“الممر”.. نكسة 1967 بين المراوغة الدرامية والحقيقة التاريخية

“كنتُ بملابسي الرسمية في الطريق لعملي، توقف التاكسي بي في إشارة مرور أمام سينما رمسيس، وفجأة مرّ أحد الإشارة وشتمني، تقبلتُ ذلك. لقد كان تعبيراً عن الغضب من الهزيمة، كانت هزيمة كبيرة وتمت محاكمة مسؤولين. فعلا فرّطنا في توقيت ما، ولم نؤد المهمة المطلوبة منا تجاه بلادنا، فلا بدّ أن نتحمل مسؤولية ذلك. المهم أن بقايا الجيش المصري من القوات المسلحة ظلّت موجودة على الضفة الغربية لقناة السويس تمنع العدو وتصدّ محاولاته. وفي يوليو/تموز في منطقة رأس العش شرق القناة؛ مجموعة من الصاعقة البالغين 30 فردا فقط بدون إسناد نيراني، وكانت لوحدها ومعزولة تماما، لكن عندما حاول رتل من الدبابات الإسرائيلية أن يقتحم هذه المنطقة ويأخذها فَشِل، كذلك بقايا القوات الجوية في أوائل يوليو/تموز وجهت ضربات لمخازن الذخيرة في رومانة وبالوظة، وكانت فيه صور للجنود الإسرائيليين وهم يهربون، رغم أن عدد الطائرات كان محدودا، ثم مهمة أبنائنا في إغراق المدمرة إيلات..”.

تأتي الكلمات السابقة في سياق شهادة للفريق مجدي حتاتة، وهو أحد القادة العسكريين المصريين الذين عايشوا تلك المرحلة التاريخية بدءا من حرب اليمن، مروراً بحرب 1967 وحرب الاستنزاف على مدار ست سنوات، ووصولاً لحرب أكتوبر. هو قائد مشهود له بالنزاهة والإخلاص وحب الوطن، كما أن أخاه الأصغر الملازم رجائي حتاتة كان أحد شهداء حرب الاستنزاف.

تأمّل شهادة حتاتة يُوضح أمرين: الأول الاعتراف بوجود هزيمة كبيرة شكّلت جرحا عميقا وغائرا في صدور المصريين، والثاني عدم الاستسلام لتلك الهزيمة، ثم إعادة بناء الجيش. ومَنْ يُراجع تصريحات قادة إسرائيل سيجدهم يعترفون بأن أكبر الخسائر التي نالوها من مصر كانت طوال حرب الاستنزاف.

أما المخرج السينمائي شريف عرفة بفيلمه الأحدث “الممر” (ساعتين ونصف من الزمن السينمائي إنتاج 2019) والذي كتب السيناريو بنفسه للمرة الأولى في سابقة أعماله، بينما شاركه في صياغة الحوار أمير طعيمة؛ فكتب يقول على لسان البطل نور قائد قوات الصاعقة “ما كانتش نكسة ولا هزيمة ولا حرب بقوانينها.. صحيح كانت الضربة مفاجئة، صحيح أن العسكري المصري لم يُمنح الفرصة كي يحارب حينها، المباغتة والهجوم المفاجئ كان الأساس. صحيح أن الإسرائيليين تعاملوا بخسة مع الأسرى، ولم يحترموا القوانين الدولية وقاموا بالتعذيب والقتل ودفن بعض الأسرى أحياء.

مع ذلك تظل الجُملة السابقة لعرفة بكل شاعريتها في غير صالح الفيلم -إضافة لتفاصيل أخرى عديدة- لأنها موسومة بعدم الموضوعية. كأنها محاولة متوارية لتبرير المحنة التي أصابت المصريين في 1967، خصوصاً أن الفيلم لا يتطرق لأي أسباب عن الوضع العسكري والأمني الذي قاد إلى النكسة، فلم يُحَمّل أسبابها لأحد، إذ يتجاهل شريف عرفة المحاكمات التي تمت للمسؤولين عن الهزيمة آنذاك، ويتغاضى عن ذكر أي شيء مما كتبه المؤرخون والمحللون السياسيون عن المشير عامر، ولم يخض في أي من تلك الأسباب، وكأنه لا يرغب في فتح باب الإدانة، مكتفياً بالجملة الشهيرة من خطاب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر عن تحمله للمسؤولية كاملة. وهو الأمر الذي يُرجعه البعض لتدخل جهات سيادية كما يقول طارق الشناوي: “العوائق هنا أشد وعورة لأنه يصطدم هذه المرة بأجهزة سيادية، حيث إن تصوير هزيمة 67 يُقابل عادة برفض، إلا أن الدولة امتلكت هذه المرة قدرا من المرونة، لم تعد تُلقي بالا لهذه التابوهات، فشاهدنا الانسحاب المهين لقواتنا المسلحة، لأن هذا هو التمهيد الحتمي لانتصارنا بعد ذلك في واحدة من معارك حرب الاستنزاف، ورغم أن المشير عبد الحكيم عامر أخذ القسط الأكبر من الغضب الشعبي، لكنْ سينمائيا ظل تناول ذلك يقابل بقدر من الجمود والحذف والمنع على الهواء”.

