“جريمة في جزيرة الماعز”.. ظلال المسرح الإيطالي على السينما المصرية

الفنان المصري هشام عبد الحميد

إن مسرحية “جريمة في جزيرة الماعز” التي ألّفها الكاتب الإيطالي “أوغو بيتي” في الأربعينيات، كادت أن تتحول لفيلم سينمائي من تأليف وحيد حامد وإخراج علي بدر خان وإنتاج حسين القلة، إلا أن الخلاف الحاد الذي وقع بين وحيد وعلي بدر خان أدى إلى انفصالهما.

لكن وحيد استمر مع حسين القلة ليصنعا فيلم “رغبة متوحشة” من بطولة نادية الجندي وسهير المرشدي ومحمود حميدة وحنان ترك .بينما كوَّن علي بدرخان فريقا من محمد شرشر وعصام علي معه لكتابة السيناريو لفيلم “الراعي والنساء”، وهو من بطولة سعاد حسني وأحمد زكي ويسرى وميرنا المهندس.

وتدور قصة مسرحية “جريمة في جزيرة الماعز” حول ثلاث نساء هن الأم وابنتها والعمة، ويعشن في منطقة نائية بعد أن سُجن زوج الأم. تدور الأحداث برتابة إلى أن يظهر الغريب الذي قدّم نفسه على أنه صديق الزوج وكانا زميلين في زنزانة واحدة عندما كانا في السجن، حيث قال الغريب إن الزوج أخبره عن كل تفاصيل حياة أسرته، وجاء إليهم بناء على وصيته قبل وفاته.

وبالطبع مَثّل هذا الغريب طوق النجاة للنساء الثلاث اللواتي يعانين من الحرمان على كل مستوياته، حتى يبدأ الصراع الأنثوي لكي توفر كل أنثى إشباعا لرغباتها في علاقتها مع الغريب، لكن هذا الصراع ينتهي بمأساة قتل النساء الثلاث للرجل الغريب وإلقائه في بئر من الآبار المهجورة في تلك المنطقة النائية.

هذا عن المسرحية، فماذا عن تحويلها إلى عملين سينمائيين أحدهما “الراعي والنساء” والآخر “رغبة متوحشة”؟

 

“الراعي والنساء”.. مصر وعلاقتها بأشقائها العرب

يروي فيلم “الراعي والنساء” قصة وفاء الأرملة التي تعيش مع ابنتها وعمتها في منطقة منعزلة. تستصلح الأرملة وابنتها قطعة أرض كانت الزوجة قد ورثتها عن زوجها الذي مات في السجن، لكن فجأة يصل إلى المكان حسن، وهو الشاب الذي زامل زوجها في زنزانة واحدة بالسجن.

في البداية لا يلقى الضيف أيّ ترحيب من السيدتين، لكن تتطور الأحداث فيما بعد لكي يصبح حسن محور اهتمام النساء الثلاث: وفاء الأم، وسلمى ابنتها، وعزّة العمة. تتشابك الأحداث وتختفي سلمى، وتخرج النساء وحسن  للبحث عنها، وحين يعثرون عليها تُطلق سلمى النار بطريق الخطأ على حسن، فيفارق الحياة متأثرا بجراحه، فتنهار وفاء حزنا عليه .

يحمل الفيلم دلالات سياسية واجتماعية ما بين أحداثه، وذلك لكون المسرحية التي ألّفها “أوغو بيتي” كانت ذات خلفية سياسية واجتماعية متأثرة بأحداث الحرب العالمية الثانية التي أرهقت إيطاليا وأنهكتها.

كما أراد لها المخرج علي بدر خان تفسيرا ينطلق من أرضية سياسية اجتماعية، مفادها أن المخرج أراد أن يسلط الضوء على مصر وعلاقاتها بأشقائها العرب، وأن يُظهر التحولات السياسية وما صاحبها من صراع.

الفنانة المصرية سعاد حسني التي قامت بدور وفاء الأم الأرملة في فيلم “الراعي والنساء”

 

سُعاد حسني.. أداء مميز في لقطات مبهرة

لعل عنصر التمثيل بهذا الفيلم كان مميزا، وتحديدا أداء سعاد حسني التي كانت في لحظات بعينها مُبهرة بحق، ومنها اللحظة التي اكتشفت خيانة حسن مع عزة، ومحاولة تبرير ذلك لها وقيامها بصفعه، وقتها رمقته بنظرة تحمل مزيجا من أحاسيس شتى، حيث كبرياء المرأة المجروح، وفي الوقت نفسه الاحتقار لحسن وتبريره لها، لقد كانت سعاد بحق مذهلة.

