“24 ساعة في ووهان”.. هكذا انتصر التنين الصيني على غزو الفيروسات الفتاكة

عبد الكريم قادري

يعيش العالم حاليا حالة من الرعب والخوف الكبيرين بسبب فيروس كورونا (كوفيد-19) الذي أحدث دمارا كبيرا على أرواح البشر واقتصاد الدول وأمنها، وبسببه انهارت الشركات أو توقفت عن نشاطها نهائيا، كما قضى على السياحة وشؤونها، وأوصل سعر البترول إلى مستوى لم يصل له منذ سنوات، وأكثر من هذا فقد أجبر الأفراد في العديد من الدول الغربية وحتى العربية على البقاء في بيوتهم، وذلك في عملية حجر قاموا بها من تلقاء أنفسهم، أو أُرغموا عليها من قبل حكوماتهم.

وفي انتظار إيجاد لقاح لا تزال العديد من المخابر العالمية تعمل وتبحث عن صيغته النهائية لإنقاذ البشرية من هذا الفيروس النشط الذي ما زال يتمدد في كل الاتجاهات، ولا يمر يوم إلا ويتقدم فيه نحو دول جديدة، إذ تكون البداية بحالة أو حالتين، ثم بعد أسبوع أو أسبوعين يصبح الرقم بالآلاف، كما يحدث حاليا في فرنسا وأمريكا وإسبانيا وجنوب أفريقيا وإيطاليا التي أوشكت على السقوط.

إيطاليا الدولة السياحية التي وقفت عاجزة أمام الفيروس بسبب التزايد المستمر في عدد الإصابات؛ ارتفعت فيها نسب الوفيات اليومية فأصبحت بالمئات، خاصة في فئة كبار السن الذين لا يملكون مناعة كافية لمجابهته، وقد عجزت ايطاليا وغيرها من الدول عن مجابهة هذا الوافد الجديد الذي أعلن الحرب على الإنسان أينما كان، إذ يُهاجم بأدوات عصرية ومستحدثة، كما أنه متسلح بعناصر مجابهة جديدة لم تتهيأ لها الدول كما ينبغي، بحكم أنها لا تزال تعتمد وتتجهز بالعتاد الحربي الكلاسيكي الذي لا يجدي نفعا في مواجهة كوارث الفيروسات وفتكها.

 

عدسات في بؤرة الفيروس.. مخاطرة السبق الصحفي

عرض التلفزيون الرسمي لجمهورية الصين الشعبية عبر قناته “سي جي تي إن العربية” فيلما وثائقيا تحت عنوان: “بؤرة فيروس كورونا…24 ساعة في ووهان”، وقد أُعدّ من قبل مجموعة من المراسلين والمصورين الميدانيين الذي جازفوا بحياتهم وسلامتهم، وذلك من أجل أن ينقلوا للعالم تجربة أطباء مدينة ووهان في مجابهة ومحاصرة هذا الفيروس.

ويتعلق الأمر بكل من المراسلين “يانغ تشون” و”شوي شين تشن” و”قه يون في” و”تانغ بوه”، والمصورين “وانغ ياو” و”يو تشوان” و”قه يون فيه” و”ليانغ تشي بنغ” الذين استطاعوا أن يجمعوا مادة توثيقية غاية في الأهمية، ويمكن أن تكون خارطة طريق لأي دولة في العالم لمجابهة هذا الفيروس القاتل بها.

طرق وجسور مدينة ووهان الفارغة بعد أن فرضت السلطات الصينية حجرا صحيا بسبب فيروس كورونا

 

إغلاق ووهان.. عند الصباح يحمد القوم السُّرى

ينقل العمل في 49 دقيقة حقائق ميدانية صادمة، وفي الوقت نفسه يُظهر مدى جدية الصينيين في عملهم والتزامهم بمهنتهم، إذ يظهر جهود الأطباء والمتطوعين في سبيل القضاء على هذا الداء ومحاصرته.

وقد جاء في ملخص الفيلم ما يلي: خلال عطلة السنة القمرية الجديدة، يعود معظم الصينيين إلى ديارهم وأسرهم ويزورون الأقارب، لكن هذا العام عرقل فيروس كورونا هذه الخطط، فمع انتشار الفيروس القاتل في جميع أنحاء البلاد فتح صندوق باندورا (صندوق باندورا في الميثولوجيا الإغريقية هو صندوق حُمل بواسطة باندورا يتضمن كل شرور البشرية من جشع وغرور وافتراء وكذب وحسد ووهن ووقاحة ورجاء).

