“وداع طويل”.. يوم يغطي ضبابُ الخرف مَنجمَ الذكريات البعيدة

عدنان حسين أحمد

ثمّة أفلام سلسة تشبه المياه المتدفقة من الينابيع النائية التي لا تُحدث أيّ صخب أو ضجيج، لكن التماع جداولها الفضيّة تحت خيوط الشمس يخطف الأبصار، ويحرّك المشاعر الكامنة في النفس البشرية التي تتفتّح في حضرة الجمال المتناسق للطبيعة في لحظات توهجها المتفرِّد في الأشهر الربيعية الثلاثة.

هكذا يُبهِرنا فيلم “وداع طويل” للمخرج الياباني “ريوتا ناكانو” رغم قسوة فكرته الرئيسية التي ترتكز على مرض الزهايمر، أو “الخَرَف الكَهْلي” كما يصفه الأطباء والمختصون، حيث تختفي الذكريات شيئا فشيئا، ولا يبقى منها سوى نُتف متناهية الصِغر تظهر على شكل إيماضات خاطفة، تُوحي بأنّ المريض لا يزال يعرف البعض من أهله وذويه الذين يشرئبّون من شريط ذاكرته المعطوبة، ثم يتلاشون بعد لحظات قصيرة.

يُصنِّف النقاد هذا الفيلم الروائي بأنه فيلم عائلي ودرامي، وهو تصنيف دقيق، لكن دقّته ستكتمل لو صنّفناه بأنه فيلم نفسي أيضا، لأن القصة السينمائية تدرس الجوانب النفسية لمجمل الشخصيات الرئيسية والمؤازِرة، وتداعيات هذا المرض على الأبناء والأحفاد.

 

من طوكيو إلى كاليفورنيا.. رحلة الجغرافيا والثقافة والذات

يمتدّ النسق البصري للفيلم بخط زمني مستقيم يبدأ من خريف 2007، ويمرّ بصيف 2009 وربيع 2011، وينتهي بشتاء 2013، أي أن الزمن الواقعي يستغرق سبع سنوات، مع أخذنا بعين الاعتبار بعض الارتدادات الزمنية التي تحدث لبعض شخصيات هذه العائلة التي كبرت وتفرّقت بها السبل. أما المكان الروائي فيمتد من طوكيو والمناطق المجاورة لها، ويصل إلى مدينة كاليفورنيا حيث تعيش ماري مع زوجها المتأمرك “شَين”، وابنهما الوحيد “تاكاشي”.

مع أنّ الفيلم يرصد السيرة الحياتية لـ”هيغاشي” الذي جسّد دوره الفنان المعروف “تسوتومو يامازاكي”، فإن الشخصيات الأخرى بمن فيها زوجته “يوكو” (الممثلة “تشيكو ماتسوبارا”) قد أخذت حصصا متساوية من الاهتمام، ولم يُهمل كاتبا القصة “ريوتا ناكانو” و”توشيو أونو” أي شخصية أو ينتقصا من حقها.

لا بدّ من الإشارة إلى أن هذا الفيلم مُقتَبس من رواية تحمل العنوان ذاته للروائية اليابانية الشهيرة “كيوكو ناكاجيما”، مقتنصة العديد من الجوائز عن رواياتها وكتبها الأخرى التي اعتمدت فيها على تجاربها الشخصية، وقد وصف أحد مترجمي رواياتها إلى الإنجليزية بأنها “تكتب نثرا بسيطا مُخادعا”، لكنه نسي جرأتها وصراحتها في كتابة النصوص الروائية التي لقيت رواجا كبيرا داخل اليابان وخارجه.

“هيغاشي” يُمارس شغفه فيما يخص نظام الكتابة في اللغة اليابانية، والذي يُسمّى “الكانجي”

 

“هيغاشي” الفصيح.. عبقرية لغوية وهشاشة ذهنية

تمتلك شخصية “هيغاشي” الإشكالية عمقا كبيرا أخرَجها من إطار الشخصية العامة المسطّحة إلى إطار الشخصية المستديرة التي تنطوي على طبقات متعددة من الوعي الخلاق، فهو معلّم تدرّج في التعليم حتى أصبح مديرا لمدرسة متوسطة، وظلّ كذلك حتى بلغ سنّ السبعين، حيث أحيل إلى التقاعد، لكنه على حين غرة يُخبر ابنتيه “فومي” و”ماري” بأنه مُصاب بمرض الزهايمر، ويطلب اللقاء بهما لأمور تتعلق بالجوانب المادية، أما زوجته فقد انتبهت مبكرا إلى أعراض هذا المرض، منذ أن بدأ ينسى العديد من الأشياء، مثل أسماء أفراد العائلة أو الأصدقاء أو الأماكن التي يتردد عليها.