سخرية الشارع من قادته

يبدأ “الممر” من لحظة قوية دراميا، من الدقائق القليلة السابقة للضربة الإسرائيلية المباغتة للعسكريين المصريين والطيران لا يزال رابضا على الأرض. تُشكل نقطة الانطلاق واحدة من نقاط الذروة بالفيلم، حيث مجموعة من الجنود والقادة يمارسون بعض تفاصيل حياتهم بالمعسكرات، ثم ينهال عليهم ضرب نيراني مفاجئ كالمطر مُخلفا قتلى، شهداء يرون الصحراء بدمائهم، وأسرى تُساء معاملتهم وتُنتهك حقوقهم.

رغم كل ما سبق، فإن قصة وأبطال فيلم “الممر” مزيج من الواقع والخيال، كما أنه ليس فيلماً عن نكسة 67 وإن كان ينطلق منها. السيناريست يتخذ من الهزيمة تكأة درامية، وتمهيداً لما سيأتي من بطولات. لا يمكن اعتباره تبريراً مطلقاً للهزيمة لأنه لم يناقشها، ولا يمكن اعتباره محاول لتقديم صورة توازن بين الهزيمة والبطولة، وإنما تجسيد قدرة الجندي والمقاتل المصري على استعادة أرضه، وإن شاب الفيلم بعض المبالغات في ذلك أيضاً.

يحاول الفيلم في البداية التركيز على الجانب النفسي للقائد نور (الذي يقوم بدوره أحمد عز) في أعقاب الهزيمة والانغلاق على ذاته في بيته لبعض الوقت، وذلك قبل أن يُكلّف بمهمة جديدة وتدمير مركز لذخيرة العدو. يتدرج المخرج في تأمل التأثير النفسي للهزيمة عليه، وانعكاسه على أسرته، ثم تعامل المجتمع معه، فالابن لا يفهم حالة والده المنسحب على ذاته غير القادر على التواصل معه، فهو لا يزال طفلا في مشهدين ضعيفين ومفتعلين دراميا، ورد فعل زوجته التي تقوم بدورها النجمة هند صبري كضيفة شرف، إذ تحاول أن تشرح للطفل بأنه مثلما تزوره بعض الكوابيس ليلاً فإن والده عاش كابوسا بشعاً، لكن والده رأى الكابوس في النهار وهو مفتوح العينين.

ورغم مهارة وقوة أداء هند فإن لقطاتها هنا بعضها يتسم بالارتباك والافتعال، وبعضها فيه كثير من روح وأداء شخصية “حتشبسوت” التي جسدتها بفيلم “الكنز”، وهو أيضا من إخراج شريف عرفة.

يُمكن تبرير أداء هند بـ”الكنز” لأنها تُقدم شخصية ملكة فرعونية غير عادية جلست على كرسي العرش، لذلك كان لا بد أن تُظهر قوة شخصيتها وهيبتها الشكلية والداخلية والروحية، لكن تكرار ذلك الأداء -حتى لو اختلفت ملابس الممثلة- في “الممر” أفقد الشخصية تلقائيتها وصدقها، وجعل كلماتها المشجعة لزوجها في لحظة ضعفه تبدو مشحونة بالخطابة والافتعال، كأنما مَنْ كتب كلمات حوارها رجل يضع تصوره هو عن مشاعر المرأة، لذلك لم ينجح خياله في التعبير عن حقيقة مكنون وأحاسيس شخصية المرأة التي من المفترض أنها تجمع بين دور الزوجة والأم، وفوق هذا وذاك فهي سيدة مصرية أصابتها الهزيمة بجرح مضاعف.

