“سنان جان”.. من ينقذ أطفال داعش؟

محمد موسى

لا يَمرّ يوم دون أن يناقش الإعلام الهولندي أحوالهم، وموقف السياسيين في البلد من قضيتهم، ويُعيد طرح السؤال ذاته ما الذي يجب أن تفعله هولندا حيال مصيرهم، هل تتركهم في مكانهم حيث يعيشون اليوم، أم تُعيدهم إلى بلدهم؟ إنهم مقاتلو تنظيم الدولة “داعش” الهولنديون المسلمون الذين تركوا الحياة في هولندا قبل أعوام، وانضموا إلى تنظيم “داعش”.

لم يعد بعض هؤلاء المقاتلين يُمثل مشكلة للبلد الأوروبي، حيث قُتِل في معارك وتفجيرات انتحارية، بعضها مُوثق إعلاميا، والبعض الآخر ما زال يعيش في مخيمات الأسر في العراق وسوريا.

 

الشاب الهولندي ذو الأصول المغربية “سلطان بيرزل”، والذي نفّذ في العراق أكبر عملية انتحارية في تاريخ هولندا

 

عودة الأطفال.. طوق النجاة

ليس جلّ تركيز الإعلام الهولندي على الهولنديين البالغين الذين ولدوا أو شَبّوا في البلد الأوروبي، بل على أبناء هؤلاء المقاتلين الذين ولدوا من زواجات تمت في سوريا أو العراق، أثناء حكم “داعش” لمناطق واسعة من البلدين العربيين.

لا توجد إحصائيات دقيقة لعدد هؤلاء الأطفال، فهم غير مسجلين في السجلات الرسمية الهولندية، بيد أنهم سيكونون طوق النجاة الذي سيُعيد آباءهم وأُمّهاتهم إلى هولندا، وهو بالضبط ما يُخيف الكثير من الناس في البلد الأوروبي.

تُمَهّد عودة أطفال “داعش” لعودة آبائهم وأُمّهاتهم، وفق القانون الهولندي، ذلك أن القانون لا يُريد أن يفصل بين الأبناء الذين لم يتعدَّوا الثامنة عشرة من العمر ووالديهم.

بيد أن عودة البالغين هي قضية حسّاسة للغاية في هولندا، ومازال البلد مُنقسما إزاءها، حتى الأحزاب الهولندية اليسارية والليبرالية، والتي تميل لعودة البالغين مع أطفالهم، تواجه صعوبات جمّة في إقناع قواعدها الشعبية بخصوص موقفها، علينا أن لا ننسى أن الأحزاب الهولندية اليسارية، التي كانت قوية كثيرا في الماضي، تُعاني منذ سنوات من تغييرات المناخ العام في هولندا، من صعود للأحزاب اليمينية الشعبوية، إلى تبدلات في المشاعر العامة تجاه المسلمين والدين الإسلامي.

 

هولنديون ملتحقون بداعش في استراحة مُحارب بعد أن قطعوا الطريق من هولندا للقتال في سوريا

 

الدواعش الهولنديون.. الطريق إلى سوريا

بدأ تناول الإعلام الهولندي لقضية عودة مقاتلي “داعش” الهولنديين إلى البلد بعد أسابيع قليلة من هزيمة التنظيم في سوريا والعراق في عام 2019، بعد أن أصبح من الممكن التعرف على حقائق أكثر تخص عدد وهوية الهولنديين الذين التحقوا سرا بالتنظيم، إذ وفرت الحكومة العراقية والقوات الكردية السورية -التي تأسر الدواعش اليوم- معلومات عن هؤلاء المقاتلين.

قبل ذلك التاريخ، كانت الحكومة الهولندية تلتقط أخبار الهولنديين الذين التحقوا بالتنظيم الإرهابي عن طريق مصادرها الأمنية، وتشاهد مذهولة الأفلام التي كان بعضهم يصورها في العراق وسوريا.

في وقت مبكرا جدا من عمر أزمة مقاتلي “داعش” الهولنديين اهتم التلفزيون الهولندي الحكومي، بمصائر هؤلاء، والطريق الفعلي الذي قطعوه للوصول إلى سوريا، فأفرد مساحات في بثه لتحقيقات تسجيلية كانت تُعرض في نشرات الأخبار والبرامج التحليلية المُتخصصة، بعضها من تنفيذ مراسلي التلفزيون في منطقة الشرق الأوسط.