وما يميز “هيغاشي” هو شغفه بقراءة الكتب والروايات واهتمامه باللغة اليابانية وخاصة “الكانجي” (نظام كتابة في اللغة اليابانية) التي وفدت إليهم من الصين برموزها الصورية المعقدة، وكانت صفة الذكاء ملازمة له، فلا غرابة أن يطلبوا منه تأبين هذا الصديق المتوفي، أو ذاك لفصاحته وطلاقة لسانه، كما كانوا يطلبون منه كتابة بعض الكلمات الكانجية الصعبة أو شرح معانيها، وسط انشغالاتهم بوسائل التواصل الحديثة التي سببت العزلة والقطيعة بين أفراد الأسرة الواحدة.

صورة تجمع هيغاشي بزوجته يوكو بالطائرة في طريقهما إلى مسقط رأسه

 

“كي لا تسقط دموعنا”.. تبعية المرأة اليابانية

تركِّز الفكرة الفرعية للفيلم على القيم الاجتماعية في اليابان، فـ”يوكو” زوجة “هيغاشي” تهتم بكل صغيرة وكبيرة، فهي تذهب إلى السوق وتُعدّ الطعام وتنظّف البيت وتغسل الملابس، وتنبّه زوجها على الاستحمام، وما إلى ذلك من أمور منزلية، لكن إصابته بمرض الزهايمر قد أفسدَ عليها هذا الاهتمام، فما إن تغفل عنه لحظة واحدة حتى تجده قد خرج إلى الجيران أو ضفة النهر أو إلى المتنزّه العام، فتستنفر الأهل والأقرباء والأصدقاء كي يبحثوا عنه ويُعيدوه إلى منزله الذي لم يتذكّره أبدا، فالوقائع والأحداث والذكريات تتلاشى من شريط ذاكرته تباعا، كما تضعف قدرته على تحديد الأماكن التي يوجد فيها، فبينما هو موجود في منزله يقول أريد العودة إلى البيت.

لقد يئست “يوكو” من شفائه، ولا بدّ أن تكرّس كل حياتها من أجله، وهذا ما كانت تفعله قبل إصابته بهذا المرض اللعين. تُرى، كيف ستسير الأمور إذا تعرّضت هي إلى عارض صحي يعيقها عن رعاية زوجها؟

لا شك في أنّ المتلقّي يخرج من هذا الفيلم بنتيجة تؤكد تبعية المرأة اليابانية للرجل، فهو يعمل مديرا لمدرسة متوسطة، بينما تظل هي حبيسة البيت. وحينما سألتْها ابنتها “ماري” إن كانت قد سئمت من حياتها الزوجية مع أبيها اكتفت بالقول “إنه عنيد، ويفضّل العمل على قضاء الوقت مع العائلة”. وعلى الرغم من أهمية العمل في حياتنا اليومية فإنّ الأسرة لها متطلبات أيضا، ولا بدّ من تخصيص أوقات محددة لها.

تبدو الأم في هذا الفيلم مكابرة بعض الشيء، تعضُّ على ألمها الشخصي وانكساراتها التي حدثت طيلة سنوات الزواج، وربما يكون ترديدها لكلمات هذه الأغنية هو خير دليل على قدرتها الفائقة في تحمّل الألم، حيث تقول: لننظر إلى الأعلى عندما نمشي لكي لا تسقط دموعنا، أتذكّر تلك الأيام الربيعية، أمّا الليلة فأنا بمفردي تماما.

الأم يوكو وابنتها المُهاجرة إلى أمريكا ماري تُقلّبان صور العائلة التذكارية

 

سمكة الشمال.. بين المهجر والوطن الأم

رُزقت “يوكو” بابنتين، إحداهما “ماري” التي أصبحت ربة بيت وتزوجت من الباحث العلمي “شين” وأنجبت له ولدا يُدعى “تاكاشي”، لكنهما قرّرا الهجرة إلى الولايات المتحدة والاستقرار في كاليفورنيا، حيث يعمل الأب في مختبر علمي يتابع فيه بحثا علميا عن سمكة صغيرة تُدعى “ماميشوج” تعيش في الشمال الأمريكي، وتمتلك قدرة كبيرة على التكيّف في المحيط الجديد الذي تُنقَل إليه، فهي تعيش في المياه المالحة، لكنها يمكن أن تتقبل الحياة في المياه العذبة، وتستطيع أن تتحمّل درجات الحرارة العالية والتلوّث الكيميائي، لأن الهرمونات التي يفرزها المخ يجعلها قادرة على التآلف والانسجام مع البيئة المائية الجديدة.

