“البؤساء” في الضواحي الفرنسية: كلنا فرنسيون

حين أُعلن عن مشاركة فيلم “البؤساء” في المسابقة الرسمية لمهرجان “كان” في دورته الأخيرة، ظنّ البعض أنه اقتباس جديد لرواية الأديب الفرنسي “فيكتور هوغو” الشهيرة. لكن “البؤساء” لم يكن يحمل من الرواية إلا عنوانها وبؤس أبطالها وجزءا من موقع أحداثها، فهو فيلم عن عالم مُعاصر بات فيه العنف عنوانا للحياة.

“البؤساء” هو الفيلم الأول الطويل للمخرج الفرنسي “لادج لي”، ويدور في ضاحية باريسية من الضواحي المعروفة بـ”الشغب” وعلاقة الريبة وسوء النية وحتى “الكراهية” التي تربط بين سكانها وبين قوى حفظ الأمن، ليرصد واقعها اليومي المُعاش بناء على معرفة دقيقة بأهلها وخبرة متراكمة بخباياها.

يُستهلّ الفيلم الذي يُعرض حاليا في الصالات الفرنسية ويلقى نجاحا شعبيا ونقديا؛ على وقع احتفالات فوز فرنسا بكأس العالم بكرة القدم عام 2018، وما أبرزه هذا الفوز حينها من تلاحم وطني، إذ عمّت البهجة الفرنسيين بجميع أطيافهم وأصولهم، وخرجوا معا للاحتفال بفريق يُمثلهم ويُعبّر عن تنوعهم الشكلي والديني.

هذا الربط في السيناريو بين فريق كرة القدم الفرنسي وبين أحياء الضواحي وما يجري فيها بدا ربطا مُوفقا، فعدة لاعبين هم من أصول عربية وأفريقية، وأغلبهم كان يسكن الضواحي وخرج من التهميش والفقر فيها، فأي حياة تُعاش هناك في الواقع؟

هذا ما أراد الفيلم التركيز عليه من خلال تناوله لزاوية محددة تتمثل بالعلاقة الصعبة والشائكة التي تربط سكان الضواحي في فرنسا ولا سيما اليافعين والشباب، بمن يفترض أنهم هنا لحمايتهم وفرض الأمن في المكان (أي الشرطة).

وفاز فيلم البؤساء بثلاثة جوائز في السينما الفرنسية ليلة أمس 29 فبراير/شباط 2020، حيث نال جائزة أفضل فيلم فرنسي لعام 2019، إضافة إلى جائزة الجمهور، وجائزة أفضل ممثل مساعد.

الشرطة والسكان.. عداء مُتبادل

يلاحق السيناريو فرقة من الشرطة مكوّنة من ثلاثة أفراد في قسم مكافحة الجريمة، حيث يُعرِّف من خلالها بالضاحية وأهلها، مستخدما المُلْتَحِق الجديد بالفريق “ستيفان” (داميان بونار) الذي يدعوه رفيقاه “كريس” (ألكسيس ماننتي) و”غوادا” (جبريل زونغا) إلى جولة أولية معهما في الحيّ، وذلك في خطوة يهدفان منها إلى رميه منذ البداية في أجواء المكان، ليلمس على الفور كل ما يُعانونه من مشاق ومخاطر مع سكان لا ينظرون إليهم بعين الترحاب، بل يُصوّبون نحوهم نظرات عدائية.

أسلوب اتبعه السيناريو خلال أربعين دقيقة من بداية الفيلم (من أصل ساعة و40 دقيقة مدة الفيلم)، وجاء كبطاقة تعريفية حيادية خالية من أي افتعال، تُدخل المشاهد تدريجيا -كما الضابط الجديد “ستيفان”- في الأماكن والأجواء المكهربة دون خطابية أو شرح طويل، حيث الأحداث تنساب بهدوء عبر تجوّل الفرقة بسيارتهم للتآلف مع الحيّ وشخصياته، بعيدا عن أي نمطية مُتوَقعة. هذا إلى أن يتدهور الوضع ويدخل الجميع في قلب أحداث خطيرة.

