“مصنع أمريكي”.. عبودية في أمريكا بصناعة صينية

قيس قاسم

قصة الفيلم الوثائقي “مصنع أمريكي” بدأت عام 2014، وذلك عندما قرّر رجل الأعمال الصيني “تشاو ديوانغ” إقامة مشروع جديد لصناعة زجاج السيارات في مدينة دايتون الأمريكية في نفس الموقع القديم لمصنع كان تابعا لشركة “جنرال موتورز” لصناعة السيارات، الذي توقّف العمل به عام 2008، فإغلاقه زاد كثيرا من نسبة البطالة في المدينة، ولهذا أفرحت أخبار افتتاحه العمال القدامى الذين وجدوا فيه فرصة لهم للعودة ثانية للعمل، وإنهاء حالة البطالة التي أثرت سلبا على حياتهم.

كان المخرجان “ستيفن بوغنار” و”جوليا ريختر” من المُطّلعين على تفاصيل تلك القضية، وقاما عام 2009 بإنجاز فيلم قصير عنها حمل عنوان “الشاحنة الأخيرة: إغلاق مصنع جنرال موتورز”، وقد رُشِح لجودته لنيل جوائز الأوسكار.

بهذا المعنى يُعدّ الوثائقي الطويل “مصنع أمريكي” -الحائز على عديد الجوائز والمرشح أيضا لنيل الأوسكار- بشكل ما استمرارا لذلك الفيلم القصير وتكملة لمسار قصة شديدة الصلة بحياة العمال، ليس في دايتون فحسب، بل في الصين وبقية العالم، وذلك لمقاربتها أحوال وظروف عمل الملايين من البشر في عصر العولمة والانفتاح الرأسمالي الجديد العابر للقارات.

 

مصانع أمريكية متوقفة.. إنقاذ صيني برائحة الغزو

منذ نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة توجهت الشركات الصينية للاستثمار المباشر داخل الولايات المتحدة الأمريكية، ووجدت في مصانعها المُغلقة ضالتها. حيث وجدت فيها مدخلا سهلا ورخيصا يكفيها عناء البحث عن المكان والأيدي العاملة، وهذا ما جرى بالضبط  للـ”المصنع الأمريكي” في ولاية أوهايو.

فبعد إغلاقه وتسريحه حوالي 10 آلاف عامل؛ جاء رجل الأعمال الصيني واشتراه بثمن بخس، فأقام فوقه شركة لإنتاج زجاج السيارات، منحها نفس اسم معمله في الصين؛ “فوياو”، وأضاف له كلمتي “الزجاج الأمريكي”، ليؤكد على وطنية إنتاجه، مع أنه قرر ومنذ البداية أن يُشغّل عمالا صينيين فيه، إلى جانب الأمريكيين.

أحلام وآمال.. طموح العامل البسيط

في المقاطع الأولى من الوثائقي الأمريكي طغت الإيجابية، فالعمال من الطرفين متفائلون، ويبدو الفرح على مُحيّاهم، والأمل عندهم كبير في تحسين أحوالهم. الأمريكيون العاطلون عن العمل يتمنون نسيان الأيام الصعبة التي عاشوا فيها ظروفا معيشية قاسية، والصينيون يحلمون بجمع أكبر قدر من المال ليساعدوا به عوائلهم التي ظلّت بعيدة عنهم.

كان كل شيء يجري بسلاسة وبإشراف مديره الذي كان يتدخل بكل صغيرة وكبيرة وسط دهشة المشرفين والإدرايين الأمريكيين الذين لم يفهموا تدخله المباشر، وهذه كانت أولى علامات الاختلاف بين الطرفين، وستزداد وضوحا أكثر في مسار الوثائقي، الذي ضمته منصة “نتفليكس” العالمية إلى مجموعة عروضها السينمائية.

رجل الأعمال الصيني “تشاو ديوانغ” يقص الشريط الأحمر لحظة افتتاح مصنع زجاج السيارات

 

تجاذبات داخل المصنع.. صراع ثقافي

في الافتتاح أضاف مسؤول البلدية في كلمته تعقيدا جديدا، وذلك عندما أشار إلى ضرورة مراعاة الشركة الجديدة للقوانين الأمريكية، باعتبارها تعمل على أراضيها وتخضع لشروطها، وكان من بين ما ذكره الحاجة إلى وجود ممثلين لنقابات العمال في المصنع.

ذلك الطلب سيؤجج لاحقا خلافات كبيرة بين الطرفين، ويمنح الوثائقي ديناميكية أكثر، ومع ذلك حرص صانعاه على الحفاظ على سلاسته وتنويع مساراته وقصصه الجانبية، بما يضمن نقل المشهد كاملا، ووضع الخلافات الناشئة بين الطرفين في إطارها الصحيح، وعدم حصرها بالاختلاف الثقافي.

