“الحوض الكبير”.. لماذا اكتسح دور العرض الفرنسية؟

ندى الأزهري

"الحوض الكبير" للفرنسي جيل لولوش، لا يعني باللغة الفرنسية مسبحا فحسب بل هو تعبير له استخدامات عديدة

رائع، تحفة، مليء بالحيوية والتفاؤل.. “نسمة من الهواء المنعش في الكوميديا الفرنسية” أنقذت نسبة التردد على دور السينما في فرنسا خلال الفترة الأخيرة، “جوهرة صغيرة” دفعت بهؤلاء الذين نادرا ما يذهبون إلى السينما يتحمسون لفعل ذلك، عملٌ اتفق على مديحه -وهذا أمر نادر- النقاد والجمهور في فرنسا، وفيلم يستأهل “سعفة الفرح” كما اقترح مشاهدون، وجائزة الجمهور في جوائز السينما الفرنسية “سيزار 2019” كما توقّع نقاد.

مفاجأة خريف 2018 في سوق السينما الفرنسية فيلمٌ “طفا على السطح”؛ وصفٌ يليق به وهو الذي يتحدث عن سباحين وحوض سباحة.

“الحوض الكبير” للفرنسي جيل لولوش، لا يعني باللغة الفرنسية مسبحا فحسب بل هو تعبير له استخدامات عديدة، ومنها مثلا الغوص في المياه العميقة، والتعرض لتجربة صعبة أو الارتماء في عمق ما.. معان تصبّ كلها في موضوع الفيلم حيث فريق من الرجال في ضِيق وألم وحيرة وإحباط من الحياة يتحدون ويتضامنون ويخوضون تجربة مبهجة. إنها الهشاشة الذكورية في فيلم ضد الإحباط والاكتئاب ومع قوة الاتحاد والأحلام المجنونة.

 

رقص مائي.. ولكن للرجال

ثماني رجال في أزمة، لقد أنهكهتهم الحياة لكنهم يريدون استعادة قدرتهم على مواجهتها وتحسين ظروفهم المعنوية على الأقل. إنهم كهول تجاوزوا الشباب ولم يصلوا إلى سن الشيخوخة بعد. ثمة عاطل عن العمل (ماتيو آمرليك) في حالة من الاكتئاب تجعله يقضي يومه جالسا أمام ألعاب الفيديو بعد أن يكون ابتلع جرعته اليومية من الحبوب المهدئة.

وموسيقي مغن (جان هوغ أنغلاد) لا يجد مجالا لعزف موسيقاه التي عفا عليها الزمن إلا في حانات متواضعة أو صالات احتفالات.

ومدير مصنع (غليوم كانيه) غاضب على الدوام من الكل؛ أولاده وزوجته وعماله، يستفزه أي شيء مهما صغرت قيمته.

ومدير شركة (بُنْوا بويلفورد) لصنع المسابح على وشك الإفلاس.

وحارس مسبح ليلي (فيليب كاتَرين) بسيط ووحيد لا يتأقلم مع المجتمع وقابل لتصديق كل ما يسمع.

دون نسيان سريلانكي هو هنا ليحكي ويعلّق دون أن يفهم أحد شيئا من تعليقاته.

إنهم “محبطون لدرجة يرمون فيها أنفسهم في الماء” كما يقولون، إذ يقرر هؤلاء وآخرون الانضمام لمسبح المدينة والتدرب على السباحة، ولا يكتفون بفكرة مجنونة في الأصل، وهي تشكيل فريق “للرقص التعبيري المائي” المكرّس في العادة للنساء، بل يريدون المنافسة في بطولة عالمية فيه.

فكرة غريبة، لكن التحدي يسمح لهم بإيجاد معنى لحياتهم. يريدون وضع كل جهودهم وطاقتهم للوصول ولإثبات قدرتهم على المحاولة من جديد. ها هم يلتقون في ممرات مسبح البلدية وفي قاعِهِ للتدرب، وتحت قيادة المدربة يصير المسبح مكانا للسلوى وحيزا يشعرون فيه بالحرية وبفائدتهم.

“الحوض الكبير” يصبح المكان المفضل لهؤلاء “الصبية” بعفويتهم وضعفهم، فيه يتجاوزون أنفسهم ويتجرؤون على كشف عيوبهم والتخلي عن انغلاقهم بالحديث عن معاناتهم. اجتماعهم يقضي على فرديتهم وأنانيتهم. إنهم يُخلقون من جديد ويعيدون اكتشاف ذواتهم.