أما اللحظة الثانية فكانت استجداء حسن للرجوع عن قراره ومكوثه معهم، وكمّ الألم والشجن والكبرياء المنهزم لتوترات صوتها وتعبيرات وجهها، كل ذلك كان يجسد عبقرية سعاد حسني في عالم التمثيل.

أما اللحظة الثالثة فكانت في لقائها الحميمي بحسن، لقاء بكل مشاعر الأنثى المحرومة والمكبوتة التي عبرت عنه بشكل إنساني رقيق يتناغم مع نُبل ورقي شخصيتها، فقد كانت بحق تستحق كل جوائز التمثيل بكل هذه اللحظات الفاتنة.

وبالطبع كانت هناك لحظات رائعة لباقي الممثلين، لعل أبرزها ردّ فعل أحمد زكي واستشعاره الخطر المحدق بسعاد حسني عند اقتراب عقرب منها، حيث كان رد فعله متدرجا، وعلى مجموعة لقطات متوالية، فكانت تلك اللقطات من أجمل لحظات تمثيل أحمد بالفيلم.

الفنانة المصرية نادية الجندي بطلة فيلم “رغبة متوحشة” وهي في جزيرة الماعز

 

“من أراد رواياتي فليقرأها”.. حدود المسؤولية في المنتج الإبداعي

إن الخلاف الذي نشب بين علي بدر خان ووحيد حامد، أي بين المخرج والمؤلف، هو خلاف أزلي بين إرادتين، فكل منهما يرى أحقيّته لفرض سطوته على المنتج الإبداعي.

وتحضرني هنا كلمة الأديب نجيب محفوظ عندما سئل عن قصصه التي تحولت إلى أفلام سينمائية، ومدى أمانة هذه الأفلام مع رواياته الأدبية، فقال “إنه غير مسؤول عمّا يفعله السينمائيون برواياته، فمن أراد رواياته فليقرأها، هذه هي حدود مسؤوليته لمنتجه الأدبي” .

هذا بعكس أديب كبير بحجم يوسف إدريس الذي كان يسجل غضبه الشديد إزاء أيّ تغيير لمنتجه الأدبي أو المسرحي. إن خلافه الشهير مع كرم مطاوع في مسرحية “الفرافير” أثارت لغطا كبيرا بالأوساط الثقافية والنقدية، كما أنه اختلف مع يوسف شاهين بفيلم “حدوته مصرية” المأخوذ عن قصة من قصصه القصيرة.

بوستر يجمع فيلم “رغبة متوحشة” بفيلم “الراعي والنساء” المأخوذ كل منهما عن المسرحية الإيطالية “جريمة في جزيرة الماعز”

 

المخرج والمؤلف.. خلاف مُتجذّر حول الأحقيّة

وهذا يعيدنا إلى الخلاف الشهير أيضا لكاتبنا الكبير وحيد حامد مع المخرج سعيد مرزوق، وذلك بفيلم “قصاقيص العشاق”، حيث وصل الأمر إلى مطالبة وحيد برفع اسمه من مواد دعاية الفيلم. وكذلك الخلاف الذي نشب بين الكاتب الكبير محسن زايد ومخرجنا الكبير يوسف شاهين حول كتابة فيلم “وداعا بونابرت”، وقد انسحب على إثره محسن زايد من المشروع برمته.

هناك أيضا الكاتب لينين الرملي الذي أصرّ على قطع تعاونه مع عادل إمام، وذلك بعد تعديلات أجراها عادل دون إخطاره، والمعروف عن لينين تحديدا اعتزازه الشديد بمنتجه الإبداعي، وأنه لا يسمح بالتغيير إلا بالرجوع إليه أولا. كذلك كان أسامة أنور عكاشة لا يسمح بالتغيير في منتجه الإبداعي في التلفزيون، وكان ذلك معروفا عن أسامة للقاصي والداني .

إن الخلاف بين المخرج والمؤلف يُفجّر قضية أكبر وأشمل، وهي مدى أمانة المخرج تجاه نص المؤلف في أي من حقول التعبير المختلفة.