استندت بعض التقارير التلفزيونية على أفلام وشهادات تركها هولنديون في صفوف “داعش” على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، أو أرسلوها إلى عوائلهم وأصدقائهم، وتُظهر بعضهم يحمل الأسلحة، أو أثناء تدريبات عسكرية مع التنظيم، وأحيانا كان بعض الأفلام يتضمن مشاهد مُرعبة لهولنديين كانوا يودعون رفاقهم، قبل تنفيذ هجمات انتحارية في العراق وسوريا، أدت إلى مقتل عشرات المدنيين العراقيين والسوريين.

 

 

“أطفال الخليفة الضائعون”.. أب يبحث عن ابنته

خفتت أضواء التغطية الإعلامية على قضية مقاتلي داعش الهولنديين، بيد أن مراسلا تلفزيونيا واحدا سيُبقي قضية مقاتلي “داعش” السابقين في صدارة الاهتمامات الإعلامية الهولندية، وهو الهولندي ذو الأصول التركية “سنان جان”، الذي أنجز في السنوات العشر الأخيرة عدة برامج تسجيلية للتلفزيون الهولندي، بدأها ببرنامج ضخم عن ثورات “الربيع العربي”، وبعدها برامج عن صعود “داعش”، ومصير أبناء بلده الهولنديين من الذين التحقوا بالتنظيم الإرهابي، ويتتبع في برامجه ما حدث لهم، والآثار التي تركوها في الدول التي مرّوا بها وقاتلوا بها، وأطفالهم الضائعين اليوم في مخيمات الأسر في سوريا.

أنجز “جان” في العام الماضي، فيلما تسجيليا خاصا عن أبناء “داعش” أسماه “أطفال الخليفة الضائعون” (عُرض على شاشة التلفزيون الحكومي في العام الماضي). في الفيلم يسافر المراسل التلفزيوني مع “حسين”، والد إحدى الهولنديات ذوات الأصول المغربية إلى سوريا، للبحث عن ابنته وأولادها الذين ولدوا في مناطق سيطرة داعش.

يحاول “جان” مع الأب تخيل الطريق الذي قطعته الهولندية المسلمة من هولندا إلى سوريا عبر تركيا، للالتحاق بزوجها الهولندي، الذي كان قد انضم في وقت سابق إلى “داعش”.

بعد أن يصل الفيلم إلى الرقة، حيث كانت تعيش الابنة مع أبناءها الذين ولدوا في المدينة السورية، يسعى المُراسل الهولندي إلى تعقب آثار العائلة، ويتخيل الظروف التي عاشت فيها، بخاصة أنها مرّت بمأساة كبيرة، فشقيق الفتاة الذي سافر برفقة أُمّه إلى المنطقة للانضمام لأختهم، قُتل في تفجير صاروخ في الرقة، ولا يُعرف لليوم مصير الأُمّ التي ضاعت أخبارها، كما أن الابنة التي نجحت في الاتصال بوالدها عبر الإنترنت، تعيش اليوم مسجونة في معسكر يُشرف عليه الأكراد السوريون.

 

الأب الهولندي ذو الأصول المغربية “حسين” يلتقي مع حفيده وابنته التي التحقت بداعش وتعيش أسيرة عند أكراد سوريا

 

فظاعات ضد المدنيين.. الجرائم المنسيّة

لا يُغفِل المخرج “سنان جان” الجانب الآخر من انضمام هولنديين إلى تنظيم “داعش”، فيُركز على الدور المُحتمل لهم في كل الفظاعات التي حدثت لمدنيين عراقيين وسوريين أثناء حكم التنظيم، ويُذكّر دائما بما حدث للعراقيات الإيزيديات، وكيف أن مقاتلات من أوروبا لعبن دورا مهما في زيادة المظالم على أولئك النسوة، عبر حراسة الأسيرات الإيزيديات وضربهن.

بيد أن المراسل الهولندي “جان” في الفيلم وفي اللقاءات التي أجراها الإعلام معه، كان من أشد المناصرين لعودة الأطفال الهولنديين الذين ولدوا في مناطق سيطرة الخليفة السابقة، فهؤلاء الأطفال لم يرتكبوا جرما حتى يعاقبوا بهذا الشكل.

يعثر فيلم “أطفال الخليفة الضائعون” في النهاية على الفتاة التي كان يبحث عنها، ويجمعها بوالدها. تبدي الفتاة ندمها على سفرها لدولة “الخلافة الداعشية”، لكنها تصر على أنها لم ترتكب أيّ جناية تستحق العقاب في هولندا؛ البلد الذي تريد أن ترجع إليه مع أولادها.

