“لافرانس”.. حين يكون التعليم طريق خلاص الأنا من قبضة الآخر

د. الحبيب ناصري

السينما وسيلة فعّالة لمعرفة كيفية التفكير في الكثير من القضايا التي تشغل عالمنا اليوم، لا سيما أن خطاب الصورة خطاب قوي منفعل وفاعل في القضايا المُعبَّر عنها في فيلم ما، سواء كان روائيا أو وثائقيا. إنها (أي السينما) تمثل مجالا خصبا لطرح الأفكار والمواقف والرؤى والوجدانيات، في أفق البحث عن بدائل تخدم الإنسان كإنسان. فمن هنا نُسجّل أهميتها وقيمتها الفنية والجمالية والإنسانية.

إن السينما هي آخر ما بقي لنا اليوم بجانب بقية الفنون الأخرى في خلق حوار ثقافي سينمائي بين الذات الأفريقية والآخر، في زمن كانت ولا تزال فيه أفريقيا مجرد قارة لتصدير المواد الأولية الخام والأيدي العاملة الرخيصة والطاقات العلمية الكبيرة للغرب بشكل عام، وفرنسا بشكل خاص.

من أجل هذا سنرحل مع متن سينمائي أفريقي جميل لفيلم “لافرانس” (2001) الذي يبلغ (90 دقيقة) من إخراج السنغالي “آلان غوميس”، وذلك باعتباره واحدا من الأفلام السنغالية الأفريقية التي نبشت بشكل حقيقي في هذا السؤال المتعلق بصورة الأفريقي في سينماه، كسينما عليها أن تُخلخل العلاقة الرابطة بين المستعمِر والمستعمَر.

خلخلة لها راهنيتها اليوم ونحن نعيش يوميا العديد من المآسي على ضفة البحر الأبيض المتوسط، لأعداد هائلة من الأفريقيين الحالمين بالهجرة إلى أوروبا، بينما سُبل الغنى متروكة هنا في بلادهم في أفريقيا التي لن تتخلص من تخلّفها إلا بتقارب حقيقي فيما بين بلدانها، والوعي بقيمة هذا التقارب واعتباره البديل الحقيقي، عوض انتظار بعض المساعدات الآتية من الغرب الحالم دوما أن تبقى أفريقيا قارة هشّة ضعيفة متصارعة فيما بينها.

 

سؤال الذات والآخر في فيلم “لافرنس”

كيف حضرت الذات الأفريقية والآخر في فيلم “لافرانس” لمخرجه “آلان غوميس” السنغالي؟ وما هي بعض الأبعاد الدلالية لهذا الحضور؟ وكيف وظفت بعض المكونات اللغوية السينمائية كالألوان والأمكنة والشخوص؟

لقد استطاعت السينما الأفريقية إلى حد ما أن تُطور ذاتها الفنية، ولعل ذلك راجع فيما يبدو إلى مجموعة من العوامل، أبرزها وعي المخرج السينمائي الأفريقي بضرورة تقديم رؤية أخرى مخالفة عما سبق، سواء تعلق الأمر بالذات أو الآخر. إنه الوعي الذي يمكن إدراكه في مجموعة من الأفلام الأفريقية، وما الفيلم المُحلَّل هنا إلا ذلك المثال الموضح لما طُرح.

أفلام من خلالها ندرك أيضا أننا بالفعل مطالبون بالبحث عن المزيد من الأدوات الفنية الراقية للتعبير عن هموم ذواتنا، وللدخول مع الآخر في حوار ينهض على رؤية فنية جمالية تنطلق من هموم الذات لتعي قيمتها وموقعها ضمن الوجود، مخلخلين صورة الأفريقي الجائع المريض والمهزوم والفاشل، وباحثين عن صورة أفريقيا الساحرة الحكاية الأسطورة، والنائمة على خيرات عديدة دون معرفة قيمتها، وفي مقدمتها الثروة البشرية الغنية.

الحاج أمام برج أيفل في باريس، وذلك للبحث عن رمزية البلد الرافض له

 

حب في فرنسا.. انقسام وتمزق داخلي

بعد هذا التساؤل المهم الذي طرحناه حول السينما الأفريقية وعلاقتها بالآخر، والذي يمكن أن يكون مدخلا لقراءة معظم الأفلام الأفريقية التي تناولت علاقة الأنا والآخر، من موقع المتابعة التحليلية لها، وفي أفق البحث عن البنيات الفنية المشتركة بينها؛ ننتقل إلى مقاربة فيلم “لافرانس” لنتناوله من مستويين أساسيين ودالين، المستوى الأول يجيب عن سؤال ماذا وقع؟ والمستوى الثاني يجيب عن سؤال كيف وقع؟

المستوى الأول مستوى قصصي حدثي، وهو مستوى سبق أن طُرح في الكثير من الأفلام، حيث سفر الشخصية الرئيسية المسماة الحاج (الطالب) من بلده السنغال إلى فرنسا، من أجل متابعة الدراسة.

