وثائقيات الشوارع.. حكايات ودلالات

للمكان سحره وسلطته الفنية والثقافية والجمالية والإنسانية، له ألفته الخاصة، لاسيما حينما نكبر فيه أو نعيش ونروي فيه حكايات عديدة ودالة، لها بعدها الإنساني الروحي العميق. هو في نظر العديد من الدارسين والباحثين بمثابة “إنسان”، حينما نعود إليه نشعر وكأنه يبتسم في وجهنا، بل نتماهى ونحل في بعضنا البعض.

المكان في السينما بشكل عام والوثائقي بشكل خاص، له قوته المؤثرة في المتلقي، فمن خلاله “يمرر” المخرج رسالة ما، فكرة ما، قد تتعلق بالمكان/الطفولة، أو المكان/التاريخ، أو المكان/الثورة، أو المكان/ الفن.

من هنا وجب الالتفات إلى مثل هذه الأعمال المحتفية أو الموظِّفة للمكان في بنيتها المضمونية و/أو الشكلية، إذ من خلالها نسافر في ذاكرة الأمكنة، وتجعلنا نتخيلها وفق رؤية تمثّلية ما.

المكان في الفنون سر من أسرار جعل المتلقين يستمتعون بها، وهو ما يبرر طبيعة قبول المنتجين والمدعمين للعديد من الأعمال الفنية المستحضرة للمكان، لكونه له “سلطته” الإنسانية الممارَسة علينا خلال تلقينا لعمل فني ما.

في الحاجة إلى وثائقيات المكان

من الوظائف الثقافية والجمالية للفيلم الوثائقي كونه يحتفي دوما بالمكان من خلال التصوير فيه أو عنه وبشكل غير مصطنع، أي وعلى سبيل المثال حينما نريد كتابة وإخراج فيلم وثائقي عن الحياة في الريف أو تتبع حياة فنان ما؛ يحضر بشكل ضمني أو صريح المكان كما هو، مما يجعلنا كمتلقين “نتلصص” عنه، أي نحاول ما أمكن معرفة بعض خباياه، ونقارن بين مكان الفيلم وأمكنتنا الطفولية أو الحاضرة، كل هذا يساهم في تحقيق تربية بصرية وفنية وإنسانية، من هنا “حتمية” الانتصار للوثائقي، إن لم نقل إنه شكل من أشكال أنسنة الصورة والحياة كلها.

شارع تاريخي يحمل اسم "محمد علي" الشخصية المعروفة في تاريخ مصر
شارع تاريخي يحمل اسم “محمد علي” الشخصية المعروفة في تاريخ مصر

عديدة هي التحولات التي وقعت في عولمتنا هذه على مستوى هندسة بنية المكان، لكن وحده الفيلم الوثائقي -أو ما يقترب منه مثل الفوتوغرافيا والروبرتاج- ما يبقى في يد الإنسان لكي يستحضر زمنه وحكاياته وما عاشه في الماضي.

وفق ما سبق، علينا أن نؤرخ لأمكنتنا ونلتفت إليها بما ملكت أيادينا من هواتف محمولة أو آلات تصوير، لأن كل هذا سيتحول فيما بعد إلى أرشيف له قيمته الوثائقية، حيث من الممكن به أن نكون في خدمة مخرج وثائقي وهو يبحث عما كان هنا وما أصبح عليه هذا المكان.

لننتبه إلى حديث ضيف من ضيوف فيلم وثائقي ما وهو يتحدث -على سبيل المثال- عن طفولته أو بيته أو مدرسته أو حيه أو مسجده.. فمهما كانت وضعية أو موقع هذا المكان، فإنه فوق كل اعتبار أو قيمة مالية، لأن المكان هنا يصبح “إنسانا” فاعلا في تشكّل الحكاية والقيم والتمثلات.

من هنا تتضح، أهمية وقيمة الحديث عن وثائقيات الأمكنة، لاسيما الشوارع، باعتبارها مشتركا ثقافيا وإنسانيا جماعيا، إذ فيها تحضر العديد من الحكايات، ومن خلالها “نوقف” أزمنة التلقي، لنقارن بينها وبين شوارعنا التي كبرنا فيها أو قضينا جزءا من حياتنا فيها، أو كانت شاهدة على مجموعة من التحولات التاريخية والاقتصادية والثقافية.

