“الجاسوس الذي سقط على الأرض”.. مصرع العميل المزدوج الذي حير العالم

عبد الكريم قادري

صرّح الكاتب والمؤرخ “آرون بريغمان” المقيم في المملكة المتحدة خلال المقابلة التي أجراها في الفيلم الوثائقي البريطاني “الجاسوس الذي سقط على الأرض” (2019) لمخرجه “توماس مدمور” قائلا: في عام 1998 كنت مستشارا في أحد الأفلام الوثائقية الكبرى، وقد أجريت مقابلة مع مدير المخابرات العسكرية في “إسرائيل” الجنرال “إيلي زعيرا”، وعندما أنهينا المقابلة كنا نقف في الرواق، وما قاله لي هنا غيّر كل شيء بالنسبة لي، قال إن أهم جاسوس للموساد كان عميلا مزدوجا، وقد أصبت بصدمة هائلة.

استند هذا العمل الاستقصائي بشكل أساسي على كتاب يحمل نفس العنوان للمؤرخ المذكور صدر سنة 2016، وقد تناول فيه حياة الملياردير والجاسوس المصري أشرف مروان الذي أثار الكثير من الجدل في العالم، خاصة بعد وفاته يوم 27 يونيو/حزيران 2007 إثر سقوطه من الطابق الخامس بحي الرابع والعشرين في شارع كارلتون تراس الواقع وسط لندن.

أفرزت هذه الحادثة ثلاث احتمالات أساسية، وهي الانتحار أو السقوط العرضي أو القتل العمد، أما السؤال المحوري والهام الذي بحث فيه الفيلم وتقصى عن حقيقته، فهو هل كان أشرف مروان جاسوسا إسرائيليا، أم عميلا مزدوجا وبطلا قوميا مصريا مُسيرا من قبل المخابرات المصرية تحت أوامر مباشرة من الرئيس الأسبق أنور السادات؟

 

“لن أعود إلا حين يتوقف العنف”.. إبعاد الذات من التحيز

يعتمد الفيلم بشكل أساسي على شهادات من أشخاص عملوا في جهاز المخابرات العسكرية “الموساد”، أو على المعلومات التي قدمها المؤرخ “آرون بريغمان”، وهو كاتب متخصص في الصراع العربي الإسرائيلي، وقد ألف ستة كتب في هذا الموضوع، آخرها الكتاب الذي استند عليه الفيلم كما ذكرنا أعلاه، كما سبق أن كان عسكريا في الجيش الإسرائيلي، لكنه ترك الخدمة واستقر به الحال بشكل نهائي في المملكة المتحدة.

وقد انعكس ذكاء المخرج “توماس مدمور” من خلال إظهار موضوعية “بريغمان” وعدم تحيزه، حيث استطاع في الدقائق الـ10 الأولى أن يوصل للمتلقي -العربي بالأساس- هذه الموضوعية، خاصة أن الفيلم يعتمد بشكل أساسي على معلوماته وتصريحاته، حيث يسرد “بريغمان” جزءا من حياته الخاصة، وكأنه يستبق ما يمكن أن يقوله الآخر عنه بحكم انتمائه وأصله، حيث قال:

عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية لعام 1987 كان الأمر بمثابة نقطة تحول بالنسبة لي، فقد رأيت جنديا إسرائيليا يضرب فلسطينيا فقلت هذا جنون، أنتم تلحقون بالفلسطينيين الألم ذاته الذي ألحقته أمم أخرى باليهود، وأنا لن أعود إلا حين يتوقف العنف، يا له من أمر جلل، “آرون بريغمان” لن يعود، فهاجرت إلى المملكة المتحدة.

صنع هذا التصريح نقطة تحول كبرى في الفيلم، لهذا بات من السهل تلقي المعلومات التي فيه دون الارتكاز على نقطة التحيز، وأكثر من هذا نقل المخرج هذا الأمر بصريا، من خلال تجول كاميرا العمل في بيت “بريغمان”، حيث نجد صورة معلقة على أحد جدرانه تجسد مدينة القدس، وقد كتب عليها بحروف لاتينية “هنا فلسطين”، مما يعني أن فكرة الموضوعية لا غبار عليها.

