باعة الرصيف في المغرب.. معاناة صامتة تلهم السينما الوثائقية

قيس قاسم

يقترح الوثائقي المغربي “مكان تحت الشمس” لكريم عيطونة والوثائقي القصير المغربي أيضا “باب سبتة” لرندة معروفي عرض جوانب من الحياة المغربية عبر نقطتين محوريتين تتمركزان في أسواق شعبية ونقاط حدودية، فعبرهما يمكن التقرب من مشهد عام تنعكس فيه أحوال الناس وظروف عيشهم وصراعاتهم اليومية من أجل تأمين لقمة عيشهم.

يبدو “باب سبتة” لوحده كمشهد سينمائي شبه صامت، مكتفيا بالتقاط حركة تجارية بين نقطتين حدوديتين تفصلان بين إسبانيا والمغرب.

تجري على جانبي نقاط الجمارك عملية توثيق لحركة بشرية نشطة وقلقة، ينقل المنغمسون فيها بضائع مختلفة، وثمة تعليق صوتي يوضح طبيعة تلك الحركة التجارية التي يشوبها الكثير من الالتباس، ومع مشاهدة الوثائقي الطويل “مكان تحت الشمس” يفهم المتفرج جوانب مهمة من تلك العلاقة بين المكانين، لأن الوثائقي القصير يبدو وكأنه أضحى مدخلا يُمهد لفهم تفاصيل الوثائقي الطويل وبعض محاوره.

 

شارع الجزائر.. باعة يفترشون الأرض

شارك الوثائقي “مكان تحت الشمس” في الدورة الـ18 من مهرجان مراكش السينمائي الدولي ضمن قسم “بانوراما مغربية”، وتجري جميع مجرياته تقريبا في شارع الجزائر بمدينة تطوان المغربية.

أخذ صانع الوثائقي حياة عدد من الباعة يفترشون الأرصفة ويُعلنون عن بضاعتهم فوقها، ويعاني هؤلاء من مشاكل جدية تهدد أرزاقهم جراء دعوات رسمية تطالب بإبعادهم من الأرصفة بحجة تجاوزهم غير القانوني عليها، وتسببهم في مشاكل لتجار السوق والعامة.

بينما يصر الباعة على قانونية وجودهم اعتمادا على وجود رخص قديمة تخول لهم أخذ مساحات من السوق ليعرضوا فوقها بضاعتهم الرخيصة التي يصل أكثرها إليهم عبر الحدود الإسبانية بطرق يتجاوز ناقلوها الخضوع لقوانين رقابة النوع ويتهربون من دفع الضرائب المطلوبة.

هذا ما يشير إليه فيلم “باب سبتة” عند نقله مشاهد من عمليات تبادل تجاري لبضائع غير محسوم أمر توصيفها بالكامل، فهي مهربة وقانونية في آن واحد.

أحد باعة الرصيف في المغرب، حيث يعاني وغيره كُثر بسبب وقوفهم في العراء طيلة الوقت بلا أغطية بلاستيكية تحميهم

 

احتلال الممرات.. صوت برلماني يهدد اقتصاد الرصيف

ينقل الوثائقي كمُفتتح له مقطعا صوتيا من خطاب أحد أعضاء البرلمان المغربي انبرى لتقديم تصوراته وموقفه من ظاهرة وجود الباعة غير المرخصين على أرصفة الأسواق، فاعتبر وجودهم احتلالا لممرات قريبة من محلات تجارية مرخصة، وأنهم يشجعون على الفساد من خلال دفعهم إتاوات لموظفي الدولة، وأن وجودهم العشوائي يشوه أمكنة عمومية.

يذهب صانع الوثائقي -دون تعليق على ما يذكره النائب في البرلمان- إلى الطرف المعني بالمشكلة، وهم بعض الباعة، ويركز كاميراته لأيام طويلة على نشاطهم وعيشهم هناك.

ينكشف قبل كل شيء مع تتبع مجريات عمل الباعة اليومي وظروفه القاسية تجرد المطلب الرسمي من الأبعاد الإنسانية، فهو يتعامل مع الظاهرة من الخارج، ويتجاهل شدة صلتها بحياة الباعة وبحثهم عن فرص عمل يؤمّنون بها قوتهم اليومي، في ظل تفشي البطالة وقلة الحصول على فرص التعليم الجيدة وانعدام الضمان الاجتماعي الكافي.