حكايات الشوارع.. قصص أمكنة

من ضمن السلاسل الوثائقية التي أنتجتها قناة الجزيرة الوثائقية، أثارت انتباهي سلسلة “حكايات الشوارع”، ففكرتها بنيت على النبش -وبلغة الصورة الوثائقية- في مجموعة من الشوارع، في أفق الحكي عن بعضها وما عرفته ذاكرتها في الماضي و/أو الحاضر.

رؤى ومقاربات وزوايا عديدة وتنوع في المعالجة الفنية لفكرة هذه السلسلة، لكن المقصد واحد، ويتجلى في تحقيق متعة الحكي عن هذه الشوارع وطبيعة ما تحتضنه من فعل مادي وثقافي واقتصادي وحرفي وإنساني وتاريخي. فمن المؤكد أن لهذه الشوارع كمكان “سلطتها” التي تمارسها علينا، فحينما نزور أي بلد أو أي مدينة، نبدأ في جعل العين تمارس حرية تتبع تفاصيل الحياة فيه. ومن خلال النماذج الموالية والمعبرة عن طبيعة هذه الرؤى، نكتشف العديد من الجزئيات المفيدة والمبهرة.

“شارع محمد علي”.. نفحة التاريخ

على مدى 26 دقيقة، تمكنت المخرجة سلمى الطرزي من “أسرنا” جميعا في فضاءات شارع تاريخي يحمل اسم “محمد علي” الشخصية المعروفة في تاريخ مصر. سفرٌ في ذاكرة هذا الشارع الذي عرف العديد من الأحداث التاريخية والفنية والسياسية، وأحداث من الممكن استحضار جزء منها هنا وتتعلق بالراحل جمال عبد الناصر، وجنازة حسن البنا التي مرت منه، وزيارة رياض السنباطي وأم كلثوم لصانع العود بهذا الشارع، وهو ما أكده صانع العود جورج جميل الذي تمكنت المخرجة من حكي العديد من الحكايات الإنسانية على لسانه باعتباره أيقونة من أيقونات هذا الشارع، وبعض الوجوه الفنية التي كانت تسكن به مثل الفنانة أمينة رزق.. حكايات عديدة نُسجت بهذا الشارع إلى درجة تحويله إلى جزء من الذاكرة التاريخية والثقافية والفنية والإنسانية المصرية.

هذه الأمكتة كأنها "مسكونة بأرواح" تاريخية ذات مجد أندلسي أضاعه العرب
هذه الأمكتة كأنها “مسكونة بأرواح” تاريخية ذات مجد أندلسي أضاعه العرب

كل الأسماء المتدخلة في الفيلم مثل عصام فوزي (باحث ومؤرخ)، وبدر العزيزي (صاحب مقهى دار الكتب)، وجورج جميل (صانع العود)، ومحمد جبريل (روائي وصحفي).. أثارت العديد من الأحداث المتعلقة بموكب الملك فاروق وحديثٍ عن سعد زغلول والمرور المتكرر لجمال عبد الناصر مع عبد الحكيم عامر في هذا الشارع، مما يجعلنا فعلا نؤمن بقيمته التاريخية والثقافية، كما تفوقت مخرجته حينما تمكنت من التقاط بعض التفاصيل الصغيرة ذات البعد الاجتماعي والخاصة بفئة البسطاء، إلى درجة أن أحد حرفييه/ساكنيه أكد أن شارع محمد علي سيبقى حاملا لهذا الاسم حتى وإن غيروه، فالناس ستسأل عن شارع محمد علي ولن تسأل عن أي اسم آخر، وهو مشهد يؤكد لنا حق الإنسان في ذاكرته/مكانه.

البدء بالفرقة النحاسية والختم بها باعتبارها من الأيقونات المميزة لشارع محمد علي وصلة ذلك بما مر من وقائع تاريخية وفنية؛ جعلنا “نوقف” أزمنة هذا الشارع ونستحضر بدورنا ما ميز شوارع مدننا التي ولدنا وكبرنا فيها، مقارنين بين ما عشناه وما شاهدناه هنا.