صورة جماعية للعروسين أشرف مروان ومنى ابنة الرئيس المصري جمال عبد الناصر في يوم زفافهما

 

“الصهر”.. كشف هوية العميل المزدوج

انطلاقا من فكرة الموضوعية تصبح المعلومات التي يقدمها لا تخضع لمنطق إيديولوجي بغض النظر عن مدى صدقها أو زيفها، وقد ذهب الفيلم أبعد من ذلك حين تتبع الخطوات التي ارتكز عليها الكاتب وكيفية اكتشافه اسم العميل السري الذي يطلقون عليه في التقارير السرية وبعض الكتب والمذكرات تسميات مختلفة حتى لا ينكشف، ومن بين تلك المسميات “الملاك” و”بابل” و”الصهر”، وهذا ما فعله الجنرال “إيلي زعيرا” مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية في حرب أكتوبر 1973، الذي ذكر حجم الانتكاسة الكبرى التي تلقتها “الموساد” لأنها لم تنجح في التنبؤ بحرب الغفران بسبب عميل مزدوج، وهو السبب وراء هزيمة إسرائيل.

وقد ذكر الجنرال “زعيرا” هذه المعلومات في كتابه “حرب يوم الغفران” الذي صدر سنة 1993، وقد تلقف “بريغمان” هذه المعلومة من الكتاب، وعليه بدأ يتحرك من أجل معرفة اسم هذا العميل المزدوج، مما جعله يلتقي بالجنرال “زعيرا” ويسأله عن اسم هذا العميل المزدوج الذي ضلل إسرائيل وكان السبب المباشر في هزيمتها، لكنه رفض الكشف عنه، ليسافر بعدها “بريغمان” إلى إسرائيل للقاء شخص هو من قام بتحرير كتاب “زعيرا” وتنقيحه، وبعد نقاشات متنوعة وحامية بينهما أكد له بأن العميل المزدوج الذي يقصده “زعيرا” في الكتاب هو أشرف مروان.

من هنا تأكد “آرون بريغمان” من هوية هذا الجاسوس، وقد تمادى أكثر من هذا حين ذهب إلى تأكيد فرضية أن يكون أشرف مروان قد قُتل مع استبعاد فرضية الانتحار أو السقوط العرضي، لأنه في تلك الفترة كان على موعد هام معه وينتظر منه اتصالا هاتفيا، خاصة أنه بعد تأليف الكتاب المذكور تشكلت علاقة قوية بينهما، كما كان لأشرف قبل موته مشاريع عمل ومواعيد، ومناسبات عائلية كان ينوي أن يحضرها، ومن هنا تتأكد فرضية القتل أكثر، ليتشكل السؤال المحوري الأكبر وهو من يقف وراء قتله، وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من معرفة المستفيد من عملية القتل هذه.

صورة تجمع العميل أشرف مروان مع أنور السادات ومعمر القذافي على طاولة واحدة

 

حرب الغفران.. ضربة أوجعت الموساد

طرح الفيلم اتجاها مغايرا ومناقضا للفكرة التي قدمها “آرون برغمان” من خلال التأكيد على أن أشرف مروان كان جاسوسا إسرائيليا خدم جهاز الموساد بكل تفان وإخلاص، كما اتهمت المخابرات المصرية أيضا بقتله، ويذهب في هذا الاتجاه رئيس الموساد السابق “شبتاي شافيت” والعميل الميداني للموساد “دفيد آربل” الذي قال إن أشرف اتصل بعد شهرين من وفاة عبد الناصر بسفارة إسرائيل وقدم خدماته لها، ومن حظه أن يكون “شمويل غورين” مدير “الموساد” لناحية أوروبا حاضرا، وقد قال الأخير بأنهم التقوا به في أحد الفنادق، وهناك قدّم لهم محاضر موثقة للقاءات التي جرت في موسكو بين مسؤولين مصريين وروس من أعلى المستويات، وهذا قبل اندلاع حرب أكتوبر، وهي معلومات مهمة جدا.

أما عن السبب الذي جعل أشرف مروان يقوم بتقديم هذه المعلومات حسب طرحهم، فهو انتقاما من صهره الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي قام بتهميشه، لأنه عرف بأن أشرف تزوج من ابنته ليس حبا فيها وإنما لأنها ابنة الرئيس، كما عرف بأن أشرف يحب حياة البذخ، وهذا ما وقف عليه عندما كان يزور بريطانيا، لهذا قام بتهميشه، كما تلقى أشرف مليون دولار في السبعينيات ثمنا للمعلومات التي قدمها.

كما يؤيد هذا الطرح الكاتب الصحفي وخبير المخابرات العسكرية الإسرائيلية “يوسي ملمان”، وهو نفس الموقف الذي دافع عنه طوال فترة المقابلة أيضا “عاموس جيلبوا” الرئيس السابق لبحوث الدفاع الإسرائيلية، وقد قال هؤلاء مديحا كبيرا لأشرف مروان باعتباره خدم إسرائيل، وهو نتيجة حتمية لحنكة جهاز المخابرات الموساد، إذ كان أشرف قريبا جدا من دائرة اتخاذ القرارات.