أجواء على حافة الانفجار

يبدو القادم الجديد مرتبكا بعض الشيء، ومحتارا أمام ما يراه وأمام ممارسات زملائه الاثنين، إذ يحاول باستمرار التخفيف من حدة المواقف التي قد تحيل إلى مواجهة عنيفة بين السكان وبين الشرطة، لكن الزميلين -لا سيما رئيس الفريق “كريس”- يسخران منه، فهو قدِم للتوّ لهذا العالم المعقّد، وهما هنا منذ عشر سنوات.

فريق شرطة مكافحة الجريمة المُكوّن من ستيفان وكريس وغوادا خلال جولة استطلاعية في الحي

إنها عبارة تُقال دائما لأي جديد للاستهزاء به، مما يفترض أنها تعبر عن سذاجة التعامل مع الواقع اليومي الشائك. لا سيما هنا، حيث ثمّة عالم موازٍ لما هو ظاهر مكوّن من زعماء محليين ومهربي مخدرات وملتحين ملتحقين للتوّ “بالدين”، ومشاغبين صغار هاربين من المدارس.

من خلال جولة الفريق تبدو الأجواء التي يعيشها الجميع مسمومة ومهيأة للانفجار، كما يسود توتر هائل، وتبدو الفرقة وهي تتابع عملها اليومي بحذر وبتحدٍ أحيانا لبعض السكان.

السيرك الغجري.. رصاص حقيقي

تتسارع الأحداث في إيقاع لاهث بعد خلاف بين يافعين أشقياء وبين فريق السيرك الغجري، فيقود هذا إلى مضاعفات خطيرة بعد تدخل فريق مكافحة الجريمة، وهو ما يوقع هذا الفريق في مأزق لا خلاص منه وهو يحاول إلقاء القبض على المشاكسين المراهقين مُطلقا النار على أحدهم.

خلاف بين يافعين أشقياء وبين فريق السيرك الغجري، مما يجعل فريق مكافحة الجريمة يتدخل

المشكلة أن شابا صغيرا هوايته التصوير التقط عن بُعد كل ما يقع في الحي، وذلك باستخدام طائرة من دون طيار (درون)، مما جعله يدين الفريق، وها هم يسعون بكل وسائلهم -التي تدخل ضمنها التفاهمات القائمة بين الشرطة وبين بعض الخارجين على القانون لتبادل المنافع- في سبيل إيجاد صاحب الطائرة الصغيرة ومصادرة جهاز التسجيل.

واعتمد الإخراج على التشويق كما في الأفلام البوليسية وخلط المشاعر والتوقعات، وبدا أن الخطأ ركب الكلّ وبات من الصعب التعاطف مع أي أحد، وتركزت كل الأحاسيس في شعور واحد لا غير، وهو القلق من عنف سيصيب الجميع دون استثناء.

ملائكة أم شياطين؟

من أفضل ما أثاره الفيلم أنه لا يُبدي الشباب كملائكة يتعرضون لقمع الشرطة، وكأنها المسؤولة الوحيدة عن تصرفاتها العدوانية، كما أنه لا يُظهر الشرطة وكأن كل همّها الأمن فقط والتعامل مع الجميع بحسن نية، بل يظهر أن الجميع مسؤول، وإبداء هذا على نحو متوازن يضع الفيلم في جهة المراقب والمحذّر أيضا من انفجار مُحتّم.

السيناريو صوّر كل شخصية دون أن يحكم عليها، مثل السكّان الملتحين الذين يسيطرون على فئة من الشباب

وهنا صوّر السيناريو كل شخصية دون أن يحكم عليها، بدءا من مختار الحيّ المحتال بعض الشيء، ومرورا بالسكان المتنوعين من الملتحين الذي يسيطرون على فئة من الشباب؛ ولكن بأسلوب خاص بعيدا عن كل ما سبق ورأيناه في هذه الحالات من دروس خطابية وعظية، ووصولا إلى الشرطة التي لا تتحكم بكل تصرفاتها.