بينما يتفوق على أداء ودور هند صبري مشهد الأم الذي قامت به الفنانة إنعام سالوسة في دور الأم المحزونة التي تريد الاطمئنان على ابنها الذي لا تعرف مصيره فترسل له خطاباً، ويُذكرني ذلك بمشهد قرأته أثناء عملي مع الفنان نور الشريف -مع اختلاف بعض التفاصيل- ضمن سيناريو فيلم “قوم يا مصري” عن تلك الفترة الصعبة، وكان من المفترض أنه أحد المشاريع التي سيخرجها ويُنتجها الفنان الراحل نور الشريف، لكن للأسف ظل الفيلم حبيس الأدراج، ربما لأنه كان يتحدث عن بشاعة المشهد ومرارة الانسحاب في أعقاب الهزيمة، وموقف الجندي المصري تحت سطوة العدو.

رغم ما سبق، يبقى مشهد التعبير عن رد فعل الشارع والمواطنين وسخريتهم في السنترال من القادة واحداً من أجمل مشاهد فيلم “الممر”. هنا القائد نور يحاول الاتصال بأفراد كتيبته لكن الموظف بالسنترال يعامله بجفاء وبشيء من التحقير المتواري، ثم يتركه منتظرا عدة ساعات. وعندما يحتج نور متسائلاً يرد الموظف عليه في سخرية “معندكش خبر.. مش الخطوط كلها انسحبت”، فيضحك في هستيريا مبالغ فيها جميع مَنْ في السنترال، وكذلك رد فعل البطل إزاء السخرية، وقيامه بالتحطيم وتكسير المقاهي في السنترال.

أما ما يؤخذ على السيناريو أنه لم يوضح لماذا تولّد هذا الشعور بالغضب لدى أفراد الشعب، فالأمر لم يكن مجرد هزيمة وفقط، لكنه الإحساس بالخديعة بسبب التناقض بين ما كان يتم ترويجه قبل الهزيمة ثم الكابوس الذي استيقظ عليه الناس، لدرجة أن البعض كان ينكر وقوع الهزيمة. والحقيقة أن فيلم “العصفور” ليوسف شاهين قدم في عشر دقائق واحدة من أجمل وأهم المشاهد في تاريخ السينما المصرية عن ذلك الإحساس والشعور المتناقض والذي أتبعه بصدمة استقبال خبر ناصر بالتنحي.

 

إياد نصار.. الجندي الإسرائيلي

في أغلب أدواره يُقدم الفنان إياد نصار شيئاً جديداً محاولاً تغيير وتلوين أدائه، يُفيده في ذلك اختياره للأدوار المكتوبة بشكل جيد. هنا في “الممر” يُجسّد بإتقان ومهارة نفسية وتعبيرية دور القائد الإسرائيلي الذي يُمارس ضغوطا لا إنسانية على الأسرى المصريين الذي يتعرضون على يديه لأقصى أنواع التعذيب، وذلك للاعتراف بمعلومات عن الجيش المصري.

الشخصية التي قام بها إياد نصار تشي بحقيقة واضحة، أنه عندما كتب شريف عرفة تصوره لشخصية أحد قادة العدو وضع فيها كل ما يستطيعه دون وجود رقيب ذاتي أو غير ذاتي، بينما مع الشخصيات المصرية بدا واضحا أنه يُريدها نقية خالية من نقاط الضعف، وهذه نقطة أخرى جاءت ضد الفيلم وخصمت من رصيد قوته. فمع كل تقديرنا لبسالة الجندي والقائد المصري، لكن عند التعامل مع الشخصيات الدرامية لا أحد مقدس. التعامل مع الأشخاص من هذا المنطلق هو الثيمة الأولى في الصدق والنجاح “الفني”.

“الطريق إلى إيلات” و”أغنية على الممر”

لم يخلُ فيلم “الممر” من مبالغات وعيوب كثيرة رغم الميزانية الضخمة، فوفق تصريحات عديدة من منتجه وصُنّاعه أنه تجاوز المئة مليون جنيه مصري، وذلك بما قدمته الشؤون المعنوية من خدمات وتسهيلات ودعم لوجستي ضخم، لكن الأفلام الجيدة الضخمة والعظيمة لا تُصنع بالأموال وحدها.

هناك في ذاكرة السينما المصرية عملان هما الأجمل والأفضل في قائمة الأعمال التي تناولت تلك الفترة الصعبة، واللافت أنهما صُنعا بإمكانيات محدودة مقارنة بالحالي، وهما “الطريق إلى إيلات” للمخرجة المبدعة الشديدة الحساسية والوعي إنعام محمد علي، وفيلم “أغنية على الممر” للمخرج علي عبد الخالق.