باعة مغاربة يضعون الأسس لعرض بضاعتهم في إحدى الأرصفة في المغرب

 

تجارة تحت المطر.. ظروف العمل في العراء وأوجاع الاغتراب

يحرص الوثائقي على تجاوز تجاهل حالة الباعة في الأروقة الرسمية وعدم الإصغاء لصوتهم، فيريد أن يكون صوتا محايدا، ويعمل بتروٍّ على نقل مقاطع طويلة من حياة المدينة وأسواقها.

تكشف الكاميرا وهي تثبت عدساتها على أماكن وقوفهم وعرض بضاعتهم عن صعوبة ما يواجهونه يوميا في أمكنة مكشوفة عرضة للتأثيرات الجوية المتقلبة، حيث يقفون في العراء طيلة الوقت لا تحميهم إلا أغطية بلاستيكية لا ترتقي إلى مستوى خيمة بسيطة.

يقاوم الباعة المطر وشدة الرياح، وينادون دون انقطاع على المارة للقدوم وشراء بعض ما لديهم من بضاعة أرباحها غالبا قليلة، لأن زبائنهم هم في الأساس من الطبقات الفقيرة.

كما تكشف أحاديثهم وصلاتهم مع أهلهم عبر الهواتف المحمولة عن غياب طويل عن بيوتهم وأطفالهم، وتنم في ذات الوقت عن فقر وخوف من مستقبل غامض.

أحد الباعة في المغرب يعرض بضاعته على الرصيف ويأمل أن تمنحه الحكومة محلا تجاريا في السوق الجديد

 

ملجأ العمل النقابي.. ملاذ أخير من تعنت الجهات الرسمية

عمل الباعة من دون ضمانات وتعرضهم الدائم لملاحقة رجال البلدية هما مصدرا قلق دائمان لهم، فالخوف من خسارة المكان الضيق والمُتغير حسب الظروف المناخية يجد تعبيراته في أكثر من وسيلة، فمرة عبر الشكوى من الحياة نفسها ومن قساوتها، ومرة من نظام سياسي لا يعبأ بالفقراء ومصيرهم، ومرة بالدعوة للعمل النقابي المنظم الذي ربما من خلاله يتوصلون لحلول مع الجهات الرسمية تنهي قلقهم وخوفهم.

إلى هذا الجانب يندفع بعضهم ويعمل على تنظيم جمعيات تطوعية من أهدافها المطالبة بحقوقهم، فينشط بعضهم لتعريف بقية الباعة بتاريخ معاهدات قديمة واتفاقات جرت مع جهات رسمية سمح لهم بموجبها بالبيع في أسواق شارع الجزائر، وبالتالي لا يحق لأحد طردهم منه دون تقديم بديل معقول لهم يعوضهم عن خسارته.

بوستر فيلم “مكان تحت الشمس” للمخرج كريم عيطونة الذي يتحدث فيه عن باعة الرصيف في المغرب

 

أسواق البلدية الجديدة.. أمل انفراج الأزمة

يدخل الوثائقي مرات عديدة إلى اجتماعات الباعة لينقل عبر عدسات كاميرته المطالب والتصورات التي يقترحونها لإنهاء حالة عدم الاستقرار التي يعيشونها، وتنعكس سلبا على أطفالهم وعوائلهم.

تكشف الاجتماعات عن وعي بحقوق الباعة وبحثهم الجدي عن حلول واقعية لها مع توفرهم على مرونة في التعامل مع الجهات الرسمية، ويبرز في ثنايا التوثيق أمل في نقلهم إلى أسواق جديدة تعمل البلدية على إنشائها وتعهدها بتوفير محلات جديدة لهم فيها.

هاجس مواعيد عرقوب.. بوادر هجرة تلوح في الأفق

يظهر التشكيك بصدقية الوعود والجدل حولها شكا أكبر بالمؤسسات المغربية الرسمية والحكومية. يمضي الكلام الجريء ويصل أحيانا إلى بواطن الأمور ليكشف عن الفساد المستشري في أجهزة الدولة، ووجود رجال مقربين منها يستفيدون من فكرة إبعادهم عن الأسواق، حيث يقوم هؤلاء بشراء المكان غير الشرعي منهم، ثم يقومون بعد ذلك ببيعه لغيرهم بفارق ربح كبير.

تدفع قلة مردودية التجارة بعض الباعة للتفكير بالهجرة؛ ذلك ما تكشفه المتابعة اللصيقة لهم ولشباب يعملون معهم، بالمقابل هناك حضور لهجرة عكسية تأتي من أفريقيا المجاورة لتستقر وتعمل في نفس المكان وبنفس الأعمال.