الفرقة النحاسية، ومن خلال المشاهد التي حضرت فيها، نستخلص معها غنى المكان، أي غنى شارع محمد علي، لاسيما وأن الفرقة بلباسها الرسمي تؤكد تعلقها بهذا الشارع، بل حكت العديد من حكايات التاريخ والفن التي ساهمت فيها، مما يجعلها بدورها تتعامل مع المكان بصفته موطنها الأصلي، ولا يحلو العزف إلا في حضنه.

“الوجه الأزرق شفشاون”.. جماليات اللون والحياة

على إيقاعات الأغنية الشهيرة والمعنونة بـ”شفشاون”، والتي كتب كلماتها ولحّنها وأداها المطرب المغربي المعروف “نعمان لحلو”، ندخل مدينة شفشاون وهي “معلقة” في حضن جبال الريف (شمال المغرب). زرقة مميزة لكل معمارها، وسفر في ذاكرة شوارعها حيث حضور التاريخ والمعمار وحكي حدوتة ولادة مدينة برمتها.

وسيؤكد لنا المؤرخ علي الريسوني كيف تأسست هذه المدينة بعد خروج المسلمين من بلاد الأندلس واستقرارهم في علو هذا الجبل، والبدء في بنائها على غرار غرناطة، وهو ما جعل المؤرخين يسمونها أخت غرناطة الصغرى. وقد تم بناؤها سنة 876ه (1471م) على يد الولي الصالح الأمير مولاي علي بن موسى بن راشد العلمي، كما جاء على لسان هذا المؤرخ، وكما تغنى به المطرب نعمان لحلو في بداية الفيلم.

داخل شوارعها نرحل إلى عبق التاريخ حيث التماهي مع زمن الأندلس في كل تفاصيل الحياة. يحط الحمام في شارع/ساحة “وطا لحمام”، وتحضر القصبات والحدائق ومعمار/جمال البيوت ذات العمق الأندلسي المفقود، مما يجعلنا نشم رائحة التاريخ العربي الضائع، بل كل هذا يجعلنا نتساءل: أوليس كل هذا الجمال المعماري والموسيقي النسائي الصوفي، وكل تلك الحدائق المعلقة وزرقة شوارعها وبيوتها وجمال تقاليدها وسحرية شعرائها.. أليس هو بمثابة تعلق بزمن الأندلس الذي انفلت من قبضة العرب، حيث الرغبة القوية في العيش وعلى غرار ما كان بها؟

عنونة المخرجة بشرى إيجورك لفيلمها الوثائقي المندرج ضمن سلسة “حكايات الشوارع” بـ”الوجه الأزرق شفشاون” (52 دقيقة)، كانت مبدعة فيه، لا سيما والمدينة برمتها -وليس فقط شوارعها- تتميز بهذا اللون الذي حلله شاعر هذه المدينة عبد الكريم الطبال بأنه لون اللانهائي والعشق والسماء، أما لون أسوارها التاريخية وقصباتها فهو لون ترابي. وبين لون السماء ولون التراب الأرض ولدت العديد من الحكايات الخاصة بهذه المدينة، وشوارعها على وجه الخصوص.

جميع المتدخلين في هذا الفيلم، مثل محمد حقون (فوتوغرافي) وياسين الهبطي (أستاذ مادة التاريخ) وأنس العاقل (ممثل ومساعد مخرج)، ساهموا في تبيان قيمة وطبيعة هذه الأمكنة، وكأنها “مسكونة بأرواح” تاريخية ذات مجد أندلسي أضاعه العرب، ونُقل هنا لإعادة القبض على هذا الفردوس التاريخي الضائع. ولعل تسمية غرناطة الصغرى التي وردت على لسان المؤرخ علي الريسوني، الدليل القاطع على ما ذهبنا إليه.