وقد انطلقت منه الكارثة والخوف والمرض، حيث شُخص أكثر من 70 ألف شخص بالالتهاب الرئوي الناتج عن فيروس كورونا، مما أسفر عن وفاة ما لا يقل عن 2400 شخص، وفي خطوة غير مسبوقة تغلق الصين مدينة ووهان الكبرى، وهي بؤرة فيروس كورونا، وذلك للسيطرة على تفشي المرض. اكتظت المستشفيات بالمرضى، والناس يعرضون حياتهم للخطر.

صندوق باندورا الذي يُعتبر أصل الشرور حسب الأساطير الإغريقية

 

صندوق باندورا.. ثنائية الخوف والأمل

“صندوق باندورا مفتوح الآن، وانطلقت منه الكارثة والمرض والخوف، إن الشيء الوحيد الذي يبقى في قعر صندوق باندورا هو روح الأمل، ما دام الأمل موجودا فسنتغلب على جميع الصعوبات”. هكذا رد طبيب يعمل في طابق العزل بأحد مستشفيات مدينة ووهان واصفا الوباء، وهذا بعد أن سأله المراسل في المقابلة.

ويحيل هذا الرد مباشرة إلى إحدى أهم الأساطير الأغريقية التي تعكس هذا الوضع الراهن بشكل دقيق، من خلال الشرور التي خرجت من هذا الصندوق، ويعكسها بشكل كبير فيروس كورونا (كوفيد 19) الذي أرعب العالم، بقدر ما أرعب مدينة ووهان التي انطلق منها، ويزيد تعداد سكانها عن 10 مليون نسمة.

الصين تُلغي الاحتفالات برأس السنة القمرية الجديدة بسبب فيروس كورونا

 

احتفالات السنة القمرية.. تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

حسب المعطيات التي وفرها الفيلم فقد كانت البداية في أكثر الأوقات زحمة في هذه المدينة مع اقتراب الاحتفالات بالسنة القمرية الجديدة، وهي مناسبة مهمة عند الصينيين، حيث يحتفلون فيها مع أسرهم وفي بيوتهم، لهذا كانت المحطات والمطارات والأسواق مكتظة عن آخرها، مما سهّل انتشار الفيروس واستفحاله بسرعة كبيرة، وهو ما جعل السلطات الصينية والمحلية أيضا تتعامل مع الأمر بسرعة ودقة ومسؤولية.

لهذا فرضت السلطات الحجر الصحي على المواطنين، مع إيقاف النقل العام وإغلاق كافة الفضاءات لمحاصرة الفيروس في المدينة التي أغلقت تماما، إضافة إلى وضع 28 مستشفى تحت الخدمة وفي حالة طوارئ، من بينها المستشفى الرئوي المتخصص الذي استقبل أول حالة ونقل العدوى لـ14 طبيبا وممرضا.

صورة عامة للمستشفى الجديد الذي بنته ووهان خلال 10 أيام لحل أزمة فيروس كورونا

 

بناء مستشفى في 10 أيام.. حالة طوارئ طبية

فهم أطباء ووهان الفيروس المستجد جيدا، ومن خلاله خلقوا عناصر مجابهة وحماية، ومن بينها بناء مستشفى بسعة 1000 سرير في 10 أيام، وذلك من أجل احتواء العدد الهائل من المصابين، وقد صرّح أحد المشرفين على هذا البناء في مداخلة في الفيلم قائلا إنهم اعتمدوا على ثلاثة عوامل في بناء هذا المستشفى، وهي السرعة، وخلق بيئة نظيفة تماما، والحفاظ على سلامة الطاقم الطبي.

كما نقل الفيلم عملية الحرص الكبير والصرامة التي تطبق في طوابق العزل، حيث يرتدي الأطباء لباسا مزدوجا، ويمنع عليهم أيضا الذهاب إلى الحمام، لهذا تفرض عليهم إدارة المستشفى ارتداء حفّاظات، كما أنهم يقيمون في فنادق خاصة بعيدا عن أهلهم.

ومن هنا منع الطبيب المشرف على المراسل إدخال الكاميرا إلى هذا القسم، لكن بعد مفاوضات كبيرة اتفقا على إدخال كاميرا خاصة، لكن بعد التصوير بها توضع في محلول لمدة 24 ساعة، كما أخبره بأن الهاتف الذي يستعمله في المستشفى لا يمكن أن يخرج به أبدا، وكل هذا حتى لا تنتشر العدوى.

