“مقص سيدي أحمد”.. مهنة في المغرب العربي تأبى الاندثار

تبتهج القلوب وتنشرح الصدور بقدوم الأبناء؛ فهم زينة الحياة الدنيا الذين يملؤونها سعادة غامرة لا مثيل لها، هم أجيال المستقبل الذي يقرعون بوابة الحاضر؛ كي يأتوا إلى عالم تشرق فيه الشمس وتتقلب عليه الأزمان، محبتهم فطرة أودعها الله في الصدور، ورعايتهم مشقة ممتعة.

لأنهم كذلك فإن الآباء يُقدمون لهم دِرهم وقاية لتجنيبهم قنطار علاج، فبمجرد ميلاد الطفل يتذكر الأب ضرورة إجراء عملية تطهير له من جلدة زائدة على رأس عضوه الذكري تسمى هذه العملية بالختان أو “الطهور”، يواجه الطفل فيها ألما من آلام الحياة المبكية.

تنطلق صرخاته معلنة عن شعوره المؤلم فمقص الخاتن الذي يقطع به جلدة من جسده يُمثل حكاية ألم الطفل المبكرة، وبالمقابل تُدق طبول الأفراح وتعلو الزغاريد وترتسم الابتسامة على الوجوه في بيت العائلة ابتهاجا بهذه المناسبة، تلك مراسيم الختان؛ ألم طفل وسعادة عائلة، حكاية تتكرر في كل أسرة يرزقها الله طفلا ذكرا.

 

بين أيدينا أحد أفلام الجزيرة الوثائقية المعنون بـ”مقص سيدي أحمد” الذي يسلط الضوء على رجل يمارس مهنة “الخاتن” في بلاد المغرب العربي يسيح في تلك البلاد مستخدما وسائل النقل المتنوعة لا يهمه المال بل يسعى من خلال ذاك العمل إلى نيل مرضاة الله من باب مساعدة أطفال المسلمين.

إرث الفقهاء والحفاظ.. عمل في سبيل الله

ينحدر “الخاتن” سيدي أحمد بن سيدي من قرية أمازيغية مغربية، وله عشرة أبناء ستة من الذكور وأربعة من الإناث، وقد رزقه الله بعائلة كبيرة بلغت بالأحفاد 20 فردا.

اشتهرت قبيلته بالفقهاء وحفظة القرآن، ومن أبنائه حسن باحدّو الذي حفظ القرآن الكريم في قرية سيدي يحيى أيوسف وعاد إلى القبيلة “بآيت شعا أعلى” حيث أصبح إماما لمسجد القرية.

انتقلت مهنة “الخاتن” إلى سيدي أحمد بعد تعلمه أصولها على يد والده الذي مكث أربعين عاما يجريها لأطفال القرى والمدن المجاورة، حيث رافقه أثناء العمل مدة تجاوزت الثلاثين سنة حتى أصبح ممتهنا لها مُحباً لأدائها معتبرا إياها عملا في سبيل الله.

اجتماع عائلي صباحي لسيدي أحمد توصيه فيه زوجته أن يأخذ حذره من الأمطار

يرى أن هذه المهنة في طريقها للانقراض فلم يبق في المناطق التي يعمل فيها خاتن للأطفال غيره، لذلك فهو يرغب في أن يتعلم أحد أولاده هذه المهنة؛ لعله يعين أبناء المسلمين في تلك المناطق.

واشتعل الرأس شيبا.. اجتماع عائلي قبل الخروج للعمل

في الصباح وبعد الانتهاء من الصلاة والدعاء والتسبيح تجتمع عائلة سيدي أحمد في أجواء عائلية تتبادل أطراف الحديث وتتناول طعام الإفطار، أثناء ذلك يخبرهم عن اعتزامه الذهاب إلى إحدى المشيخات المغربية التي تسمى “آيت لحساين” لإجراء عملية ختان في ذاك المكان.

تخشى عليه زوجته من فيضانات الوديان التي تحدث نتيجة لغزارة الأمطار؛ فلم يعد ذاك الشاب الصغير الذي يستطيع التأقلم مع كل الظروف، فتطلب منه أن يرسل ولده ميمون ليقوم بهذه المهمة بدلا عنه؛ لأنها تخشى عليه من مفاجئات موسم الشتاء الجارفة التي قد تؤدي بالحياة نحو الهاوية، لكن سيدي أحمد يُبدي تمتعه بعزيمة قوية وهمة عالية تُعينه على تقدم العمر فيقول: “ما دمت قادرا على القيام بهذا العمل فلن أرسل أحدا مكاني”، يداعب زوجته قائلا “ما زلت شابا”، مع أن الشيب قد غزى شعر رأسه.