يتشظى الفيلم إلى موضوعات فرعية لا تجد ضيرا في معالجة موضوع الهجرة والتأسيس لوطن بديل، شرط أن لا يفرّط المُهاجر الياباني بوطنه الأم، لكننا نكتشف أنّ الأب “شَين” قد أصبح أمريكيا تماما واندمج مع المجتمع الأمريكي، وصار يُشاركهم عاداتهم وتقاليدهم ورؤيتهم للحياة، أما الأم “ماري” فلم تستطع أن تتعلّم اللغة الإنجليزية، باستثناء كلمات وعبارات قليلة جدا لا تساعدها على التواصل مع الآخرين، بل إنها تشجّع ابنها الوحيد “تاكاشي” على الحديث باللغة اليابانية في المنزل.

صورة تجمع ثلاثة أجيال لعائلة هيغاشي، حيث الأجداد وأبناؤهم وأحفادهم

 

عزلة “ماري”.. تلاشي ملامح اليابان عبر الأجيال

أشرنا سابقا بأنّ قصة الفيلم تتمحور على ثلاثة أجيال، وهم الأجداد وأبناؤهم وأحفادهم، وإذا كان الأجداد قد تمسكّوا بمنظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية، فإن الأبناء قد تراخوا قليلا، إذ سمح “شين” لولده أن يندمج بالمجتمع الأمريكي، ويقيم علاقة عاطفية بسيطة مع صديقته الأمريكية “إليزابيث”.

لكن هذا الصبي الذي يمثِّل جيل الأحفاد سوف يقطع صلته بالمجتمع الياباني، رغم ضغوطات الأم التي لا تُتقن سوى الطهي وتقديم بعض الوجبات اليابانية اللذيذة للأصدقاء الأمريكيين الذين يزورونهم في المنزل.

تُرى هل ستصمد الأم وتتمسك بنظرتها التقليدية إلى الحياة في المجتمع الأمريكي، طالما أنها قبِلت بالهجرة ووافقت على اشتراطاتها، أم ستنجرف مثل زوجها وتقبل بنمط الحياة الجديدة على علاّتها؟

البنت الصغرى في عائلة “هيغاشي” فومي، حيث تعمل بائعة لوجبات الطعام في الأماكن الشعبية

 

“فومي”.. تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

تعتقد “فومي” البنت الصغرى في عائلة “هيغاشي” أنها لم تنجح في حياتها الشخصية، ولم تُصبح معلّمة مثل أبيها، أو تتزوج مثل شقيقتها الكبرى، وإنما أصبحت بائعة لوجبات الطعام التي تبرع في طهيها وبيعها في الأماكن الشعبية العامة.

تُعيدنا قصة الفيلم إلى سنوات دراستها المتوسطة والدورة التي أخذتها لتعلّم العزف على آلة الكلارنيت مع بعض التلاميذ، من بينهم “ميتشيكو” الذي عثر على والدها التائه في المتنزّه، فتعرّفت عليه من جديد ليخبرها بأنه قد تزوّج وانفصل عن زوجته بعد أن أنجبت له طفلة جميلة، فظلّ موزعا بين طفلته وطليقته.

وحينما تنتقل “فومي” للعمل في أحد المطاعم الذي تديره سيدة كبيرة، تسألها عن إمكانية قبولها الزواج برجل مطلّق، مقابل أن تتنازل لها عن هذا المطعم وتُعيد تأثيثه بالطريقة التي تراها مناسبة لكل الزبائن من مختلف الأجيال.

لا تسير الأمور على هوى “فومي” حينما تسترق النظر إلى إحدى اللقاءات التي تجمع بين “ميتشيكو” وطليقته، كي يرى ابنته الوحيدة التي يشتاق إليها كثيرا، الأمر الذي يدفعها إلى التخلّي عن فكرة الارتباط بهذا الصديق القديم، وتكريس حياتها القادمة لوالديها المريضين، خاصة وأن الأم قد أُصيبت بمرض في عينها اليسرى بسبب انفصال في الشبكية، وتحتاج إلى جراحة في القريب العاجل، وإذا بقيت على ما هي عليه فسوف تفقد بصرها، لكنها تستمع إلى إرشادات الطبيب الذي يُذلِّل مخاوفها، ويجري لها عملية ناجحة يجعلها تُبصر بعينها المعطوبة من جديد.

