“صف إلياس”.. تسجيلي يبحث عن شخوص صورة فصل مدرسي في حلب

محمد موسى

 

بدا اليوم السوري عاديا جدا، طلاب وطالبات لم يتعدوا العاشرة من العمر من مدينة حلب يقفون أمام عدسات الكاميرا الفوتوغرافية لالتقاط صورة في زيهم المدرسي، وذلك في تقليد تتبعه مدرستهم منذ سنوات طويلة.

الأمر الذي لم يخطر على بال أيّ من الموجودين في تلك الصورة الفوتوغرافية هو أن عالمهم الهادئ ذاك سيتشظى إلى عشرات القطع بعد أشهر من زمن تصوير الصورة، وسيهيم معظم الذين كانوا فيها في العالم الواسع، وسيصل بعضهم إلى دول بعيدة كثيرا، ولا يزال مصير مجموعة من الطلاب الذين كانوا في الصورة مجهولا، وذلك بعد أن ضاعت أخبارهم في دخان الحرب السورية الذي يُعمي الرؤية.

ستحمل الصورة الفوتوغرافية تلك معانٍ مأساوية إضافية، فمن المصادفة أنها صُوِّرت في اليوم الذي سقطت فيه أول قذيفة على مدينة حلب عام 2012، لتؤذن على نحو رمزي بنهاية الحياة السابقة كما يعرفها أبناء المدينة، والبدء بزمن جديد.

 

صورة مدرسية لصف حلبي

يتحول ذلك اليوم بأحداثه ومآلاته إلى يوم مفصلي، فهو يشكل نهاية زمن البراءة لهؤلاء الأطفال، وبداية تعرّفهم على العالم القاسي من حولهم، كما يمثل ذلك اليوم للذين تركوا سوريا منهم؛ التاريخ الرمزي لبداية توديع مدينتهم، والذي سيكون صعبا كثيرا على جميعهم.

يأخذ البرنامج الهولندي “سنان يبحث عن صف إلياس” الذي عُرض في حلقتين على شاشة التلفزيون الحكومي الهولندي أخيرا، وقدّمه الهولندي من أصول تركية سنان كان؛ رحلة طويلة بحثا عن الذين كانوا في الصورة التي التُقطت عام 2012.

تمرّ الرحلة على بيروت وهولندا وأستراليا، وتذهب أيضا إلى حلب حيث مكان الألم الأول، لتحاور الطلاب الذين كانوا في الصورة ولم تسنح لهم فرصة مغادرة المدينة، كما يقابل البرنامج مديرة المدرسة الابتدائية التي كانت موجودة في ذلك الزمن، ويستذكر معها زمن تصوير الصورة الفوتوغرافية، والزلزال الذي ضرب المدينة وأجبر العديد من طلاب مدرستها على المغادرة.

إلياس تشكل قصته نموذجا لما حدث للسوريين منذ ثورتهم التي انقلبت إلى حرب مُدمرة

 

إلياس في هولندا

البداية ستكون من هولندا حيث يعيش أحد الذين كانوا في الصورة؛ إلياس الذي لجأت عائلته إلى الدولة الأوروبية قبل سنوات قليلة. يمثل إلياس الشخصية الرئيسية في البرنامج، وتشكل قصته نموذجا لما حدث للسوريين منذ ثورتهم التي انقلبت إلى حرب مُدمرة.

كان طريق عائلة إلياس إلى هولندا مثالا على الطرق التي سار عليها أغلب السوريين الذين لجؤوا إلى الدول الغربية، حيث تركت عائلته حلب بعد تردي الوضع الأمني هناك واتجهت إلى بيروت التي عاشت فيها ظروفا اقتصادية صعبة كثيرا، وذلك قبل نجاح الأب في الوصول إلى هولندا والحصول على اللجوء هناك، ليفسح هذا المجال لعائلته الالتحاق به.

تعيش عائلة إلياس في حي هولندي هادئ، يداوم إلياس على الذهاب إلى مدرسته، بيد أن ما حدث له في حلب وذكريات أصدقاء المدرسة ما زال حاضرا في باله، حيث يحتفظ الصبي السوري بصورة الصف تلك، ويتساءل أحيانا عمّا حدث لأصدقائه حينها والذين يتذكرهم بالأسماء.