بين حقول الجزر

ينتقل بنا مخرج الفلم إلى مكان آخر حيث مصدر رزق سيدي أحمد وعائلته الكبيرة، يظهر متجولا في حقل الجزر حاملا فأسا على كتفه مستعدا للعمل في الزراعة؛ كي يكفي عائلته مؤونة الحياة.

سيدي أحمد وولده ميمون يعملان في الزراعة

يرافقه ولده ميمون إلى الحقل ويتعاونان سويا في عملية الزراعة، فالأب يتوجه إلى أنابيب المياه كي يفتحها لتتدفق على المزروعات، ثم يفتخر سيدي أحمد بأبنائه قائلا “يبذل الأبناء قصارى جهدهم في العمل في الحقول التي تُعد مصدر معيشتنا”.

الخاتن.. مسافرٌ بين الأرياف والقبائل

لا ينقطع السؤال عن سيدي أحمد كلما ولد طفل ذكر في أي مكان، فهو الخاتن الوحيد لأبناء تلك القبائل و”الدواوير” وهو الاسم الذي يطلق مغربيا على القرى والتجمعات السكانية التي يرتبط سكانها بعلاقات جغرافية أو اجتماعية أو عائلية.

يركب سيدي أحمد الحمار أثناء تنقله بين الأرياف لأداء مهمة الختان

كثيرة هي الأماكن التي زارها، فقد سافر إلى خنيفرة ومريرت وزايدة والقنيطرة إضافة إلى أتفكو وأنمزي وأغدو وترغيست وتمالوت بآيت فضولي وآيت موسى وتكوديت وأكوديم، حيث أجرى الكثير من عمليات الختان هناك، ويتراوح عدد العمليات التي أجراها ما بين (1000 – 1400) عملية، يعتمد تزايدها وتناقصها على نسبة المواليد الجدد في كل عام، يقول إنه في صباح يوم واحد أجرى 64 عملية ختان في قبيلة آيت عمر.

يستخدم أثناء تنقله الدواب عند الضرورة، ويظهر في الفيلم مشهد وضعه السرج على الحمار ليسافر على ظهره، أثناء تنقله بين الأرياف والمسالك الصعبة، وربما يضطر للمشي على الأقدام، أو أتى من يقله على دراجة نارية، فهو يبتغي في عمله مرضاة الله.

عمل في سبيل الله

لا يرجو سيدي أحمد من عمله كخاتن صناعة ثروة كبيرة، ولا يبتغي من هذا العمل سوى مساعدة العائلات، فكان يزور العائلة التي تدعوه دون أن يطلب أجرا، وإذا وجد أن الطفل يتيم أو فقير أو لا يستطيع والده دفع أجر العملية فإنه يجريها له مجانا، ولا يتوقف عند هذا الحد بل يعطيه الدواء اللازم أيضا.

يتنقل سيدي أحمد بين القرى لختان أطفال الفقراء مجانا

يبتسم أثناء تعامله مع الناس، يواجه مشقة الطريق ووعثاء السفر إلى القرى بالصبر، ويقابله أبناء القرى كذلك برد الجميل شاكرين له حسن صنيعه معهم، ودعمه لفقرائهم داعين له بقبول العمل وثبوت الأجر عند الله تعالى.

بسم الله.. مشهد لعملية ختان

ينتقل بنا مخرج الفلم إلى داخل بيت يجري فيه سيدي أحمد عملية ختان لأحد الأطفال، حيث أحضر الطفل وقام بإزالة ملابسه عن جسده ليصبح مستعدا لإجراء العملية. يتحدث سيدي أحمد مع ولي أمر الطفل أثناء إجراء العملية مطمئنا له أن كل شيء سيمر على خير، داعيا إياه لعدم القلق، ثم يبدأ إجراء العملية باستخدام مقصه لقطع تلك الزيادة الجلدية، مستشعراً معية الله تعالى طالبا عونه ذاكرا له، داعيا إياه، قائلا باسم الله.

عملية الختان لا تستغرق مع سيدي أحمد سوى بضع دقائق

تنتهي العملية ويبدأ سيدي أحمد بوضع المواد المعقمة على الجرح وبعد أن ينتهي من ذلك يلبس الطفل “الحفاظات”، ثم يرسل الطفل إلى والدته كي يطمئن قلبها ولا تحزن، وحتى يشعر الطفل بالسكينة والراحة والهدوء وهو في حضنها.