كانت غايتهما الحقيقة تجسيد الواقع، ونقل أحوال العمال في البلدين المتصارعين على النفوذ والسيطرة الاقتصادية على الشاشة بكل صدق، مع مراعاة الأمانة في نقل الحساسيات الاجتماعية والثقافية، والنظرة المتباينة للعمل بين العمال أنفسهم.

عداء داخلي وودٌّ خارجي.. أبعاد علاقات العمال

يرى الصينيون أن العامل الأمريكي بطيء وطاقته الإنتاجية قليلة، وأنه مُحبّ للمديح والثناء، أما الأمريكيون فهم لا يفهمون مواظبة الصيني وتكريسه كل وقته وطاقته لخدمة صاحب المصنع، حيث يعملون ساعات طوالا مقابل أجور قليلة، ولا يهتمون كثيرا بالنوعية، فالكمّ عندهم مهم لأن هذا ما يريده منهم أصحاب العمل.

خلال الممارسة العملية وبعد أشهر ظهرت خلافات وتعمقت، لكن العلاقة بين العمال خارج المصنع أخذت بُعدا آخر، فكثير من أبناء البلد أقاموا علاقات صداقة مع زوّارهم، حيث فتحوا لهم بيوتهم واستمعوا إلى شكواهم وأحزانهم، وتعلموا منهم الصبر والقدرة على التحمل.

ينقل الوثائقي تلك العلاقات الإنسانية عبر مقاطع وقصص جانبية منفصلة ترتبط بالمسار العام داخل المصنع، حين يعودون إليه وينكبّون على تنفيذ تعليمات الإدارة الجديدة.

عاملة أمريكية في مصنع زجاج السيارات، حيث تناقصت قيمة ساعة العمل من 29 دولارا إلى 12

 

تناقص الأجور والحقوق.. ذكريات الماضي الغابر

ظروف العمل داخل المصنع الجديد لا تشبه الظروف التي كان يعيشها العامل الأمريكي مع الشركات المحلية، فاليوم أغلبيتهم يتحسرون عليها. يبرز ذلك بوضوح في تباين الأجور والأمان الصناعي، فقيمة ساعة عملهم تقلصت من 29 دولارا للساعة الواحدة إلى 12 دولارا تقريبا، كما أن الحماية قلت فزادت معها حوادث العمل، وأعداد غير قليلة منهم أصيبت بجروح خطيرة.

المشكلة الأكبر بالنسبة إليهم هي غياب ممثلي النقابة داخل المصنع، فغيابهم يعني منح حرية كاملة لصاحب المصنع لوضع شروطه في عقود العمل المبرمة بينه وبين العمال الأمريكيين. أما الصينيون فلا يوجد من يحميهم، وعليهم العمل ساعات إضافية طويلة وبراتب قليل جديد، وإلا فسيكون الطرد من نصيبهم.

عمال يُعلّقون صورة مدير المصنع رجل الأعمال الصيني “تشاو ديوانغ” في مقر مصنع زجاج السيارت

 

كبح جماح المطالبة بالحقوق.. عقلية رأس المال

تزايُد التوتر وكثرة الحوادث أثناء العمل دفعت العمال للمطالبة بعودة النقابة، وهو أمر رفضه المدير الصيني وكلّف من أجل إيقافه شركة علاقات عامة مختصة بالنقابات وأساليب تعطيل دورها، حيث دفع ملايين الدولارات في سبيل إسكاتهم، ومع ذلك تصاعدت المطالبة ووصلت إلى خارج المصنع.

كان المدير يتوجه إلى الصينيين بكلام مشحون بالوطنية والتمجيد بالمنجز الحضاري والتاريخي الصيني، ليرفع من معنوياتهم ويمنع تأثرهم بمطالب الأمريكيين التي خرجت عن السيطرة واتسعت، وعلى خطها دخل السياسيون ووسائل الإعلام. وعلى مستوى النشاط النقابي جرى تنظيم دورات للعمال تذكرهم بنضالات الطبقة العاملة ونقاباتها ودورها في تحسين ظروف العمل، كما دعتهم أيضا للمطالبة بزيادة أجورهم بما يتناسب مع مجهوداتهم الكبيرة.

وفد عمال أمريكي خلال زيارته الصين للاطلاع على ظروف العمل هناك واندهاشه بحفاوة الاستقبال

 

جيل الشباب.. انعدام الأمن الوظيفي

أفرز التصعيد تيارين؛ الأول يمثله العمال الشباب، وهؤلاء لا يتفقون مع فكرة إشراك النقابة في المشاكل الداخلية للمصنع، وآخر يطالب بوجودها حماية للجميع وضمانة لمستقبلهم.

