“ولد جميل”.. عندما تقتل المخدرات أجمل ما تملك

عبد الكريم قادري

 

كثيرة هي الأفلام التي تطرقت إلى موضوع الإدمان على المخدرات، حتى شكّلت هذه “الثيمة” تشبعا واضحا في السينما، ومن هنا بات على كل مخرج قبل التطرق لها أن يُفكر كثيرا، ويطرح على نفسه السؤال الجوهري الذي يراود كل من يحترم فنه وجمهوره: ما الذي يمكن أن أقوم به في هذا الفيلم ولم يتطرق له غيري؟

من خلال الإجابة التي تختبئ في ثنايا القصة وتفاصيل السيناريو يُباشر المخرج مشروعه أو يتوقف، هذا من الناحية النظرية. أما الناحية العملية فالسؤال هنا أكثر عمقا، إذ يتمحور حول طريقة المعالجة والتكثيف التي تعكسها هامشية موضوع الإدمان في الفيلم، ليُقدم بطريقة غير مباشرة، أو الذهاب إليه دون تورية أو اختباء، وفي هذه النقطة بالذات تظهر موهبة المخرج من عدمها، شجاعة المغامرة أو الخوف من خوض التجربة، الثقة في النتيجة أو خيبة الانتظار.

هذه المغامرة السينمائية خاضها بكل شجاعة المخرج البلجيكي فليكس فان غروينغين، وذلك في آخر أفلامه التي أنتجها في أمريكا كأول عمل له ناطق باللغة الإنجليزية، فاختار له عنوان “ولد جميل” (Beautiful Boy).

 

بعيد عن الشارع.. قريب من الأسرة

يُعالج فيلم “ولد جميل” (2018) قضية في غاية الخطورة تعكسها تجارب الإدمان على المخدرات، وهي من أكثر المشاكل خطورة في المجتمع الغربي، والغول الذي يُخيف جميع الأسر، وتنعكس جمالية الفيلم وتأثيره في أنه مقتبس من كتابين مهمين كتبهما كل من الأب ديفد شيف وابنه نيك شيف، إذ يسردان من خلالهما تجربة الإدمان بين معاناة اقتسمها كل من الوالد ديفد مع ابنه المدمن نيك، لينقلها المخرج البلجيكي غروينغين من المحكي المقروء إلى المحكي الفيلمي.

الأسرة هي مفتاح كل شيء، فهذه هي الفكرة التي أسّس لها الفيلم، وقام بتفكيك العلاقة بين ديفد ونيك، هذا الأخير الذي يعيش حياة طبيعة حيث يحب الكتابة والرسم والرياضة والاستماع إلى الموسيقى، وأكثر من هذا فإنه متفوق في دراسته، والدليل أنه قُبِل في أهم أربع جامعات. أما والده فيعيش هو الآخر حياة متوسطة، قريب من ابنه إلى درجة كبيرة، ويشاركه في كل تفاصيل حياته، والبقية تفاصيل شدّت أزر الفيلم ودعمته.

الأسرة هي الفكرة التي أسس لها الفيلم، وقام من خلالها بتفكيك العلاقة بين الأب وابنه

 

أسئلة مطروحة وتأويلات مفتوحة

ومن هنا أبان المخرج البلجيكي غروينغين عن طريقة عمله، وهي تغليب المدرسة السينمائية الأوروبية في الفيلم، مبتعدا بذلك على النمط الهوليودي الذي يقدم النهايات السعيدة ويزرع الحلول في الأفلام. لكن المخرج في فيلمه “ولد جميل” يذهب أكثر من ذلك من خلال اعتماده على أسلوب طرح الأسئلة وترك الأبواب مشرعة للتأويل والاحتمال، حتى إنه كان قاسيا مع المشاهد، ليس القسوة التي تعتدي على الخيارات، لكنها تلك التي تزرع الشك والاحتمال وتولّد الحلول في ذهن كل مشاهد.

ومن بين الأسئلة التي تركها المخرج بدون أجوبة رغم أن المدة الزمنية في الفيلم قاربت 120 دقيقة: ما هو السبب الرئيسي الذي جعل نيك يتجه إلى تعاطي كل أنواع المخدرات وأكثرها فتكا، هل هو الطلاق الذي حدث بين والده ووالدته، هل هو مشكل وجودي لا يعرفه سوى نيك، هل هو دافع التجريب؟

ومن بين المشاهد التي تُقدم احتمالا آخر الجلسة التي جمعت الأب مع ابنه بعد أن نجح في مدرسته وأراد الاحتفال، حيث قام بتعاطي سيجارة حشيش أمام والده، وبعد إلحاح منه قام ديفد أيضا بالتعاطي. إنها أسئلة أخرى تركها المخرج معلّقة ووضع لها عدة احتمالات دون أن يذهب بالمشاهد إلى الحقيقة المطلقة التي يرى بأنها تقتل العمل وتبيده.