يتعمد السيناريو وضع هشاشة هؤلاء الرجال مقابل قوة المدربتين، مع أنها قوة ظاهرية إذ إن الأعماق متأذية أيضا

هشاشة الرجال أمام قوة مدربتين

يتعمد السيناريو وضع هشاشة هؤلاء الرجال مقابل قوة المدربتين، مع أنها قوة ظاهرية إذ إن الأعماق متأذية أيضا. المدربة الأولى اللطيفة والمتفهمة (فيرجيني إيفِرا) بطلة سابقة في الرقص المائي، لكن لها مشاكلها هي الأخرى بعد نوبة علاج من إدمان الكحول، والثانية القاسية والمتطلبة (ليلى بختي) هي الأخرى بطلة سابقة ولكنها مقعدة على كرسي متحرك حاليا. تضاد في الأدوار التقليدية، حيث القوة والتماسك والنجاح مطلوبة دوما من الرجل أكثر من المرأة والضغوط المعنوية عليه أكبر، وهذا ما تعبر عنه مدربتهم صارخة “كفّوا عن التفكير وكأنكم نموذج ذكوري وتصرفوا بروح الجماعة”.

تكشف مراحل السرد شيئا فشيئا عيوب المجتمع الفردي، وكيف يمكن لروح الأخوة والشعور بالآخر أن تحلّ محلها عبر الاجتماع والعمل المشترك.

خلال أشهر من التدريب المستمر لهؤلاء الأفراد يسيطر عليهم التعاضد والتضامن وتتأكد الرغبة لديهم في المحاولة من جديد في كل نواحي الحياة. فها هو الموسيقي الذي يعمل أيضا كعامل بسيط في مطعم مدرسة ابنته المراهقة ينجح في التواصل معها وهي التي كانت تشعر بالخجل منه وترفض العلاقة معه، وها هو العاطل عن العمل يكفّ عن تناول حبوبه المهدئة، والغاضب يسعى للتفاهم مع أمه بعد أن أهملها طويلا ومع ابنه بدلا من تأنيبه طوال الوقت.. ثم ها هم ينتصرون في البطولة بمعجزة إصرارهم ومثابرتهم. قد يبدو الانتصار زائدا ومبالغا فيه، لكن السيناريو نجح في وضعه في موقعه، فهو انتصار “بسيط” في رياضة غير مهمة لا تهتم لها الصحافة ولا الإعلام ولكن هذا لا يهمّ الأبطال، فهم في النهاية انتصروا لأنفسهم وهذا هو المهم.

السيناريو يسمح بفهم الشخصيات وإدراك عيوبها وحسناتها، وينجح الإخراج في الدخول إلى عوالم كل واحدة منها وإشعار المشاهد بالتعاطف معها باعتماده السرد الموازي بين تدريبات المسبح وبين إبراز مشاهد من الحياة الخاصة لكل شخصية. لكن هذا لم يمنع هذا الخطاب عن تطوير الذات، وعلى الرغم من تجنبه الوقوع في المبالغة الدرامية -إذ بقي محافظا على جانبه الهزلي- كان ثقيلا في بعض نواحيه. كما أن تجميع هذه الشخصيات بدا مفتعلا وفوزهم بالبطولة غير مقنع، وجاءت محاولة الفيلم التخلص من الصورة التقليدية للفيلم الكوميدي الفرنسي باعتماده أسلوبا أقل بساطة في السرد؛ محاولة مفتعلة للتميز. لكن الكوميديا أربحت الفيلم في النهاية وكذلك أبطاله وهم من مشاهير السينما الفرنسية المعروفين بأدائهم المتميز. ويذكر أنهم تمرنوا سبعة أشهر بمعدل مرتين أسبوعيا على رياضة الرقص المائي التعبيرية.

اختير فيلم "الحوض الكبير" للعرض في مهرجان كان 2018 خارج المسابقة الرسمية، ونال إطراءً من النقد الفرنسي الذي هو في العادة قاس مع الأفلام الهزلية

الفيلم “الأسطورة” فرنسيا.. لماذا؟

اختير فيلم “الحوض الكبير” للعرض في مهرجان كان 2018 خارج المسابقة الرسمية، ونال إطراءً من النقد الفرنسي الذي هو في العادة قاس مع الأفلام الهزلية. ومنذ بدء عرضه في الصالات الفرنسية من 11 أسبوعا إلى اليوم وصل عدد بطاقاته المباعة إلى أربعة ملايين ومائتي ألف بطاقة واحتل المركز الخامس بين الأفلام الأكثر مشاهدة في فرنسا لعام 2018. ويقول بعض النقاد الفرنسيين إن الفيلم قد يصبح ضمن قائمة الأفلام “الأسطورة” أو “المعبودة” من قبل الفرنسيين، وهي لائحة لأفلام فرنسية شهيرة وشعبية جدا.