هيغاشي ذهب بالقطار إلى مدينة الملاهي التي كان يصطحب إليها ابنتيه الصغيرتين

 

ابتسامة الأب الضائع.. نقش في الذاكرة البصرية

يضيع الأب عدة مرات، فيعيده الجيران والأصدقاء والأهل، لكن اللمسات الإنسانية تتجلى في المرة الثالثة التي يذهب فيها بالقطار إلى مدينة الملاهي التي كان يصطحب إليها ابنتيه الصغيرتين، ويمتطي معهما الجياد الخشبية التي تدور في حلبة دائرية تحقق لهما متعة من نوع خاص.

أما الآن فهو يدور لوحده بعد أن أشبع رغبة طفلة صغيرة حضرت إلى المكان من دون شخص بالغ، ثم بقي يدور لوحده إلى أن لمح زوجته وابنتيه، فابتسم لهما مُوحيا بأنه يتذكّرهم جيدا، ولم يتلاشوا من منجم ذاكرته.

وربما يكون مَشهد الأم والابنتين المتقافزتين فرحا هو من أجمل المَشاهد السينمائية في هذه الفيلم الروائي المُثير للمشاعر والأحاسيس الداخلية، ويصعب نسيانه بسهولة لأنه يُنقَش في الذاكرة البصرية للمُشاهدين.

عائلة هيغاشي تجتمع على مائدة الطعام وترتدي القبعات المخروطية استكمالا لمراسيم احتفال عيد ميلاده السبعين

 

على حافة الهاوية.. أعراض الزهايمر

يختصر الفيلم قصة الزهايمر حينما يتحدث الطبيب في مناسبات عدة عن أعراض هذا المرض الذي يبدأ بضمور خلايا المخ السليمة فتتلاشى الذكريات تباعا، ثم يعاني من مشاكل في التنفس، وصعوبة في مضغ الطعام وابتلاعه، وعدم السيطرة على التغوّط، كما يعاني من التهاب الرئة وفقدان الوعي، إضافة إلى أعراض أخرى مثل المزاج المتقلب والعناد المتزايد والخوف والانطواء الاجتماعي والسلوك العدواني، حيث رأينا “هيغاشي” أكثر من مرة وهو يصرخ أو يقول كلاما مُبهما، أو يسقط في دائرة الانفعال.

تقرر العائلة أن تحتفل بعيد ميلاد “هيغاشي” السبعين وهو راقد على سريره في المستشفى، بعد أن جاءت ابنته “ماري” المقيمة في كاليفورنيا بصحبة ابنها “تاكاشي” الذي لم يكن يرغب في هذه الزيارة لأسباب تتعلق بخشيته من فقدان صديقته الأمريكية “إليزابيث”.

وحينما يجتمعون الأربعة معا يرتدون القبعات المخروطية، ويواصلون استكمال مراسيم الاحتفال، رغم أنّ الطبيب قد أخبرهم بضرورة ارتداء المريض جهاز التنفس الاصطناعي طالما هو على قيد الحياة، فقد تفاقمت حالته الصحية، وأصبح عُرضة لمخاطر كثيرة لا يمكن التنبؤ بها.

لا يريد المخرجُ القولَ بأن المريض يقف على حافة الهاوية، لكن احتمالية السقوط واردة في أي لحظة قادمة.

“تاكاشي” الحفيد الوحيد للجد “هيغاشي” في إحدى الجلسات، فالجد لا يتذكر حفيده

 

ومضات مُنبثقة من المجهول.. تحفة سينمائية

يبدو أنّ المُخرج “ريوتا ناكانو” وكاتب السيناريو “توشيو أونو” قد تناولا موضوعات كثيرة في هذا الفيلم الروائي الذي يرتقي إلى مستوى التحفة السينمائية، والتي نتذكّر منها لقطات ومشاهد كثيرة، لكن المخرج أصرّ على رسم النهاية بطريقة فنية لافتة للنظر، وذلك حينما جعل أحد المعلمين في المدرسة يلتقي بـ”تاكاشي” ويتجاذب معه أطراف الحديث، حيث طلب منه أن يخبره شيئا عن نفسه أو عن المدرسة أو حتى عن الفطور الذي تناوله هذا الصباح.

عندها فقط نعلم بأن الجدّ “هيغاشي” قد وافته المنيّة بعد سبع سنوات من هذا المرض العسير الذي ترك بصماته على أفراد الأسرة كلها، ولم ينجُ منها حتى هذا الحفيد الوحيد الذي يحلم بالحب والحياة السعيدة في المهجر الذي اختاره والداه، فيخبره المعلّم بأن الخَرَف الكَهْلي يُدعى بـ”الوداع الطويل”. ذلك لأنّ مَنجم الذكريات لا يَفنى تماما، ولا بدّ أن يسترجع المريض بعض الذكريات الحميمة على شكل ومضات خاطفة، كأنها تنبثق من المجهول، أو تظهر من العدم الذي لا نعرف سرّه الغامض.