذي حيّر المباحث الفيدرالية الأمريكية وهو لم يتم العشرين بعد، وذلك في فيلم “اقبض علي إذا استطعت”.

هذا التنوع الذي يميز أدوار النجم الهوليودي الكبير “توم هانكس”، رشحه خمس مرات لجوائز الأوسكار وحققها مرتين، إضافة إلى عشرات الجوائز الأخرى، منها جائزة إيمي وأربع جوائز غولدن غلوب، ورغم ذلك التنوع في الأدوار فإن ثمة شعورا بروح مختلفة تماما اجتاحت كيانه، وكأنه استبدل روحه بروح “روجرز” نفسه، إذ تسرّب هدوء تلك الروح إلى ملامحه، وذلك الإيقاع البطيء الهادئ الواثق إلى حركته.

توم هانكس يستعد لتصوير أحد مشاهد فيلمه “يوم جميل في الجوار”

الحاجة إلى الغفران.. خطاب إلى الجمهور

حمل أداء “توم هانكس” في دور “روجرز” لمحة مسرحية رافقت الدور منذ بدء الفيلم وحتى النهاية، وهي تلك النظرة المباشرة من عيونه إلى عدسة الكاميرا، أو بدقة إلى عيون الجمهور، وخاصة حين يطلب من الصحفي الغاضب “توم جونود” الصمت لدقيقة واحدة، ومحاولة الغفران لشخص يشعر أنه أساء إليه.

كانت نظرة “هانكس” إلى الجمهور تعني ببساطة أن على المُشاهد أن يحاول فعل ذلك أيضا، وذلك عبر المزج بين أداء برامجي يوجّه خلاله “روجرز” النظر إلى عدسة الكاميرا، وبين أداء فيلمي يُقدِّم “توم هانكس” من خلاله “روجرز”؛ وما بينهما يتسرّب الفيلم إلى وجدان المشاهد كما لو كان جزيرة من التسامح والسلام، وسط صراعات يومية مع الذات والآخر، في عالم يحتاج إلى الغفران أكثر مما يحتاج إلى غيره.

مُقدّم برامج الأطفال “فريد روجرز” يمسك أحد عرائس برنامجه

ليست مجرد سيرة ذاتية.. هكذا بدا “روجرز” في الفيلم

ينتمي العمل إلى أفلام السيرة الذاتية، وإن لم يستعرض تاريخ “فريد روجرز” الذي قُدّم عنه فيلم وثائقي سابقا، لكن “يوم جميل في الجوار” لا يُقدّم تلك السيرة الخالصة، وإنما يختزل “روجرز” في قصة حوار صحفي، وبالتالي ينطلق إلى قصة موازية هي قصة الصحفي “توم جونود” نفسه، وغضبه الكبير من والده الذي خان أسرته وترك زوجته للموت، بينما يتحمل ابنه الطفل الذي صار صحفيا غاضبا دفن أمه، ومن ثم يأتي “روجرز” لصناعة الغفران في الأسرة بين الأب والابن.

ورغم ما أضفته القصة الموازية من أبعاد للعمل (وهي قصة حقيقية بدورها)، فإن انتساب الفيلم لأعمال السيرة الذاتية كان يمكن أن يجعل تلك التحديات المتعلقة بالتسامح والغفران جزءا من حياة “روجرز” نفسه، خاصة أن مُقدِّم البرامج الأنجح في تاريخ أمريكا كان طفلا بدينا تعرّض للتنمر كثيرا، لكنه تجاوز ذلك في الكبر، بل إن صُنّاع الفيلم أكدوا عبر الحوار في أكثر من موضع على لسان روجرز وزوجته أنه إنسان وله أخطاؤه وتحدياته الحياتية كأب، خاصة في علاقته بابنه الأصغر (لم يظهر في الفيلم)، وهي نقطة ضعف في السيناريو ينبغي ألا ترد في عمل بهذا الحجم، فلا ينبغي أن ترد معلومات شفهية في السيناريو، بل يجب تجسيدها في مواقف.

صورة تجمع الممثل الأمريكي توم هانكس مع ميريل هيلر مخرجة فيلم “يوم جميل في الجوار”

طاقة غفران بحجم السماء.. الرسالة السامية

نجح الفيلم في توصيل رسالة سامية، وقدّم “فريد روجرز” بصورة جيدة دفع بها النُقّاد لترشيح “توم هانكس” للأوسكار للمرة السادسة، لكنه لم ينجح في الانتماء إلى عالم خالص من السيرة الذاتية، أو في تقديم فيلم اجتماعي عن أسرة تعرضت للخيانة من قبل الأب، وسامحته عبر شخص يملك طاقة غفران لا نهائية.

لكن تبقى رسالة الفيلم هي العذر المقبول، فلا شيء أكثر فعالية في تحسين حياة الشخص وجعله سعيدا أكثر من الغفران، ورغم ذلك فهو يبدو كسلعة لا يُقبل عليها البشر كثيرا، بل على العكس يحبون الانتقام والبقاء في حال الغضب، حتى تتحول حياتهم إلى جحيم كامل، وحين يأتي شخص ناجح في تسويق الغفران باعتباره قيمة عظيمة؛ يصبح هذا الشخص الناجح قيمة في ذاته.