الجميع هنا ليسوا لطفاء دائما أو شريرين دائما، وقد يحصل أحيانا ويتحلى من يبدو “شريرا” ببعض اللطف والودّ. إنهم كائنات بشرية يمكن لها أن تتغير بين لحظة وأخرى، وأن تكون أحيانا لطيفة وأحيانا أخرى لا تُطاق. كما يعالج الفيلم بدراية تفاعل الشخصيات مع الأحداث، إذ إن كل فرد من هذا المجتمع المُعقد -بحسب خلفيته وإدراكه- يسعى جاهدا لمنع الوضع من الانفلات التامّ.

الحيّ الباريسيّ كما لم تره من قبل

صوّر هذا الفيلم الصادم كل التنوع الموجود في هذه الأحياء الفرنسية، واهتم بالإنساني والسياسي معا، وذلك عبر رصد مكّثف وفعّال لهذا الغليان والعنف في الضواحي، مُوجِّها صرخة تحذيرية لعمل شيء قد يُنقذ الجميع من انهيار محتم.

اختار المخرج ضاحيته الباريسية التي نشأ بها كموقع للتصوير، فبدت هذه الأماكن كما لم نرها من قبل، رغم أن بعض الأفلام التي تهتم بهذه القضية قد قُدّمت في فرنسا، وأشهرها فيلم “الكراهية” للمخرج “ماتيو كاسوفيتز” (1995)، و”ليبارك الله فرنسا” لعبد المالك (2014)، و”ديبان” (2015) لـ “جاك أوديار”، و”إلهيات” لهدى بن يامينا (2016).

الضاحية الباريسية التي نشأ بها المخرج لادج لي، واختارها كموقع للتصوير

ويعود هذا التميز إلى أن المخرج المؤلف “لادج لي” (39 عاما) هو من سكان هذه الضاحية، فحتى بعد نجاحه ونيل الفيلم جائزة لجنة التحكيم الكبرى في الدورة الـ72 لمهرجان كان الأخير (2019) فإنه ما زال يقيم هناك، بل ويريد إعادة التصوير فيها.

يسرد المخرج في الفيلم حياته وتجاربه وتجارب من حوله، ويقول في حوار ترويجي للفيلم على موقع “آلو سيني”: إن كل ما في الفيلم مبني على أحداث مُعاشة؛ البهجة بكأس العالم، وصول شرطي جديد للحيّ، قصة الطائرة من غير طيار، فخلال خمس سنوات كنت أصور كل ما يحدث في الحي، لا سيما ما يتعلق بالشرطة.

كرة القدم.. جامع الشعب الأوحد

هذا الفيلم هو أول فيلم طويل للمخرج الذي سبق وعمل عدّة أفلام وثائقية بثَّها عبر الإنترنت ولفتت إليه الأنظار، لا سيما تلك التي صوّرها عن أحداث فرنسا عام 2005. ثم صنع عام 2017 فيلما قصيرا يتابع فيه العمل اليومي الشاق لأحد أفراد الشرطة سمّاه “البؤساء”، وقد رُشِّح لنيل جائزة “سيزار” لأفضل فيلم فرنسي قصير، فقرّر تحويله إلى فيلم طويل.

الفيلم عن فرنسا بكل تنوعها الإثني والديني وليس عن الضواحي فقط

الفيلم ليس عن الضواحي فقط، بل عن فرنسا بكل تنوعها الإثني والديني، بدءا من العنوان المُستقى من رواية “فيكتور هوغو”، إلى مَشاهد العلم الفرنسي المرفوع بكل يد بعد الفوز في كأس العالم.

يقول المخرج عن هذا: نحن وُلدنا هنا وعشنا دائما هنا، وفي بعض الأوقات كان بعضهم يقول إننا لسنا فرنسيين، لكننا شعرنا على الدوام بأننا فرنسيون.

وأضاف أن الفوز بكأس العالم عام 1998 ترك أثرا لا يُمحى في حياته، حيث قال: كنتُ في الـ18، وكنت مسحورا بما يجري، لقد جمعتنا كرة القدم ووَحّدتنا، ولم يعد هناك لون للبشرة أو طبقة اجتماعية، كنا كلنا فرنسيين. راودنا الشعور نفسه عند نيل فرنسا كأس العالم الأخير، وكأن كرة القدم وحدها كانت تنجح بتوحيدنا. من المؤسف أن لا جامع آخر للشعب، لكنها لحظات رائعة حين نعيشها وحين نصورها.