يكرس الوثائقي وقتا لنقل مشهد لبائع أفريقي على الرصيف يحرص جاره المغربي على تعليمه اللغة العربية وأصول المناداة والبيع.

يقود الحديث عن البضاعة ونوعيتها إلى الكشف عن مصدرها وكيفية وصولها إليهم في شارع الجزائر، ويسهم الوثائقي القصير “باب سبتة” في عرض جانب منها.

 

“باب سبتة”.. عنوان استغلال المواطن المغربي

لا تناقش المخرجة رندة معروفي في فيلمها “باب سبتة” -المغربي الفرنسي الإنتاج- الواقع التاريخي والسياسي لمنطقتي سبتة ومليلة التي انتزعها الإسبان عنوة من الأراضي المغربية ومنحوها حكما ذاتيا، بقدر ما تعرض مشهدا لمعبرها الذي يفضح انتهاكا وتغافلا عن عمليات التهريب والاستغلال للمواطن المغربي.

تلتقط المخرجة مشهدا واسعا للمعبر الفاصل بين الطرفين من على ارتفاع شاهق ليظهر الناس على الأرض وحركتهم فوقه وكأنهم يخضعون لعملية مراقبة دقيقة عبر أجهزة رصد جوية، وتكتفي بتعليقات بسيطة ومكثفة لمراقبي حدود من الجمارك عملوا مدة طويلة في هذا الحقل واكتسبوا خبرة ومعرفة بخباياه.

هذا بالإضافة إلى أصوات مبعثرة مسجلة لنساء مغربيات يظهرن في المشهد وهن منهمكات بربط البضائع، وإخفاء بعضها عن أعين الشرطة.

صورة من الجانب الإسباني تنقل مشهدا يظهر فيه رجال شرطة وهم يتدربون على عملية صد التدافع وتوجيه المتدافعين المغاربة إلى زوايا ضيقة

 

فوضى التهريب والتدافع.. بضائع الصين التي أثقلت كواهل المغربيات

أكثر ما تركز عليه صانعة الوثائقي هو حركة التدافع الشديدة التي تحدث عند اقتراب المغاربة من نقاط التفتيش، وتبدو هذه الحركة وكأنها رتبت بتعمد لتحدث أكبر قدر من الأذى بين المتدافعين وسطها، ومن الجانب الإسباني تنقل مشهدا يظهر فيه رجال شرطة وهم يتدربون على عملية صد التدافع وتوجيه المتدافعين إلى زوايا وممرات ضيقة.

لا يخفى على الكاميرا العالية الاختلاط الحاصل بين العمليات التجارية وعمليات التهريب الجارية عند المعبر، من تهريب بشر وبضائع وكل ما يمكن تهريبه.

بالمقابل هناك وجود مغربي كبير أكثره من النساء ينشط لنقل أكبر كمية من البضائع إلى الأراضي المغربية، وجلها بضائع صينية الصنع رخيصة الثمن تُحزم على شكل كتل كبيرة، وتحملها النساء على ظهورهن ويتحركن بها نحو البوابة بكل ثقلها.

نساء مغربيات يجلسن فوق بضائعهن الصينية رخيصة الثمن والتي تُحزم على شكل كتل كبيرة تميهدا لنقلها عبر باب سبتة

 

تواطؤ إسبانيا في التهريب.. غنيمة الأوروبيين وبقشيش المغاربة

يعري الوثائقي تواطؤ الجانب الإسباني مع تلك التجارة التي تعبر خليطا بين الشرعي وغير الشرعي من خلال كشفه لحجمها وسعتها، فهي تبلغ ما يقارب 1500 مليون يورو سنويا تسهم في تنشيط السوق التجاري الإسباني، وفي المقابل يحصل المغاربة على أرباح معقولة منها عبر بيعها في الأسواق المغربية.

يكشف “مكان تحت الشمس” عن وجود الكثير من تلك البضائع في أسواق شارع الجزائر التي يعود إليها في نهاية مساره ليتحرى مصير الباعة بعد فتح الأسواق التجارية الجديدة.

لم تفِ الحكومة بوعدها وبدلا من حصول كل الباعة على محلات في السوق العصري خصصت لهم البلدية 250 محلا فقط من مجموع 1200 محل وزعت عليهم عن طريق القرعة، مما يعني بقاء كثير منهم في الأسواق القديمة، واستمرار وجود الظاهرة ما دامت أسباب وجودها الخارجية والداخلية لم تنتفِ، ولم ينته مَنْ له مصلحة قوية في بقائها.