فهو كان رجل الرئيس الأسبق أنور السادات الذي قرّبه منه لأنه قدم له أرشيفا عن خصومه السياسيين، وبفضله استطاع أن يحاكمهم ويزج بهم في السجون، لهذا جعله محل ثقة لدرجة أنه كان يحضر كل الاجتماعات الكبيرة التي يقوم بها بين القادة، لهذا كان مصدر معلومات مهم جدا لجهاز الموساد، وقد أظهر هؤلاء المتدخلون ضعفا في تقديم حجتهم، لكن يمكن للمتلقي أن يستنتج منهم بأنه يدافعون فقط عن جهاز الموساد الذي تلقى ضربة كبيرة من أشرف مروان.

أنور السادات قرّب العميل المزودج أشرف مروان منه بعد أن ساعده في القضاء على خصومه

 

“السادات هو من برأه أمامي”.. حقائق جديدة تقلب الطاولة

من خلال تحليل المعطيات التي تطرق لها فيلم “الجاسوس الذي سقط على الأرض” بطريقة عقلانية، يمكن القول إن أشرف مروان عميل مزدوج وبطل قومي مصري، كما ذهب الكاتب “بريغمان” وقبله مدير المخابرات “زعيرا”، لكن إسرائيل لا تريد أن تعترف بنجاح أنور السادات الذي جنّد أشرف مروان وهو من أرسله إلى السفارة الإسرائيلية، من أجل مدهم بمعلومات حقيقية، وعندما يكسب ثقتهم سيضللهم فيما بعد، وهي تقنية معروفة عن المخابرات الروسية، لتوجيه ضربة موجعة وقوية فيما بعد.

تتمثل هذه الضربة من خلال تقديم معلومات بأن الهجوم على إسرائيل سيكون عند الغروب في يوم الغفران، لكن الهجوم كان قبل هذا التوقيت بأربع ساعات، وهو الوقت الذي كان كافيا لتوجيه ضربات موجعة لإسرائيل من الجبهتين المصرية والسورية، ومن هنا ينتهي دور أشرف مروان الذي قلّده الرئيس السابق أنور السادات وسام الاستحقاق الوطني بعد الحرب.

كما جرى تنظيم جنازة مهيبة له يوم وفاته، وقد حضرها كبار قادة الدولة المصرية وسياسيون بارزون، ونعاه الرئيس المصري حسني مبارك بقوله “قام بأعمال وطنية لم يحن الوقت بعد للكشف عنها، ولكنه كان بالفعل مصريا وطنيا، ولم يكن جاسوسا على الإطلاق لأي جهة”.

وهذا ما ذهب إليه المتدخل عبد الله حمودة الخبير في الشؤون المصرية الذي نقل وجه النظر المصرية، كما قالت منى زوجة أشرف مروان بأن زوجها كان وطنيا وخدم بلاده مصر، وكل هذه المعطيات تدل بما لا يدع مجالا للشك بأن أشرف مروان عميل مزدوج خدم بلاده مصر، وقد قامت المخابرات الإسرائيلية الموساد بتصفيته بعد أن تأكدت من هذا، لأنها أحست بالخدعة الكبيرة التي تلقتها منه.

كما أصدر قاضٍ بريطاني حكما بأن حالة الوفاة مريبة لكن الأسباب مجهولة، وتذهب عائلة أشرف وتظهر السبب كما قال الصحفي الذي تتبع القضية في الفيلم “رجيف سيال” حين قال “إن المذكرات التي بدأ أشرف مروان في كتابتها اختفت يوم موته، وكان سيذكر فيها دوره البطولي في حرب أكتوبر”.

ويأتي القول الفصل في هذه القضية من خلال تصريح الرئيس الأسبق حسني مبارك بعد صدور هذا الفيلم بشهور، عن طريق الصحفية الكويتية فجر السعيد التي سبق أن أجرت معه مقابلة، وقد نشرت الخبر كتدوينة على صفحتها الرسمية على تويتر، حيث قالت: الرئيس حسني مبارك قال: “شهادةً للتاريخ، أشرف مروان ليس جاسوسا لإسرائيل، والسادات هو من برأه أمامي، عندها أكد أنه يرسل من خلاله معلومات مضللة لمن تصوروا أنهم جندوه لصالحهم”، ويأتي تصريح مبارك وينهي نقاشا دام طويلا، ويثبت بطولية أشرف مروان.