لم تعد الفتاة بعدُ إلى هولندا، وكذلك أبناؤها، ولا يزال والدها يحاول عبر إطلالاته التلفزيونية والإعلامية في هولندا الضغط على الحكومة الهولندية من أجل السماح بعودة عائلته، بل إنه أصبح يُطالب بعودة أحفاده فقط دون أُمّهم، لأن أوضاع المخيم الذي يعيشون فيه لم تعد مُحتملة، بل إنها خطرة جدا على سلامة الأطفال، كما تحدث في آخر إطلالة له على الإعلام الهولندي.

 

 

“دي لوكروب”.. شهادات للتاريخ

عاد المخرج “سنان جان” في برنامجه التسجيلي الجديد “دي لوكروب” الذي يعرض حاليا على التلفزيون الحكومي الهولندي؛ إلى قضية المقاتلين الهولنديين الذين انضموا إلى تنظيمات إرهابية في السنوات الأخيرة.

لن يكون البرنامج الجديد بالكامل عن الهزة التي أحدثها “تنظيم الدولة الإسلامية” عند شباب مسلمين في هولندا، وإنما سيستعيد تاريخ جميع الحركات الإسلامية المحظورة في هولندا، ويتوقف عند أبرز المحطات لهذه الحركات.

يُقابل البرنامج الجديد صاحب مدرسة للغطس في مدينة “أيندهوفن” الهولندية، الذي درب دون أن يعرف مجموعة من الشباب العربي المُهاجر إلى هولندا، حيث كانوا يعدون لمجموعة من العمليات الإرهابية تنطلق من البحر.

حدث هذا كله قبل الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001، عندما كان “العالم” مُختلفا، ولم يكن الخوف من الإرهاب والتنظيمات الإسلامية المحظورة قد وصل إلى عقول وقلوب الأوروبيين.

تسترجع الحلقة الأولى والثانية من برنامج “دي لوكروب” تعامل الحكومة الهولندية مع المنظمات الإسلامية السريّة في هولندا، والعلاقات التي نشأت بين شباب مسلمين من الذين كانوا يرتادون جوامع تستقطب دُعاة ذوي خطابات متطرفة.

كما ينجح البرنامج في إقناع أعضاء سابقين في منظمات إرهابية بالحديث معه، ومنهم من كان رفيقا للهولندي ذي الأصول المغربية محمد بويري الذي نفذ في عام 2004 عملية قتل المخرج الهولندي المعروف “تيو فان خوخ”، لانتقاداته للدين الإسلامي في إطلالاته الإعلامية، تلك الحادثة التي كانت غريبة تماما عن تقاليد الحياة في هولندا، ووضعت المسلمين والإسلام السياسي في صدارة الأجندة السياسية للبلد الأوروبي.

بينما تهتم الحلقة الثالثة من البرنامج بالهولنديين الذين التحقوا بداعش، حيث سافر “سنان جان” مرة أخرى إلى المنطقة للبحث في آثار هؤلاء في المدن العربية التي مروا بها وعاشوا فيها.

في الرقة حيث عاش أغلب مقاتلي “داعش” الهولنديين، حيث يقدر عددهم بـ300 مقاتل، يفشل المراسل الهولندي في العثور على أيّ آثار لهم. “كان الأوروبيون الدواعش يعيشون بشكل مُنفصل تماما عنا نحن السوريين”؛ يخبر شابٌ سوري “جان” الذي كان يسأل سوريين في الشارع إذا كانوا التقوا أو تقاطعت حياتهم حينها مع دواعش هولنديين.

 

 

أحب الرقة.. آثار الفظائع تصرخ بالعابرين

ينتهز البرنامج التسجيلي فرصة وجوده في مدينة الرقة السورية ليحقق في أحوال المدينة اليوم، فيذهب إلى الساحة الشهيرة في وسط المدينة، والتي كان أفراد “داعش” يعلقون رؤوس المعدومين على حديدها.

بدّلت بلدية المدينة حديد الساحة، بيدَ “أن الواقف هنا في الساحة لا بد أن يشعر نفسيا بجسامة ما شهدته من فظائع تصعب على الوصف”؛ يتحدث “جان” للكاميرا، وهو الذي زار المدينة السورية بعد أشهر من تحريرها من داعش. وفي ميدان آخر في المدينة وضعت البلدية نصبا كتب عليه باللغة الإنجليزية: “أحب الرقة”، ولا تزال آثار البنايات التي دمرها القتال في خلفية هذا النصب.