وهنا ستعترض الحاج الطالب مجموعة من المشاكل ذات البعد المادي الاجتماعي والنفسي، وعلى الرغم من هذه المشاكل فإنه يتعرف على فتاة فرنسية تذيقه كل ألوان الحب، إنه الإشباع المادي الذي جعله يعيش لحظة انقسام وتمزق بين المكوث والبقاء في أحضان الآخر، أو الرجوع إلى الأرض/الأنا.

وإذا كان هذا السؤال قد طُرح في نصوص قصصية وروائية ومسرحية وسينمائية متعددة، ولدى العديد من الروائيين والقصاصين والكتاب، فإن جديد هذا الفيلم يتمثل في طريقة ولغة طرحه، وهو ما جعل المخرج ينهض على حسّ فني سينمائي من الممكن أن يساهم في تطوير إمكاناته الفنية المقبلة على وجه الخصوص، وهو الواعي برمزية الصورة والخطاب، ومنذ فيلمه المطول الأول هذا.

بوستر فيلم “لافرانس”، حيث تظهر فيه عينا البطل الرئيسي “الحاج”

 

بوستر الفيلم.. جُرح إنساني غائر

على مستوى بوستر الفيلم فهو مكوّن من وجه الطالب الحاج الشخصية الرئيسية في الفيلم، حيث التميز فيه بنظرة جدا قوية ودالة، جروح  بالقرب من حاجبه دالة على طبيعة الألم. فالجروح هنا جسدية، لكنها في الفيلم أيضا تتجاوز ما هو جسدي نحو العمق، عمقه الإنساني الذي جُرح بفعل طبيعة التمييز العنصري الذي ستعيشه هذه الشخصية الرئيسية الأفريقية والمعبرة عن كافة شخوص أفريقيا. جرح غائر قريب من العين التي بها يرى. إنه جرح لا يوجد في جسمه فقط، بل ومن خلاله يوجد في كافة جسم أفريقيا التي تعيش إلى اليوم تيها وصراعا مع ذاتها، هو في المجمل مدبر لها حتى تبقى أسيرة المرض والجوع والحروب، ليسهل امتصاص خيراتها.

فهل من الممكن ضمن علم التأويل النافع والمستخرج لمكنونات الخطابات أن نقول إن الجرح ومهما كان بالغا من الممكن التخلص منه؟ لا سيما وإن بقيت العيون قوية على النظر العميق والبحث على الآتي المفيد والمنقذ من الجروح؟

يبدو أننا وفي نهاية المقال سيتضح لنا بالفعل صحة النظر المختار لتجاوز هذا الجرح العميق والقوي، من لدن الشخصية الرئيسية في الفيلم، وعبرها تصور المخرج.

“لافرانس”.. خرق على مستوى العنوان

تسمية الفيلم تدفعنا إلى التساؤل هل يمكن أن نعتبر هذا الخرق اللغوي للعنوان دالا على خرق دلالي؟ في الفرنسية نكتب الكلمة كالتالي (La France)، فما الذي جعله ينزاح لغويا على كتابتها كما هي؟

صوتيا أصبحت الكلمة/العنوان قريبة إلى طريقة نطقها في المتداول اللغوي السنغالي الشعبي، وقريبة أيضا لكلمة المعاناة بالفرنسية (La Souffrance)، وقد نجد دلالات انزياحية أخرى. المهم هنا ومنذ البدء مارس العنوان خروجه عن المألوف (الخرق)، مما يجعلنا فعلا نُصنف هذا العنوان ضمن العناوين ذات البعد البلاغي، وليس التقريري المباشر.