تعددت وجهات النظر حول أحقية المخرج في إعداد المنتج النهائي بصياغته التي يراها، وبين أمانته تجاه النص، والرأي الذي كان يتزعمه المخرج الكبير سعد أردش يتلخص بعدم أحقيّة المخرج بعمل أيّ تشطيبات بعيدة عن النص المكتوب، فهو يرى أن المخرج مسؤول مسؤولية كاملة عن النص، وعن تقديمه بأمانة دون عصف به.

وكان معروفا عن الفنان الكبير نجيب الريحاني تمسكه الشديد والصارم بكل كلمة متضمنة بالنص، وكان يعاقب أي فرد من أفراد فرقته عندما يخرج عن النص، أو عندما يقوم بتبديل كلمة بأخرى.

 

“رغبة متوحشة”.. ضربة على رأس المتهم البريء

أما بالنسبة للفيلم الثاني “رغبة متوحشة”، فهو يقدّم ناهد التي تهرب من فضيحة زوجها المتهم بالجاسوسية، وتعيش بمنطقة صحراوية منعزلة مع ابنتها وأخت زوجها، حيث تتفاجأ السيدات الثلاث بقدوم الغريب الذي يُدعى سيّد غزال، ليُقّدم نفسه على أنه صديق زوجها بالزنزانة، ويُخبر العائلة عن كنز كان قد خبأه الزوج ببئر قريب، وكان ذلك البئر وكنزه هو ثمن حياته وخيانته.

إن وجود رجل غريب بين ثلاث نساء محرومات كان كفيلا بإشعال المنافسة، فاندفاع الشاب المحموم للوصول إلى الكنز تخطّى أيّ روح للأمانة، ولم يكن غريبا أن يُفاجأ سيّد بضربة على رأسه تفقده توازنه ويسقط في البئر ميتا.

كانت ناهد هي التي ضربته بعد أن أخبرتها ابنتها بمحاولة اعتدائه عليها، لكنها اعترفت لأمها فيما بعد ببراءته من هذا الاتهام، مما تسبب بندم الأم التي أحبت سيّد غزال.

إن أحداث الفيلم فقدت الكثير من بنائها بعد أن أصبح الرجل مثار إعجاب وحُبّ من قبل النساء الثلاث، خاصة بعد أن علمن بأنه رفض الاعتداء على البنت المراهقة، إلا أن ذلك كله قُدِّم بنوع من الضعف والركاكة.

بطلا فيلم “رغبة متوحشة” الفنان محمود حميدة والفنانة نادية الجندي التي كانت ملابسها باهظة الثمن ولا تعكس صحرواية المكان الذي تسكنه

 

علاقة حميمية مع الغريب.. ركاكة المشهد

في المسرحية يمارس الغريب العلاقة الحميمية معهن جميعا، لهذا جاءت الجريمة كفعل درامي مُبرر ومنطقي. في حين حاول سيناريو الفيلم أن يُقدّم الغريب كرجل كاوبوي (Cowboy) أمريكي، إلا أن تلك المحاولة كانت إسقاطا ساذجا على الغربي الآتي بأفكاره وسلوكه ليفرض قيمه على هذا المجتمع النائي. لكن هذا المعنى أو التفسير جاء مقحما ككثير من مشاهد الفيلم التي لا تدري من أين بدأت، ولا من أين تنتهي.

لعل سهير المرشدي هي الوحيدة التي أدت الدور بفهم ووعي، فمشهد نتف ساقيها يعكس صحراوية المكان الذي تقطن فيه وقسوته، على عكس نادية الجندي التي لم نشعر بصراعتها الداخلية ولا بصحراوية ملابسها، فكانت نادية بملابسها الباهظة -التي ظهرت بها- كأنها قادمة من أحد الأندية الفاخرة بلا معاناة ولا صراعات، هذا بالإضافة إلى سطحية الحدث وتفكك التتابع.

على أي حال إن الميزة الوحيدة في خلاف علي ووحيد هو ظهور فيلمين متزامنين عن المصدر نفسه، فذلك أتاح الفضول للمقارنة والاستمتاع بالتداول بها، فالمناقشة التي دارت في الإعلام والأوساط السينمائية والثقافية وقتها أثارت مسألة مهمة، ألا وهي الأمانة تجاه النص المكتوب، وإلى أي مدى يكون للمخرج الحق بالتغيير والتبديل بوصفه صاحب المنتج الإبداعي بصورته النهائية.