بعض عائلة إلياس لا يزال يعيش في بيروت، وإلى هناك يتجه البرنامج الهولندي ويتتبع آثاره في المدينة العربية، فيذهب مثلا إلى محل الدراجات الهوائية الذي كان يعمل فيه إلياس، ويقابل مالك المحل الذي يتذكر بحب كبير الصبي السوري الذي كان عليه أن يُعيل عائلته بعد سفر الوالد في رحلة اللجوء.

البرنامج الهولندي يجمع الطالبين السوريين، ويسترجع معهما ذكريات مُشتركة عن سوريا

 

من هولندا إلى بيروت.. ذكريات إلياس

ما بين هولندا وبيروت ينتقل البرنامج التسجيلي مع مقدمه سنان كان، والذي يحاور إلياس ويرافقه في حياته اليومية في هولندا، كما يقود المقدم الهولندي نفسه الرحلة إلى بيروت، حيث يحاول أن يسترجع يوميات “إلياس” وخطواته عندما كان في المدينة، ويزور الشقة الضيقة التي كانت تعيش فيها العائلة حينها، كما سيقابل سنان جدّة الصبي السوري وخالته اللتين تعيشان في العاصمة اللبنانية بيروت، حيث تتذكر الجدة بالدموع حفيدها الطيب والمطيع كما وصفته.

الأمر الذي لم يحسب له البرنامج حسابا هو أن فتاة من الذين كانوا في الصورة تعيش هي أيضا في هولندا، ذلك بعد أن لجأ أهلها إلى البلد الأوروبي ذاته، بل إنها تسكن في مدينة قريبة جدا على تلك التي تعيش فيها عائلة إلياس، دون أن يعرف أي من السوريَين اللذين تشاركا الصف في مدينة حلب بأنهما يعيشان في هولندا.

يجمع البرنامج الهولندي الطالبين السوريين، ويسترجع معهما ذكريات مُشتركة، خاصة أن الفتاة تعرف أكثر بما حدث للطالبات في صفها.

سنان يسترجع يوميات “إلياس” وخطواته عندما كان في سوريا

 

البحث في حلب

يأخذ البرنامج خطوة كبيرة على صعيد البحث في مصائر طلاب الصورة المدرسية، فيسافر مع مقدمه إلى مدينة حلب التي استعادها النظام السوري بعد قتال ضارٍ. يصل سنان إلى سوريا التي سبق أن زارها مرارا عندما كان ينجز برنامجا وثائقيا للتلفزيون الهولندي، لكن رحلته هذه المرة ستكون مختلفة، إذ إنه سيغوص في قصص شخصية من حياة السوريين، فيقابل مديرة المدرسة الابتدائية، ورغم صلابة شخصيتها الظاهرة فإنها بدأت بالبكاء عندما تذكرت الطلاب الذين مروا في مدرستها والذين تركوا البلاد أو اختفوا أبان الحرب السورية.

يتحول البرنامج التسجيلي الهولندي في بعض دقائقه إلى برنامج تحرٍّ بوليسي، وذلك حين يُكبّر صورة الطلاب السوريين المدرسية ويضعها على جدار الأستوديو، ليسأل بعدها عن مصير كل طفل في الصورة.

لكن بعض الطلاب السوريين يرفض الحديث للبرنامج، خصوصا من يعيش منهم في دول غربية، فالعودة إلى الماضي أمر شاق كثيرا على الصعيد النفسي كما بينوا في ردودهم على البرنامج. وعندما يوافق أحد أصدقاء إلياس الذي يعيش اليوم في أستراليا، يحزم المقدّم الهولندي حقائبه ويتوجه إلى هناك، ليجده يعيش مع عائلته في حي سكني هادئ خارج مدينة ملبورن الأسترالية.

مرَّ الصبي الذي يعيش في أستراليا بنفس ظروف إلياس، فهو أيضا لجأ مع عائلته إلى لبنان بعد تركه حلب، وهناك قابل إلياس بالصدفة وقضيا الكثير من الوقت معا، قبل أن تحصل عائلته على فرصة الهجرة إلى أستراليا، ليجبر الصديقان على توديع بعضها.