الفيلم الأول من إنتاج التلفزيون المصري، والثاني من إنتاج “جماعة السينما الجديدة” التي كان من بينها عدد من أهم وأبرز نقاد السينما في ذلك الحين، تلك المجموعة التي جرحتها الهزيمة بقوة لدرجة أنها هاجمت بعنف وقسوة مخرجين وأفلاما شديدة الفنية، ومنها مثلا “خلّي بالك من زوزو” لأنه تضمن غناء ورقصاً، ولأن بطلته فتاة جامعية من شارع محمد علي، وأُنتج في منتصف سنوات حرب الاستنزاف. فقد كانت تلك المجموعة تسعى لخلق سينما جادة تناقش قضايا الوطن وتعمل على خلق الوعي بين الناس، وتُعتبر السينما أحد أدوات تثوير الوعي لدى الجماهير، فقامت بتمويل ودعم “أغنية على الممر” ومساندته حتى أثناء وجوده في دور العرض.

وتأتي أهمية الفيلمين السابقين -الطريق إلى إيلات وأغنية على الممر- أنهما بعيدان جدا عن الخطابة والشعارات المباشرة، وأنهما يُركزان على التعامل مع التفاصيل الإنسانية التي تنسج بتلقائية شخصية الإنسان المصري العادي والمجند والقائد بكل قوته وشجاعته، ومكمن قوته وصلابة إرادته التي لا يدركها أقرب المقربين إليه أحياناً، والذي لم يستسلم للهزيمة، لكنه في الوقت نفسه لديه بعض نقاط الضعف الإنساني منها الخوف من الموت في لحظات المواجهة، أو الانتهازية والكذب واستغلال المواقف. كذلك لم يُغفل الفيلمان الإشارات الفنية الكاشفة ذات الدلالة القوية للأبعاد الاجتماعية.

صحيح أن فيلم الممر به لقطات تعبر عن الجوانب الإنسانية للشخصيات الدرامية به، فبعض تلك اللقطات مهمة وكاشفة للمخبأ بداخل الناس ولماذا قد تبدو انتحارية، ولماذا لديها استعداد أن تموت وتضحي بنفسها من أجل تحرير أرضها من العدو الصهيوني.. كل هؤلاء من الجنود والقادة يتحدثون عن أسبابهم، فمنهم من كان فاشلاً في نظر المحيطين به، ومنهم من كان غير راض عن حياته، ومنهم من ترك أرضه ليدافع عن وطنه. وكاتب السيناريو في ذلك متأثر بقدر كبير بشخصيات “أغنية على الممر”، مع ذلك فمن الظلم المقارنة بينهما، ليس فقط بسبب التفاوت الضخم في الميزانية لصالح الأحدث، لكن أيضا بسبب التفاوت الفكري والفني لصالح فيلم علي عبد الخالق الذي كتب له السيناريو والحوار فايز غالي، والذي يربط فيه -بشكل شديد الذكاء والدلالة على العلاقة الوثيقة- بين انحطاط الفنون في مجتمع ما والهزيمة العسكرية.

فيلم “الممر” يُعدّ أحد الأفلام القليلة الجيدة عن فترة مهمة من تاريخ مصر خلال النكسة

نمطية وغياب للبناء التحتي

يعتمد فيلم شريف عرفة أساسا على الآكشن الذي يتسم بعضه بالمبالغة، وذلك رغم وجود الفريق الأجنبي الذي قام بتصميم مشاهد الآكشن والمعارك الحربية. كما يُغفل كاتب سيناريو الفيلم أهمية التأسيس والبناء التحتي لكل شخصية درامية، بمعنى غرس تفاصيل في مقدمة العمل. وهي تفاصيل قد تكون صغيرة لكنها ورغم دقتها وصغرها تنطوي على أهمية كبيرة تتضح لاحقا، وتكون شديدة الإقناع فيما يخصّ الشخصيات وتصرفاتها المفاجئة لاحقا. كما حدث مع الجندي الذي قام بدوره الممثل محمد الشرنوبي في تعامله مع جهاز الاتصال بالقيادة، وغيره من الشخصيات. كما أن الفيلم يخلط أوراقا عديدة ببعضها البعض، مثل قضية تهجير أهالي النوبة بسبب بحيرة ناصر، ونقمة أهلها وحياتهم السيئة بعد أن سُلبوا منازلهم في مشهد مُخلٍّ وظالم.