الوالد ديفد يقتسم معاناة تجربة الإدمان مع ابنه المدمن نيك

 

الصراع مع الذات والآخر

نقل فيلم “ولد جميل” العديد من مستويات الصراع بين الأب وابنه وزوجته السابقة والحالية وأطفاله الصغار وبين الضمير، وهي فكرة أن يكون هو أحد أسباب تعاطي ابنه للمخدرات، وفي هذا يتعرض إلى جَلْد قاس من الضمير، لأنه لم يستطع اكتشاف إدمان نيك للمخدرات إلا بعد مرحلة متقدمة، ولو اكتشف الأمر باكرا كان الحل سيكون أكثر سرعة، بالإضافة إلى الصراع المحوري بين نيك والمخدرات، والتي يعكسها المخدر القاسي الذي يسمى “الميثامفيتامين أو الميث”، وحسب التعريف العلمي لهذا المخدر فإنه منشط من مجموعة الأمفيتامين والفينيثيلامين من مجموعة العقاقير ذات التأثير العقلي.

في الجرعات الخفيفة يمكن للميثامفيتامين زيادة اليقظة والتركيز والطاقة بالنسبة للأشخاص المراهقين، أما في الجرعات الأعلى فيمكنه إحداث هوس مصاحب للنشوة ومشاعر الثقة بالنفس وزيادة الرغبة الجنسية.

للميثامفيتامين قدرة عالية على التسبب بإساءة الاستعمال، والإدمان المزمن قد يؤدي إلى متلازمة ما بعد الانسحاب التي يمكن أن تستمر إلى ما بعد فترة الانسحاب بأشهر أو حتى في بعض الأحيان إلى سنة، بالإضافة إلى الضرر النفسي والضرر البدني -ضرر القلب والأوعية الدموية بشكل أساسي- الذي يمكن أن يحدث مع الاستخدام المزمن أو الجرعات المفرطة الحادة.

اكتشف الوالد خطورة هذا المخدر بعد تواصله مع خبراء في المجال، وهذا من خلال المشهد الافتتاحي للفيلم، ولم يكتف بهذا بل تواصل مع مدمنة عليه، وذهب أكثر من ذلك حين جربه شخصيا ليعرف شعور ابنه وصراعه المرير.

الممثل الشاب ثيموثي شالاميت صاحب الـ24 عاما الذي لعب دور المدمن نيك

 

الولد الجميل.. نهاية صادمة

استطاع فيلم “ولد جميل” أن ينقل إحساس أسرة شيف ووقوفها مع نيك لآخر لحظة، وهذا بعد العديد من التجارب التي خاضها المدمن في المراكز الاجتماعية المختصة في الإقلاع، حيث يفشل كل مرة ويعود إلى عادته، لكن متابعة والده كانت مستمرة رغم تأثير هذا على باقي الأسرة، إلى أن وصل إلى حد تعاطي جرعة زائدة من أجل الانتحار.

ومن هنا وصل الفيلم إلى ذروته دون التمهيد لأي حلول، لينتهي بمشهد الوالد مع ابنه في أحد المراكز الاجتماعية، ويتم بعدها بث حوار صوتي مصاحب للجنيريك (التتر) يظهر فيه صوت نيك قويا وهو يردد بعض النصوص الشعرية، ولينتهي الفيلم على هذه الحال دون اللجوء إلى نهايات سعيدة. ربما كانت نية المخرج خلق صدمة لكل من يتعاطي المخدرات، ليخلق فيه نوعا من التساؤل وفي الوقت نفسه نوعا من اليقظة من هذا السم القاتل.

مشهد الوالد مع ابنه في حديقة أحد المراكز الاجتماعية

 

مفاتيح جمالية

كيّف المخرج البلجيكي فليكس فان غروينغين “ثيمة” فيلمه وصراع أبطاله النفسية مع مستويات الإضاءة، لهذا غلّب العتمة والألوان الكئيبة والخافتة في المشاهد الداخلية في الفيلم، خاصة داخل البيت وغرفة نيك وغرفة الضيوف، مع العلم أن جدران البيت كلها تقريبا من الزجاج الشفاف، بالإضافة إلى المكاتب والمراكز وداخل السيارة.

وفي الوقت نفسه عوّل كثيرا على تقنية الفلاش باك (العودة للخلف)، حيث أذاب من خلالها الزمن من ماض وحاضر ومستقبل وجعلهم في مستوى واحد، والفاصل الوحيد لهذا الفعل ومحدد مستوياته هو عمر الشخصيات، أو بالتحديد المراحل العمرية لنيك، ليكون المونتاج أحد مفاتيح الفيلم الجمالية.

خرج الممثل الكبير ستيف كارل (الذي أدى دور الوالد ديفد) في هذا الفيلم من جبّة أدواره السابقة التي انحصرت في دور الأبله الساذج الكوميدي، ليقدم في “ولد جميل” دورا يناقض كليا ما دأب عليه، حيث نراه الأب المثالي القلق على ابنه، والحزين المنتكس المتألم الباكي، وتفاعل بكل حرفية مع دوره إلى حد الإقناع.

وهذا ما وقفنا عليه أكثر مع الممثل الشاب ثيموثي شالاميت صاحب الـ24 عاما الذي لعب دور المدمن نيك، وقد توحد معه إلى درجة كبيرة سواء من الناحية النفسية أو حتى الفيزيائية، وسيفتح له هذا العمل أبواب التعاون مع مخرجين آخرين، وقد نال عليه العديد من الجوائز العالمية المهمة أهمها جائزة غولدن غلوب لأفض ممثل مساعد، وجائزة الأكاديمية البريطانية لأفضل ممثل مساعد، وجائزة جمعية نقاد السينما، وجائزة ستالايت، وجائزة ممثلي الشاشة، ناهيك عن العديد من التتويجات الأخرى.