يتذكر الصبي السوري هذه التفاصيل مع سنان من على شاطئ في أستراليا، يبكي فجأة -رغم ملامحه الصارمة- وهو يسترجع تفاصيل من حياته في مكانه الجغرافي البعيد جدا.

صورة تجمع طلاب صف إلياس في المدرسة الابتدائية التي درسوا فيها في حلب

 

العودة إلى المدرسة في حلب

يجمع البرنامج الهولندي طلاب صف إلياس الباقين في حلب في المدرسة الابتدائية التي درسوا فيها، ويدعوهم لتذكر حياتهم من تاريخ تلك الصورة، كما يسألهم عن رفاقهم الغائبين، وبالخصوص إلياس وزميلته التي تعيش في هولندا أيضا.

يُخيّم الصمت والحزن على الجميع عندما يتذكرون الطلاب الذين اختفت أخبارهم تماما في الحرب، وربما يكونون قد قضوا في أتونها، وعندما تعود الصورة المدرسية إلى الشاشة يشير البرنامج بالغرافيك على الطلاب الذين لا يزال مصيرهم مجهولا، ليضيف هذا حزنا مضاعفا على دقائق البرنامج التسجيلي العاطفي.

لم يكن ممكنا لإلياس السفر إلى الشرق الأوسط والتحري بنفسه عن مصائر زملائه في المدرسة، بيد أنه سيتابع تسجيلا لهذه الرحلة على شاشة صغيرة، فيما ستصور كاميرا البرنامج التسجيلي الهولندي ردود أفعاله وتعليقاته، حيث يوفر هذا الأسلوب إمكانية للتعرف على عواطف إلياس دون طرح أسئلة معقدة، فهو بنفسه يعلق ويتأثر ويضحك، ويصل إلى البكاء أحيانا وهو يتابع سيرة حياته التي بدت طويلة كثيرا رغم عمره الفتي.

يقود إلياس كاميرا البرنامج وهي تلفّ في شقته القديمة في حلب أو في المدرسة، فيما ستتأثر زميلة إلياس التي تعيش في هولندا أيضا وهي ترى جدتها المسّنة التي لا تزال تعيش في حلب، وهي تحضن صورة لها عندما كانت طفلة.

أحد زملاء إلياس الذين يعيشون في حلب يواجهون مستقبلا غامضا ومضطربا، فبلدهم ما زال بعيدا كثيرا عن الاستقرار والأمان

 

برنامج هولندي تسجيلي

وعلى الرغم من قوة هذا البرنامج التسجيلي، فإنه كان من الممكن أن ينتفع من مسافة زمنية أطول بينه وبين الحدث الذي يقاربه، فأربع إلى خمس سنوات التي تفصل بين تاريخ الصورة المدرسية واليوم تعد قليلة نسبيا في تقاليد السينما التسجيلية التي تسترجع أحداثا من الماضي، خاصة وأن الشخصيات التي يقدمها البرنامج لا تزال ولحدود كبيرة وسط تغييرات كبيرة، حتى إلياس نفسه يدرس في الوقت الحالي في مدرسة للاجئين، وينتظر الالتحاق بمدرسة هولندية عادية بعد أن تتحسن لغته الهولندية.

الحال نفسه ينطبق على زملاء إلياس الذين يعيشون في حلب، والذين يواجهون مستقبلا غامضا ومضطربا، فبلدهم ما زال بعيدا كثيرا عن الاستقرار والأمان.

يُبرز البرنامج جانبا جديدا للمقدم سنان كان، وهو الذي تحوّل في السنوات الأخيرة إلى أحد الوجوه التلفزيونية الهولندية المهمة كثيرا، فسنان الذي يبلغ الثانية والأربعين يحيط الطلاب السوريين بحب وحرص الأب، فيخيم الحزن الحقيقي على وجه المقدم عندما تتكدر وجوه الصبيان والصبيات الذين قابلهم أو يبدؤون بالبكاء.

يعرف سنان أكثر من غيره ماذا يعني العيش في سوريا والعراق في السنوات الأخيرة، وهو الذي أنجز مجموعة من البرامج التسجيلية المعمقة والصادمة كثيرا عن الشرق الأوسط، وتحوّل إلى أحد خبراء الشرق الأوسط، ومن الحاضرين الدائمين في الصحافة والإعلام الهولندي عندما يتم تناول قضايا من هناك.