كذلك فيما يخص الجانب الاجتماعي يكتفي الفيلم بلقطات فلاش باك تكاد تكون مكررة وتعبر عن شخصيات واحدة نمطية في تفكيرها، فالشخصية التي يقدمها محمد الشرنوبي ضمن لقطات الفلاش باك مع حبيبته؛ نجده في بعضها بعد الهزيمة يطلب منها الانفصال لأنه لا يعرف مصيره في الحرب فقد يموت، كذلك القائد نور يكرر الكلمات نفسها، وكأن المؤلف لم ينتبه للفروق النفسية والحالة الاجتماعية بين الاثنين، فإذا كان الأول لا يزال مشروع خطوبة وحالة حب، فالثاني متزوج ولديه ابن، وتفكيره يشي دراميا بهروبه من المسؤولية أكثر من أي شيء آخر.

الممثل أحمد عز يتفرج على خطاب الرئيس المصري جمال عبد الناصر عقب هزيمة 1967

شخصيات جيدة وأخرى غير موفقة

يضم الفيلم عددا كبيرا من الممثلين بينهم محمود حافظ وأحمد صلاح حسني وأمير صلاح الدين، وأحمد فلوكس بأداء جيد في دور أحد جنود الجيش المصري الأسرى عند العدو، وشريف منير في دور مقدم في الجيش، ومحمد فراج المُجند القنّاص الذي يلعب دورا مهما أثناء عمليات المواجهة مع الإسرائيليين ويذكرنا بشخصية في أحد القصص القصيرة ليوسف إدريس عن الجندي الذي اكتشف مهارته في التصويب على الطائرات، مُدركاً أن الخطأ الذي وقع فيه القادة وكان أحد أسباب النكسة أنهم كانوا يقومون بالتدريب على الأهداف الثابتة، بينما تفوّق هو بسبب قدراته في التصويب على الأهداف المتحركة.

أما أحمد رزق في دور المراسل العسكري المُنتدب لتغطية أخبار العمليات العسكرية فهو أيضا أحد الشخصيات غير الموفقة على المستوى الدرامي، وذلك بسبب ملامح الدور المكتوب أصلا بالسيناريو، ومحاولته إضحاك الجمهور، كما أن مشهد تحوله المفاجئ من صحفي مرتزق يقوم بتغطية أخبار راقصتين -أو عاهرتين- للقيام بدوره الجديد والتغطية الحربية؛ جاءت نقلة غير مقنعة في تفاصيلها الدرامية، بل إن مشهد النيران في الحلم أو الكابوس الذي عاشه جاء مُبتذلا. وعلى العكس منه جاءت شخصية محمد جمعة في دور الدليل البدوي من أهل سيناء الذي يقودهم لأفضل الطرق والممرات الآمنة ويُحضر لهم المواد الغذائية اللازمة إلى أن يُدرك العدو فيتم القبض عليه مع الأسرى، وأخته (لعبت دورها أسماء أبو اليزيد) بما قدماه من مساعدات وتضحيات؛ فتُعد مشاهدهما رد اعتبار لأهالي سيناء ولمساندتهم التاريخية في تلك الحرب الطويلة.

بوستر فيلم “الممر” الذي يظهر فيه الممثل أحمد عز بدور القائد نور

هجوم لاذع ومديح كبير

رغم كل المآخذ عليه، فإن فيلم “الممر” بتوقيع شريف عرفة يُعدّ أحد الأفلام القليلة الجيدة عن تلك الفترة المهمة من تاريخ مصر، والتي اختلف من حوله المثقفون والنقاد، فالبعض استقبله بهجوم لاذع، والبعض الآخر بمديح كبير، لكن الطرفين لم يختلفا على دور الجندي المصري في تحدي الهزيمة.

الأمر اللافت أن الجمهور من الشباب كان يتجاوب مع كثير من مشاهد الفيلم في دور العرض السينمائية، فترتفع الأيدي بالتصفيق الحماسي عدة مرات، مما يشي بوجود أحاسيس دفينة -حتى لو على هيئة شذرات لا تُرى بالعين المجردة- لكنها تدل على وجود جرح غائر، والذي وإن بدا ساكنا لكنه مُؤلم. التصفيق الحماسي والتنهيدات تُؤكد ذلك، وتؤكد أنه لا يزال يقبع في الصدور من جراء تلك الهزيمة التي سجلت وقائعها على مدار ستة أيام فقط بدأتها يوم 5 يونيو/حزيران 1967.