عيد الحب في الصين بدا كئيبا هذا العام بسبب فيروس كورونا

 

عيد الحب في الصين.. عطلة عاطفية مفتوحة

مثلما استعرض الفيلم الجانب الطبي واللوجستي فإنه تطرق أيضا إلى الجانب الإنساني في مدينة ووهان التي حاصرها الوباء، ومن بين هذه المشاهد المميزة نقل آراء الأطباء الأزواج والعشاق ممن كانوا على وشك الارتباط، حيث تفرقوا في مستشفيات المدينة، سواء في عملهم كموظفين أو متطوعين، وهذا ما أجّل لقاءاتهم.

حتى أن عيد الحب الذي يعد مناسبة مهمة عند الصينيين مرّ مرور الكرام، بلا حفلات موسيقية ولا دعوات عشاء، ولا زهور لتقدم كهدايا، حتى أن أحد المتطوعين ينتظر أن يزول هذا الوباء من أجل أن يأخذ صورة مع خطيبته في حديقة أزهار الكرز بالجامعة، خاصة وأنه تعود على أخذ صورة في كل فصل، لكن لا تزال صورة فصل الربيع معلقة بسبب هذا الداء.

مشهد بانورامي لمدينة ووهان الصينية التي ظهرت فيها بؤرة فيروس كورونا

 

“سينما الأزمة”.. تغليب الفكرة على الخصائص الجمالية

تتوفر في الفيلم الوثائقي “بؤرة فيروس كورونا.. 24 ساعة في ووهان” خصائص “سينما الأزمة”، والتي تعتمد على مبدأ التوثيق ونقل الحقائق التي تخدم الفكرة الرئيسية، بينما تتغاضى عن الشكل السردي الذي عادة ما يوفر شروطا جمالية إضافية، حيث تتعاون مع الموضوع الرئيسي لتشكيل الرؤية الجمالية البصرية للفيلم، وتخدم في الجانب الآخر الرؤية الفلسفية.

وفي حالة الفيلم المذكور جرى التركيز بشكل استثنائي على الشق الأول من الطرح، بحكم أنها أزمة عالمية تستحوذ على أي مشاهد، وتتغلب على أركان التشكيلات السينمائية الأخرى، وهذا للقوة الكبيرة التي يحملها موضوع الفيلم، ورغم اشتداد الأزمة وخطورتها في الفضاء التي تدور فيه أحداث الفيلم، فإن الفريق استطاع أن يُسلّط كاميراته على العديد من الزوايا المهمة، وفي الوقت نفسه نقل أصوات العناصر الفعّالة التي كان لها دور كبير في محاصرة هذا الفيروس في مدينة ووهان الموبوءة.

لهذا جاءت فضاءات الفيلم منوعة ومختلفة، سواء الداخلية والخارجية وحتى العلوية التي نقلت مشاهد بانورامية للمدينة، وفي الوقت نفسه خدمت الفضاءات التي تطرق لها العمل، كما تجولت تلك الكاميرا في المستشفيات والبيوت وفي الطرقات والأحياء، خاصة الشوارع التي استخرجت منها جمالية الهدوء والسكينة التي باتت عليها على غير العادة، حيث ترى الطرق والجسور الممتدة فارغة بدون أي دبيب، وهذا أمر لم تتعود عليه هذه المدينة العامرة والنشطة والحيوية.

صورة لفيروس كورونا (كوفيد-19) الذي جعل العالم يعيش الموت والرعب بسببه

 

خارطة الخروج من الأزمة.. طريق مضيئة للعالم

كما رافق الفيلم صوت سردي لراوٍ يسرد الأحداث التي لم تنقلها مشاهد الفيلم أو يؤكدها، لتخدم المشاهد من جهة، ومن جهة ثانية تخدم الجهات ذات الصلة التي ستستند على هذا العمل، ليكون منطلقها في الوقاية أو التعامل مع هذا الوباء.

وقد عكس الفيلم ذكاء صُنّاعه، وهذا بفضل الخط الذي انتهجوه في عملهم، حيث حافظوا من خلاله على أركان التوثيق، وفي الوقت نفسه قدّموا خارطة طريق مضيئة للعالم ليخرج من الأزمة ويتغلب على هذا الداء، وذلك اقتداء بالأطباء والعاملين بمدينة ووهان الذين ضحوا بأنفسهم وأسرهم وعائلاتهم حتى يتغلبوا على المرض ويمنعوا الانتشار حتى يصل إلى الصفر، وهذا ما يحدث حاليا في الصين التي عادت إلى حياتها الطبيعية، في حين لا يزال العالم يعيش الرعب والموت من هذا الوباء كل دقيقة وإلى غاية اليوم.