الوجه الأزرق هنا يحيلنا فعلا على الرغبة القوية للمخرجة في تمرير رسالة إنسانية تتعلق بكون شوارع المدينة -بل المدينة كلها- لها بعدها الإنساني، أي وكأنها إنسان، وهو ما يؤكده حتى عنوان فيلمها، حيث تم توظيف العضو البيولوجي للإنسان في هذه العنونة “الوجه”، مع إضافة لون المدينة “الأزرق” المتحدث عنه سابقا.

“كورنيش مطرح”.. تفاصيل الحكي

في سلطنة عمان، مكننا المخرج أحمد حسونة في مدة زمنية تتحدد في 26 دقيقة، من معرفة ما يجري في “كورنيش مطرح” بسلطنة عمان، سواء تعلق الأمر بزمن الليل أو النهار، حيث خصوبة المكان المياهية، وحديث عن ماضي وحاضر هذا المكان من لدن بعض الأسماء الهندسية والشعرية والتاريخية والتجارية، مثل سعيد الصقلاوي وشريف الرشيدي ومصطفى بن مختار وزيادة صبيح ومحمد بن علي.. أسماء فككت طبيعة ووظيفة هذا المكان ومن زوايا معمارية واقتصادية واجتماعية وتاريخية.

تفاصيل عديدة قُدمت عن هذا المكان “مطرح”، إلى حد هجرة الناس لبيت “البرندة” الذي اعتُقد أنه “مسكون بالجن”، وهو بيت قريب من البحر كان من مهامه المتعددة تدبير أمور الصيادين، وهو اليوم ذاكرة مِتحَفيّة جميلة. سفر في ذاكرة المكان/المطرح منذ أن تم الاستيلاء عليه من لدن البرتغاليين، إلى أن عاد بفعل مقاومة أهالي المنطقة، مرورا بتحليل طبيعة هندسة أبوابه وكيف أن هذه الأبواب بنيت بناء على وظيفة دفاعية حمائية للساكنين، حيث إن وظيفة الباب الأول إن ولجه العدو تُرمى عليه ومن فوق رأسه سوائل حارقة (مثل الزيت).

الأمكنة هنا في مطرح تتميز برائحة البخور، حيث يبيعها النساء والرجال (مثل البائعة زيادة صبيح والبائع محمد بن علي)، يجعلان المتلقي يشغل حاسة شمه بحثا عن رائحة ما، وهنا “يتوقف” الزمن الفيلمي الوثائقي لجعلنا نسافر في ما نملكه من هذه المواد في بيوتنا، ونستحضر ما عشناه في طفولتنا مع أمهاتنا وجدّاتنا وهن يقمن بـ”تبخير” ألبستنا وأجسامنا الصغيرة المصابة بألم ما.

أزقة ضيقة ودكاكين تتكئ على بعضها البعض، رسالة مشفرة من الزمن الماضي إلى الآن تحيلنا على بنية هندسية عربية قديمة، تتميز بها ليس فقط الأسواق التجارية، بل حتى على مستوى بنية المساكن، مما يدل على الرغبة في قرب وجداني مرغوب فيه بين الناس، وهو عكس ما يوجد اليوم في مكان العيش اليومي، حيث أصبحت العولمة تبنينا وفق “فردانية” مفرطة وقاتلة لكل بُعد اجتماعي شعبي.

ونحن نقترب من نهاية الفيلم، تلوح في الأفق تفاصيل مكانية عديدة عن سوق مطرح، والتي كانت تسمى بسوق الظلام لكون البيع والشراء يتم بدءا من الليل وصولا إلى رحلة فوتوغرافية عندما كانت عليه بعض الأمكنة المكونة لمطرح، مثل مسجدها وسفنها وبنياتها الهندسية القديمة التي تم التفريط في العديد من مقوماتها الفنية القديمة، من خلال نقد مبطن موجه للناس لكونهم غيروا العديد من ملامح مطرح القديمة، وبقيت جمالياتها حاضرة فقط في صورها الفوتوغرافية الحاضرة في متحفها السالف الذكر.

حضور خريطة جغرافية عالمية ثلاثية الأبعاد لموقعة المتفرج في مطرح في بداية ووسط ونهاية الفيلم، يجسد تلك الرغبة الضمنية في البحث عن تسويق عالمي لهذا المكان المعشوق من لدن أهله إلى حد الحكي عنه بتفاصيل دقيقة تؤكد وبالملموس أنهم مروا من بناء مطرح/المكان نحو البحث في كيفية بناء مطرح/المكان لعلاقاتهم الإنسانية حاليا.