لا ينتهي عمل سيدي أحمد بمجرد إنهاء العملية، بل يواصل الاطمئنان على نتائج العملية فيتصل ليلا بعد انقضاء وقت مناسب ليطمئن أن كل شيء على ما يرام وأن الطفل تماثل للشفاء ولم يعد بحاجة إلى “الخاتن”.

عمله المتقن وسمعته الطيبة جعلته محل ثقة أهالي الأرياف والدواوير المحيطة به، لذلك يشعر بالفخر كلما دعاه والد طفل ليقوم بختانه، كما أن معظم الآباء يثقون بأدائه أكثر مما يثقون بعمل الأطباء الذين يمارسون ذات العمل.

عملية ختان في العائلة.. رحلة تعلم المهنة

تعلم سيدي أحمد هذه المهنة عن والده، حيث يتذكر بداية مشواره التعليمي فيها حين طلب منه والده الانتباه والتركيز على طريقته في إجراء هذه العملية. يقول: علمني والدي كيف أجري هذه العملية بإتقان، وحذرني من المساس ببعض العروق التي لا يتوقف نزيفها.

الختان مهنة امتهنها سيدي أحمد عن والده بالخبرة

ثم بقي مرافقا لوالده فترة من الزمن يتعلم ويلاحظ ويشاهد حتى اكتسب تلك المهارة نظريا، فأراد والده أن ينقله من مرحلة النظر والمشاهدة إلى حيّز التطبيق، فاقترح عليه أن يبدأ بختان أحد أبناء أخته، فتردد سيدي أحمد متعذرا بانشغاله بأعمال النجارة والبناء؛ فليس لديه الوقت الكافي لمثل ذلك العمل، عندها حثه والده على الإقدام وعدم التردد، مُصرا عليه أن يقضي حوائج أطفال المسلمين، لم ييأس والده في الإلحاح عليه حتى استجاب لتلك العاصفة من الضغوطات الأبوية التي صنعت منه فيما بعد خاتنا مشهورا.

أقدم سيدي أحمد أخيرا على إجراء عملية الختان لطفل شقيقته، وكانت ملاحظات والده ومساعدته إياه هي الموجه والمرشد له، وبهذه العملية يكون قد أتم أول عملية ختان يقوم بها في حياته. ثم طلب منه والده أن يختن طفلا آخر بمفرده دون أية تعليمات أو ملاحظات، فقام بعملية ختان كاملة بمفرده منذ بدايتها حتى منتهاها، وبذلك أصبح متقنا لهذه الصنعة، وبعدها امتهن هذا العمل كخاتن للأطفال دون أن يقع منه أي خطأ أثناء العمل حيث يقول: نحمد الله ونشكره على هذه المهنة لم أرتكب فيها أي خطأ وهذا بفضل الله ورضا الوالدين.

ختان على مشارف الزواج

اعتاد سيدي أحمد أن يقوم بعملية الختان للأطفال الصغار في أشهرهم الأولى، وعلى غير العادة وجد نفسه ذات مرة أمام عملية ختان لشاب يافع كبير، مما أثار الحيرة والدهشة في نفس الخاتن عن أسباب تأخر هذا الشاب عن إجراء تلك العملية.

بالعادة .. لا يوجد في المجتمع المسلم من بشبّ بغير ختان، فهي سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

يعتقد أن جهل العائلة وقلة وعيها قد سبب عدم إجراء هذه العملية مبكرا، ولكن ما الذي دفع هذا الشاب إلى إجراء هذه العملية في هذا التوقيت المتأخر من العمر؟

كان الزواج هو المحرك الأساسي لهذا الشاب الذي أراد أن يجري هذه العملية في هذا التوقيت، فعندما أقدم على إكمال نصف دينه أخبره إمام القبيلة أن زواجه سيكون ناقصا إذا لم يُختن؛ فهذه سنّة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

سأل الشاب عن مدى استطاعته على تحمل الألم فأجاب بالإيجاب، فقام سيدي أحمد بوضع عباءة الشاب على وجهه لكي لا يرى ما يحدث أثناء العملية. وبعد الانتهاء منها أراد أن يضع له الدواء فهرب الشاب وقال: لا حاجة لي بدوائك، أستودعك الله.