تأخذ الرحلة التسجيلية لبرنامج “دي لوكروب” المراسل الهولندي إلى العاصمة العراقية بغداد، حيث يتعقب الآثار الأخيرة لشاب هولندي من أصول مغربية نفذ عملية انتحارية في بغداد، وقد حظيت قصة هذا الشاب الهولندي الذي لم يتعدَّ التاسعة عشرة من العمر باهتمام إعلامي كبير في هولندا وقتها، كما ترك هذا الشاب فيلما صُوّر في العراق قبل العملية.

يَصل “جان” إلى مكان العملية الانتحارية التي نفذها الهولندي الشاب في بغداد، وأدت إلى مقتل 25 مدنيا عراقيا، وتعتبر أكبر عملية انتحارية نفذها هولندي في تاريخ البلد. يتساءل “جان” من مكان العملية الانتحارية عن الأسباب التي دفعت شابا هولنديا كان يدرس الفندقة في مدينة “ماسترخت” في جنوب هولندا، إلى أن يأخذ هذه الانعطافة الفاجعة في حياته.

 

سنان يُناقش أحد الهولنديين الذين التحقوا بداعش، علما بأنه يعيش اليوم في مخيم للأسرى في سوريا

 

حوارات حامية الوطيس.. شهادات حذرة

يقابل “جان” ثلاثة دواعش هولنديين، منهم اثنان لا يزالان في معسكرات الحجز الكردية في سوريا، بينما الآخر رهين الإقامة الجبرية في تركيا التي وصلها من سوريا.

أجمعت شهادات الشخصيات الثلاث -ومن بينهم امرأة هولندية دخلت الدين الإسلامي، والتحقت بعدها بتنظيم داعش- على سجلهم النظيف أثناء فترة بقائهم في سوريا والعراق، بل ادعى أحدهم أنه بدأ فرنا لصناعة الخبز الفرنسي في الرقة.

وزعمت المرأة التي تزوجت رجلا من التنظيم، أن زوجها لم يكن يتركها تغادر البيت أبدا، لذلك كانت بعيدة عن كل الأهوال التي عاشتها الرقة، المدينة السورية التي عاشت فيها.

لم تختلف شهادة الشخصية الثالثة في دفع أيّ تهم مُحتملة عنها، حيث ادعى الشاب أنه لم يشارك في أيّ معارك، بل كان يعيش على المبلغ الزهيد الذي كان يحصل عليه من التنظيم طيلة السنوات الأربع التي قضاها في سوريا.

أخضع “سنان جان” الهولنديين الثلاثة لاستجواب قاس جدا دون أن يفقد البرنامج مهنيته أو حياديته، فقد ناقشهم في كل جزئية صغيرة من شهاداتهم التي تبرؤوا فيها من أي عنف حصل أثناء حكم داعش، على الرغم من أن بعضهم ظهر في صور فوتوغرافية على مواقع التواصل الاجتماعي وهو يحمل أسلحة خفيفة أثناء وجوده في سوريا والعراق.

ينتظر العائدون من سوريا مُحاكمات مُعقدة، وهي الأسباب التي جعلت الحذر الشديد يغلب على شهادات الشخصيات للبرنامج، فهم يعرفون جيدا صعوبة التحقق من الفترة التي قضوها في دولة داعش، وبغياب الأدلة التي تثبت تورطهم المباشر في أعمال عنف يُمكن أن ينفذوا بجلدهم من أيّ مُحاسبة أو عقاب.

 

المراسل الهولندي “سنان جان” وهو يتابع عمليات استخراج جثث قتلتهم ودفنتهم داعش في أراضي قريبة من الرقة

 

جثة طفل بخرقة بيضاء.. الصورة تتحدث

يُنهي “سنان جان” برنامجه التحقيقي القوي بمشاهد عاطفية كانت صعبة جدا على المشاهدة. يُرافق المراسل الهولندي في هذه المشاهد أعضاء في جمعية مدنية سورية تبحث يوميا عن جثث سوريين وغيرهم قتلهم تنظيم داعش في سوريا ودفنهم في مقابر جماعية مجهولة.

يُصور البرنامج في دقائق طويلة التفاصيل الدقيقة لاستخراج جثث من أراض زراعية قريبة من الرقة، “هذه الجثة صغيرة الحجم تعود على الأرجح لطفل”؛ يتحدث “جان” بتأثر شديد للكاميرا وهو يشير إلى جثة ملفوفة بخرقة بيضاء.

“هذا يشكّل جزءا بسيطا مما حصل، علينا أن لا ننسى أبدا الضحايا”؛ يُكمل “جان” حديثه للكاميرا وهي تبتعد عن سيارة الحمل الصغيرة التي وضعت فيها الجثث، لتصور بمشهد واسع الحقل الزراعي الذي بدا هادئا كثيرا.