النبش في حكايات الشوارع

حاولنا من خلال الأفلام الوثائقية الآتية من مصر والمغرب وسلطنة عمان أن نقدم بعض التفاصيل الدقيقة المستخلصة مما سميناه بوثائقيات الأمكنة، كوثائقيات هي اليوم ضرورة ثقافية وجمالية وإنسانية. وفي الباقي من هذا المقال نستحضر أمثلة أخرى من مواقع جغرافية غير عربية وبشكل مختصر، لتبيان أن الشوارع كأمكنة لها خصوصية إنسانية مهما اختلفت مرجعياتنا الثقافية، لكون المكان وبشكل عام وكما بيّنا في مقدمة المقال، يتحول إلى مصدر حكي به وفيه وله نحكي حكاياتنا.

في سنغافورة البلد الآسيوي، حضر شارع “أورتشارد” (26 دقيقة)، ومن خلاله تمكنا من معرفة طبيعة العيش والمستوى الاقتصادي لهذا البلد الذي ولج نادي الدول المتقدمة. حضور هندسة معمارية متطورة باحثة عن التماهي مع ما وصلت إليه دول متقدمة مثل أمريكا وغيرها، وحركية بشرية نقرأ من خلال أصحابها طبيعة الحياة وتنمية البلد وكيفية جعل الماء مكوِّنا معماريا هندسيا منتميا لبنية هذا الشارع/البلد.

في هذا الشارع السنغافوري، تدفعنا صوره إلى مساءلة طبيعة التحول الذي عاشه هذا البلد من بلد متخلف يصارع من أجل البحث عن لقمة عيش، إلى بلد يحتل العديد من الرتب المتقدمة وفي مجالات عديدة ذات بعد اقتصادي وعلمي وتعليمي، بل تمكن هذا البلد من نزع العديد من المكتسبات التكنولوجية والاقتصادية من يد دول متقدمة.

وعلى مدار 29 دقيقة استطاع المخرج بوعزاوي مصطفى أن ينقلنا إلى كيفية ولادة “شارع الأمل” في كولومبيا، فمن خلال حكايات المهندس المعماري ألبيرتو إسكوبار تبين لنا أنه شارع أسس بدءا من نهاية القرن الـ19، لاسيما والصور الفوتوغرافية التي وظّفت في الفيلم توضح كون هذا الشارع ولد من رحم نهر، وطُور في أفق أن أصبح “شارع الأمل”، حيث يحتضن اليوم العديد من الأنشطة، لاسيما تصوير الأفلام السينمائية وما ينتج عن هذا التصوير من تتبع دقيق من لدن مرتاديه المتتبعين لكافة تفاصيل هذا التصوير السينمائي.

من خلال كل هذه النماذج الممثلة لهذه السلسلة الوثائقية النابشة في الأمكنة/الشوارع، من الممكن القول إن وثائقيات من هذا النوع مفيدة جدا، إلى حد اعتبارها مرجعية ثقافية لمعرفة العديد مما يتقاسمه الناس في مثل هذه الأمكنة، ومن خلالها أيضا تترسخ لدينا العديد من التمثلات حولها، ونبني صورنا الخاصة بها، بل هي فرصة أيضا “لتوقيف” زمن التلقي وخلق العديد من المقارنات بين شوارعنا وشوارع ما ورد في هذه النماذج.

خلاصة

للمكان شعريته وإنسانيته، فإذا كان الإنسان وعبر التاريخ هو من يبني المكان، فالمكان يصبح هو الباني لرؤيته وأحلامه، بل يصبح الإنسان في ضيافة المكان الذي بناه، ومن هنا “أنسنة” هذه الأمكنة. وما الشوارع المتحدث عنها هنا، إلا مثال واحد من كل تلك الأمكنة التي بناها الإنسان، وهي الآن تحدد وتبني تصوراتنا وتمثلاتنا ورؤانا وتنظم علاقاتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.