شهادة من طبيب.. ولا ينبئك مثل خبير

يظهر سيدي أحمد في الفيلم يتجول في السوق، ثم يجلس إلى جانب مجموعة من البائعين يسألهم عن رجل يدعى “حمّو” فيجيبون عليه: لم يأت بعد. يجلس قليلا يحتسي الشاي فيتصل عليه حموّ هاتفيا، ثم ما يلبث أن يحضر ويشاركه شرب الشاي، ثم يدور بينهم حوار:

حمّو: أريد منك أن تختن ابني هذا الأسبوع.

سيدي أحمد: إن شاء الله وماذا عن الدواء؟

حمّو: أريد منك التكفل بكل شيء.

سيدي أحمد: حسناً سأحضر من الصيدلية ما يلزم من الدواء.

سيدي أحمد يحتسي الشاي الأخضر بانتظار وصول “حمّو” والد الطفل

قبل أن يصل إلى بيت حمّو، قام سيدي أحمد بزيارة لمنزل أحمد قريرو الناشط الاجتماعي سائلا إياه عن صور تخصّه فقال له: اجلس وارتح قليلا إنها موجودة في حاسوبي، وسأطبعها لك على أن تجد الألبوم جاهزا الأسبوع القادم.

يشهد قريرو لسيدي أحمد أنه خاتن لم يرتكب أي خطأ، يثق به أفراد القبيلة وسكان المنطقة؛ لأنه سليل زاوية سيدي يحيى أيوسف وهم مرابطون شرفاء يحظون بثقة الجميع، هو رجل لا يخلف مواعيده، ولا يخلو أي نشاط فيه ختان جماعي من إشرافه عليه.

تجدر الإشارة إلى أنه في الوقت الذي ترفض فيه الأمهات أن يُشرف على ختان أطفالهن الأطباء يوافقن على أن يقوم بذلك سيدي أحمد، وهنا يقول: أتذكر أنني ختنت ما يفوق الخمسين طفلا، وحين انتهيت بادر أحد الأطباء إلى منحي شهادة تقديرية كتبها بخط يده، ووضع عليها أربعة أختام وسلمها لي ما زلت محتفظا بها حتى اليوم.

العمر المفضل للختان

في “الدُّشر” وهو إقليم صغير بالقرب من مدينة فاس المغربية والدواوير، قام سيدي أحمد بعمليات عديدة ختان لأطفال أعمارهم ما بين (5 – 8) سنوات. ويرى سيدي أحمد أن أفضل المراحل العمرية للختان هي ما بين سبعة أيام وشهرين على أقصى تقدير، وإلا فيؤجل إلى أن يتجاوز عامه الأول أو الثاني.

ترحيب واستقبال لسيدي أحمد قبل عملية الختان

يجتمع سيدي أحمد مع مجموعة من الرجال لشرب الشاي قبل إجراء عملية ختان جديدة في منزل حمّو أسالم والد الطفل الذي يراد ختانه، ويبدأ كالعادة بذكر الله تعالى والتسمية، ثم يطلب من مساعده أن يشد الطفل من ناحيتين، يستخدم مصباحا منيرا يثبته على رأسه كي يرى بوضوح أكثر، وبعد أن ينتهي من العملية يضع الدواء على المكان ثم يضمّد الجرح، ويلبس الطفل الحفاظة ويُقبّله ثم يرسله إلى أمه؛ لتحمله فوق ظهرها وسط جمع من النسوة اللواتي يحتفلن بهذه المناسبة السعيدة.

من طقوس وعادات ما بعد الختان أن تحمل النسوة الطفل إلى عين أو نبع ماء ويحملن معهن قصبة يضعن فوقها وشاحا من الحرير في أجواء تعمها الأهازيج إلى أن تبتل القصبة بماء العين.

للختان طقوس خاصة في المغرب حيث تحمل النسوة الطفل إلى عين أو نبع ماء ويحملن معهن قصبة يضعن فوقها وشاحا من الحرير

سنوات طويلة قضاها سيدي أحمد في تلك المهنة، وما زال ممارسا لها دون أن يشعر بالملل أو الكلل، ينشر طهارة الأطفال بمقصه الساخن، يلهج لسانه بالدعاء في كل عملية يجريها، يتمنى أن تستمر تلك المهنة من بعده، وأن يحمل أحد أبنائه الراية حتى لا يصيبها الاندثار، فكل أطفال المسلمين بحاجة إليها، ربما كان إيمان الناس بها واحترامهم لها سيمنحها فرصة البقاء حية تتناقلها الأجيال المتعاقبة.