حوار الطالب الأسود “الحاج” مع الفتاة الفرنسية الجميلة البيضاء، حيث الحوار الذي يخفي الظلال والمرجعيات

 

الألوان الأفريقية وبُعدها الجمالي

يمكن قراءة هذا المكون الفني من زاويتين: بنية التضاد: الحاج/الطالب الأسود – الفتاة الفرنسية الجميلة البيضاء، نفس البنية شغلت أثناء غسل العمال للأيادي (أيادي بيضاء مقابل أيادي الحاج السوداء). هذه البنية الضدية حاول المخرج خلخلتها من خلال تلك العلاقة الرابطة بين الطالب والفتاة الفرنسية، لكنها خلخلة لم تجد صداها عند الآخر الذي قدم من موقع أمني إداري صارم تجسد في اعتقال الحاج، بحجة عدم تسوية وثائقه الخاصة بإقامته (لا إنسانية الآخر).

أما الاستخدام الثاني للألوان فيمكن تحديده في الانتقال من هذا المستوى الدلالي الأول (الأنا/الأسود -الآخر/الأبيض) إلى مستوى توظيفي تشكيلي جمالي دال، وهنا نقدم على سبيل التمثيل لا الحصر لحظة النقاش الذي تم بين الشخصيتين في المعمل.

إنه نقاش قدم من موقع فني جمالي، حيث حضور الألوان الأفريقية ذات البعد الجمالي يجسد حضور أفريقيا الجمال، أفريقيا الطبيعية الساحرة، إنها ألوان خام تقابلها أفريقيا الخام النائمة على مياه وثروات بشرية ومعدنية لا تُعد ولا تُحصى، لكنها مراقبة ومحروسة بعيون الآخر.

من هذا المنطلق استطاع الفيلم كسر مجموعة من الحدود الفاصلة بين بعض الأجناس الفنية (تداخل التشكيلي بالسينمائي كمثال)، وذلك في أفق البحث عن تحقيق نوع من المتعة البصرية الفنية، ولعل هذا ما تحقق عدة مرات. وكمثال آخر أذكر كيفية تقديم عودة الطالب إلى أرضه/أناه، وهنا سيتم توظيف تقنية الحوار بين الأب وابنه، حيث تم اختيار اللون الأخضر للكراسي، كما أحاطتها طبيعة خضراء، ولعل اختيار هذا اللون له ما يبرره على مستوى بعده الدلالي والتفاؤلي والجمالي، والحامل لبعد ديني (لون الجنة)، بُعد حضر حتى في طبيعة اسم الحاج (الشخصية الرئيسية في الفيلم).

حوار الحاج مع أبيه فوق كراس خضراء دالة على العودة إلى الأرض الجذور

 

الحوار الغائب المنشود

حوار الطالب مع أبيه حوار من الممكن اعتباره الحوار الغائب ليس داخل العائلات الأفريقية المفككة والحالمة دوما بالهجرة، بل حوار غائب حتى بين أهل السياسة في أفريقيا، مما جعل أفريقيا “لقمة” سهلة الهضم في بطون الغرب، ولا سيما فرنسا.

حوار غايته تذويب تلك المسافة المكانية الفاصلة بين الأب وابنه، لحظة الحديث في اتجاه التصاق مطلق بالتربة/الأرض/الجذور، وهو ما حاولت الصورة النهائية توضيحها، حيث جلوس الحاج الطالب على كرسي أخضر فوق أرض خضراء بجانب أشجار كثيفة ذات جذور ضاربة في أعماق الأرض، إنه الالتصاق والذوبان النهائي في وطنه ومن خلاله في أفريقيا.

هذا الحوار من الممكن اعتباره أيضا الحوار المنشود بين كل الأجيال الأفريقية التي هي اليوم كلها ضحية غيابه. فكيف من الممكن التخلص من براثين التخلف والحلم الدائم من أجل الهروب من قرى ومدن أفريقيا نحو الغرب، وبكافة دوله ومدنه ومصانعه ومعامله وشركاته ومؤسساته العمومية أو الخاصة، دون البدء بحوار حقيقي بين كافة مكونات أفريقيا؟ بين شبابها وشيوخها وبين حاكميها ومحكوميها وبين علمائها وتلاميذهم؟

حوار حاضر في الفيلم رسخه بشكل قوي وبارز في ذلك الفضاء المفتوح على المستقبل، حيث يشكل (أي الحوار) اليوم خطوة رئيسية وحقيقية مفقودة في ثقافتنا الأفريقية، مما يجعل شباب هذه القارة التي تؤكد كل البحوث والدراسات الظاهر منها والخفي أنها هي مستقبل العالم، لما يوجد تحت أراضيها من خيرات وفوقها من موارد بشرية غنية بأفكارها وعلمها ومواهبها الرياضية.