وثمة أسباب جعلت هذا الفيلم ظاهرة العام، ومن يقول ظاهرة لا يعني بالضرورة قيمة عالية، لكن في الفيلم ما جذب الملايين. فمعظم الصحف والمجلات الفرنسية اتفقت مع الجمهور في آرائها الإيجابية واحتفت بالفيلم واهتمت به لجهة تحليل أسباب نجاحه.

لعله يشبه فرنسا اليوم، فرنسا 2018، إنه الإحباط العام ومشاركة أبطال الفيلم للفرنسيين فيه، فهم يحيلون إلى أوضاع الفرنسيين النفسية والمعيشية من معاناة البطالة والفشل والخسارة والإحباط.. ففي الفيلم تبدو الروح المعنوية للشخصيات في أدنى درجاتها، في القاع تماما. كل واحد منهم، بدءا من برتراند (آمرليك) المكتئب العاطل عن العمل، على الرغم من كونه من الأطر العليا، إلى هذا الذي تعاني شركته الخسارة مرورا بالآخرين الذين ليسوا أفضل حالا..

أثار قراءٌ ونقادٌ أيضا مسألة الصداقة وأهميتها لدى الفرنسيين وروح الأخوة التي تظهر في داخل حمام السباحة وتنحل معها مشاكل الوجود. هذا فيلم عن الصداقة التي تجمع أفرادا من بيئات وآفاق مختلفة، ففيهم المثقف والمغني الحالم بجنون والبسيط والجاد والهزلي.. ولكنهم كلهم مرتبطون بالعائلة ومحبون لها وساعون لتحسين علاقاتهم سواء معها ومع الأصدقاء الجدد ومع من حولهم.

كما يثير الفيلم فكرة “الانتصار الجماعي” التي تلهب حماس الفرنسيين كما حصل عند حصولهم على كأس العالم الأخير، لاسيما وأن الأبطال هنا ليسوا على شاكلة الأبطال حقا، بل هم أناس عاديون بل وأحيانا تطغى عيوبهم الجسمانية التي قد لا تتناسب ولعبة رياضية، فهم يشبهون أي شخص عادي ولكنهم يمنحونه الرغبة بالحلم والتحقق والتفوق.

إنه “خطاب ذكي عن النجاح” كما وصفته مجلة فرنسية، وكذلك دعوة لتقدير النفس والتفاؤل، وقد أشعر الجمهور بالارتياح كما يُقرأ من تعليقاتهم. إننا نحتاج دوما إلى “نظرة جديدة لأنفسنا، لمسة حنان والقليل من التقدير والحب كي نرتقي من جديد” حسب قول المخرج جيل لولوش في حديث له مع مجلة “باري ماتش” الفرنسية، كما أن كل فرد بحاجة إلى “وسام”. الفيلم بهذا يرفع الروح المعنوية للفرنسيين عبر العمل الجماعي، ويعطي الأمل والرغبة ببذل المجهود ودعوة للناس لإعادة الاهتمام بالحياة والحب والتعلم من الفشل والمشاركة وعدم خشية التبادل مع الآخرين.

“الحوض الكبير” أول فيلم للمخرج والممثل جيل لولوش (كان شارك في إخراج فيلم عام 2004). وجاءت فكرته المباشرة -كما صرح في نفس الحوار- من قصة واقعية لنادي سويدي للرجال شاهدها على الشاشة الصغيرة، وجاءت مناسِبة لما كان يدور في ذهنه من أفكار لسنوات سابقة عن العصر الذي نعيش فيه و”يثير شيئا من المرارة والشعور بضآلة الأمل والطاقة”، وعن المجتمع الذي ينتج شخصيات مثل أبطال فيلمه وذلك حين لا ينفذ أفراده ما هو مطلوب منهم، ولهذا يشعرون بالوحدة. إنهم “أبطال متآكلون مكتئبون هامشيون ضائعون يمارسون لعبة قديمة تضعهم أكثر على الهامش.. وهنا أهمية الانتصار”. وهم في مجتمع لا يُسمح لهم فيه أن يكونوا ضعفاء أو هشين. لقد فكر المخرج بهذه النوعية من الرجال وكيف على سبيل المثال سيشرحون لعائلاتهم فشلهم؟!