وعلى الصعيد الإداري عمل المدراء التنفيذيون الأمريكيون بالتنسيق مع الإدارة الصينية على كبح ذلك التوجه، واعتباره مطلبا مُضرا قد يدفع الشركات الأجنبية للخروج من البلد، وبالتالي خسارة فرص العمل التي توفرها. حيث ترافق مع ذلك التصعيد حملة تسريح واسعة للنشطاء والمدافعين عن حقوقهم، وتهديد البقية الباقية منهم بالمصير نفسه.

يقابل الوثائقي عددا من المطرودين ويُصوّر حالتهم وينقل أحزانهم. كل ذلك نُقل بكاميرات احترافية وبأداء سينمائي باهر يغطي المشهد وينقل أدق تفاصيله.

دروس صينية.. رحلة إلى قلب التنين

من بين ما اقترحته شركة العلاقات العامة إرسال وفد من العمال الأمريكيين إلى الصين للاطلاع على ظروف العمل هناك وفهم أخلاقياته، وقد تصادف وصول الوفد مع الاحتفالات بأعياد رأس السنة الصينية، فدهشوا بالحفاوة التي استُقبلوا بها وبتمجيد العمال للتجربة الصينية والحزب الشيوعي.

ومن بين ما سمعوه أن إدارة مصنعهم مرتبطة مباشرة بالحزب، وأن مصالحها مرهونة برضا قادته، وأن كل عامل صيني هو عضو في نقابة العمال التي تسترشد بقيم ومبادئ الحزب الذي يعمل على تقوية نفوذ أصحاب المصانع الصينية ويشجع على توسيعها خارج البلد.

 

عبودية العمل.. فتات خبز لا غنى عنه

في اللقاءات الجانبية يسمعون من زملائهم الصينيين شكوى من قلة الأجور وطول ساعات العمل، ففي مصنع زجاج السيارات الصيني “فوياو” لا يحصل العمال في الشهر إلا على يوم واحد للاستراحة، أو يومين في أحسن الأحوال. أما العمال القادمون من مناطق بعيدة فلا يستطيعون لقلة أجورهم السفر لرؤية أهاليهم وعوائلهم إلا مرة واحدة في السنة، فهم يعملون في ظروف سيئة، ومن دون توفر حماية صناعية (كفوف وأقنعة لحماية العينين وغيرها)، ولا يحق لهم المطالبة بتوفيرها.

حماسة العامل الصيني وإخلاصه أبهر الأمريكيين، وأثار أيضا تعاطفهم مع العمال المجبرين على الطاعة. حيث سينقلون ذلك الانطباع معهم إلى بلدهم، ويعيدون على ضوئه النظر في موقفهم من زملائهم الصينيين، ويأخذون بعين الاعتبار الضغط الهائل الذي يتعرضون له.

يستغل الوثائقي الفرصة ليدخل بيت عامل صيني ترك عائلته وجاء للعمل وحيدا، حيث أخبرهم عن حزنه لفراق أطفاله وزوجته، وقلة ما يجمعه من مال مقابل عمل مرهق مُجبر على تأديته، وإلا فسيذهب كل ما جاء من أجله أدراج الرياح.

عامل أمريكي يرفع يافطة يؤيد فيها وجود نقابة في المصنع، في الوقت الذي صوّتت الأغلبية بـ”لا” لوجود النقابة

 

“لا” للنقابات.. خسارة تاريخية في المصنع

من النتائج المحبطة لنشطاء النقابة خسارتهم في عملية التصويت التي جرت داخل المصنع حول وجودهم من عدمه، حيث صوّتت الأغلبية بـ”لا” لوجود النقابة، وبذلك خسر العمال واحدا من أهم منجزاتهم التاريخية.

يستعيد الوثائقي جانبا من تاريخ النقابات ويُذكّر بدورها في تحسين العلاقة بين أصحاب المصانع والعمال والمكاسب التي حصلت عليها الطبقة العاملة جراء فرض بعض شروطها. بدوره يُبدي المدير الصيني فرحته بـ”النصر”، ويُقرر المضي في خطته وتكريس أساليب إدارته التي بدأت بإدخال الآلية إلى المصنع، فكثرة الآلات المُدارة بأنظمة إلكترونية سبّبت تسريح آلاف من عمال المصنع.

يقابل الوثائقي بعضا منهم، ويمضي لتصوير بقية المشهد المتغير لصالح “رأسمالية” كونية تريد الاستغناء عن الأيدي البشرية واستبدالها بآلات صماء.

يشير الوثائقي بالأرقام إلى احتمال تسريح قرابة 375 مليون عامل خلال السنوات العشرة القادمة (2030)، مما يطرح سؤالا يظهر مكتوبا على الشاشة حول مسؤولية الدول والمؤسسات الاجتماعية في حماية هؤلاء، ومتى يحين الوقت لوضع قيمة العمل في موضعها الحقيقي لخدمة الإنسان لا حفنة من الأثرياء فحسب.