يكفي على سبيل المثال أن نتتبع حضور بنات وأبناء أفريقيا داخل خريطة فرنسا، وفي كل المجالات الرياضية والعلمية والفكرية والتقنية والسياسية والاقتصادية، لنستخلص صحة ما نحن بصدده في هذا الفيلم وفي غيره.

الشخصية الرئيسية في الفيلم “الحاج” يتوسط أشجار وأرضية خضراء دلالة على الالتصاق في وطنه

 

أفريقيا.. حلول بين جدران مدارسها

يبدو أننا أمام رسالة قوية ودالة، ولعل اختياره مهنة التعليم يؤشر على ضرورة تمرير هذه الرسالة، وبوسائل تربوية وثقافية للأجيال الجديدة، حتى لا تعيش مأساة التمزق النفسي والاجتماعي. اختيار الحاج الطالب حلّ العودة إلى قريته، وأن يمتهن التدريس هناك ليفيد بنات وأبناء قريته الحالمين كمعظم الأفارقة بالعبور نحو ضفة الغرب بشكل عام وفرنسا بشكل خاص؛ من الممكن اعتباره الرسالة الضمنية والصريحة التي نراهن عليها، لكونها هي ما تبقى لنا في أفريقيانا.

على الرغم من تذوق الحاج لكل ملذات الحياة الغربية الفرنسية، فقد أدرك أن لون بشرته غير مرغوب فيها، بل هو هناك مجرد آلة عليها أن تعمل دون طرح للأسئلة. اختيار التعليم هو اختيار دقيق في الفيلم، لا سيما وأن أهل السياسة -في المجمل- غير مبالين بطبيعة وأهمية هذا الاختيار الذي يُنوّر العقول، ويجعل القلوب متمسكة بجذورها وبتربتها غير فارّة منها.

ما بين الرغبة في الاستمتاع بحياة فرنسا المادية وبين العودة نحو القرية الأصل، تحركت معظم أحداث الفيلم، ليجعلنا نتضامن مع الحاج الطالب في كل ما سيتعرض له هنا في بلاد الحرية والمساواة والإخاء.

حلول أفريقيا إذن -ومن خلال الفيلم- هي بين جدراني مدرستها، فمن الصعب التفكير خارجها للبحث عن حلول لبناتها وأبنائها المتدفقين على دول شمالها بحثا عن أي فرصة للمغامرة بأرواحهم والرمي بها في أمواج البحر الفتاك، بحثا عن زمن وصول إلى سواحلها، مع الاعتقاد بأن هذه السواحل -إن وصلوا أحياء طبعا- هي سواحل الخلاص والنجاة من الفقر والمرض، فوصولهم سيجعلهم يمسكون بكافة أحلامهم.

الحاج الطالب وهو هناك بفرنسا تذّوق نعيم الغرب من خلال صديقته الفرنسية، لكنه كان دوما يواجه مفاجآت غير سارّة سواء في مقر عمله أو مع رجال الأمن. وكلما تقادم بقاؤه في فرنسا كلما اكتشف أن فرنسا ليست موطنه الحقيقي الذي فيه يموت ويُرمى التراب على جسده، بل سيعيش نوستالجيا (الحنين إلى الوطن) حقيقية حالمة بالعودة والبقاء هناك بوطنه. ومن خلالهما الحلم بالبقاء في أفريقياه.

الحاج في قبضة الأمن الفرنسي الرافض لوضعه الإنساني

 

المعالجة السينمائية.. الحل المنقذ لمشاكل أفريقيا

السينما الأفريقية واجهة تعبيرية جميلة ودالة لجعلنا نقترح وبشكل حالم ما ينبغي أن نفكر أو لا نفكر فيه. هي اليوم خطاب جميل وثقافي وإنساني من الممكن أن نعبر ونفكر من خلاله في طبيعة وضعنا الأفريقي، حيث تتنافس كل القوى الغربية وغيرها على هذه القارة السوداء الغنية بكل ثرواتها المادية وغير المادية.

من الممكن التفكير في العديد من الحلول السياسية -إن وجدت- التي قد تكون مفيدة ومنقذة إلى حد ما ولو نظريا لواقع أفريقيا الحالي، لكن وحده التعليم ومن خلاله البحث العلمي والثقافة والمعرفة هو ما يمكننا الرهان عليه، وذلك لجعل هذه القارة قادرة على انتشال نفسها من كل مظاهر التخلف والحروب والصراعات، ولعل هذا ما راهن عليه هذا الفيلم الموقع من لدن مخرج له صوت إنساني حالم بما هو أجمل وأفضل لأفريقياه/أفريقيانا.