الهجرة إلى أوروبا.. طريق أفريقيا الشاق

حين خرجت “آليكا” مع أخيها “آدو” إلى الغابة كي تعلمه ركوب الدراجة الهوائية لم تكن تعرف بأنها ستُصادف الصيادين الذين قتلوا “كيمبا”، وهو الفيل الرابع في القرية الذي يذهب ضحية الصيد الجائر في غضون شهر واحد.

وبما أن “آليكا” و”آدو” يُعدان شاهدَي عيان فإنهما يشكلان خطرا على الصيادين الخارجين عن القانون؛ فلا غرابة أن تُهربهما الأم إلى عمتهما “ليكي” أثناء عملية المداهمة التي تعرضت لها ليلا، لكن العمة تسلمهما إلى أيدي المهربين الذين يتاجرون بالبشر ولا يجدون ضيرا في زج الأطفال في عنبر الطائرة مع الحقائب والأمتعة أو في الحيز المُخصص لكلاب الأثرياء والموسرين.

تُرى ما مصير هذين الطفلين اللذين صعدا إلى جوف الطائرة من فتحة الإطارات، وهل سيصلان إلى هدفهما المنشود، أم أنهما ينتظران نهاية مفجعة؟

تنطوي شخصية “آدو” -التي جسّدها الطفل الموهوب مصطفى عمرو- على كثير من الترقب والتشويق والإثارة، فبدلا من أن يأخذ المُهرب “آدو” وشقيقته “آليكا” إلى إسبانيا تتجه بهما الطائرة إلى السنغال ليشرعا في رحلة برية طويلة تبدأ من العاصمة داكار، وتمر بالعديد من المدن الموريتانية والمغربية، وتنتهي بمدينة مليلية التي تخضع للحكم الإسباني الآن.

أما صاحب الشخصية الثانية فهو “غونزالو” (الممثل لويس توسار) الناشط البيئي الإسباني الذي يتعامل مع ممارسات الصيد الجائر في محمية “دجا” في الكاميرون ويكرّس جُل حياته لها، غير أن الحراس القرويين في “أمباما” يطردونه لأنهم يعدونه شخصا أنانيا متغطرسا يتباكى على الحيوانات ولا يحسن التعامل مع السكان المحليين، فتنقلب حياته رأسا على عقب حين تأتي ابنته “ساندرا” في زيارة سياحية إلى العاصمة الكاميرونية ياوندي، وتقرر قضاء بعض الوقت معه لتعيد اكتشاف حياته من جديد.

بينما يشكل “تاتو” الشخصية الثالثة في هذا المثلث المتساوي الأضلاع، فهو لاجئ سياسي من الكونغو قطع مسافات طويلة، لكنه لقي مصرعه على يد “ميغيل” أحد الحراس الإسبان، ثم أخذت القضية منحى قضائيا لم ينتصر لمصلحة الضحية الهاربة من الظلم والاستبداد.

هكذا بدت الملامح العامة في الفيلم الإسباني “آدو” (Adú)، وعلى الرغم من أهمية الشخصيات الثلاث آنفة الذكر، فإن حبكة الفيلم المشوقة تضم بين دفتيها شخصيات ثانوية أخرى تكمل المشهد البانورامي لمسرح الأحداث، وتتصاعد دراميا لتصل إلى ذروتها ثم تنحدر نحو الحلول المُقترحة.

مآسي القارة السمراء.. العقد الذي ينظم شخصيات الفيلم

يحاول المخرج “سلفادور كالفو” أن يوازن بين المواضيع الثلاثة التي ضمنها كاتب السيناريو “أليخاندرو هيرنانديز” في قصته السينمائية، فقدمها لنا بخلطة زمانية ومكانية متداخلة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه قد مال قليلا إلى قصة الطفل “آدو”، واعتبرها العمود الفقري للفيلم الذي يعالج فكرة هجرة الأطفال.

“آليكا” وشقيقها “آدو” يُشاهدان عملية قتل الفيل الرابع “كيمبا” الذي ذهب ضحية الصيد الجائر في قريتهما

فقد هاجر في “عام 2018 الملايين من الناس تاركين أوطانهم بحثا عن عالم أفضل، وكان نصفهم أطفالا”، ولا غرابة أن يكون المَشهد الافتتاحي على شكل طابور طويل من المهاجرين ينحدرون من جبل غوروغو نحو مدينة مليلية التي تحتلها إسبانيا.

إن القاسم المشترك الذي يجمع الشخصيات الثلاث والمواضيع الثلاثة أيضا؛ هو القارة السمراء بوصفها بؤرة طاردة لأبنائها، فقد هرب “آدو” وشقيقته “آليكا” خوفا من انتقام الصيادين الجائرين الذين قتلوا أمهما، كما هرب اللاجئ السياسي “تاتو” من الكونغو، لأنه تظاهر ضد التعداد الانتخابي ولقي حتفه عند الحدود الإسبانية، أما “غونزالو” فقد قام بهجرة معاكسة من إسبانيا إلى الكاميرون ليكرس حياته لحماية الفيَلة من الصيد الجائر.

لا يمكننا الإحاطة بالهيكل المعماري لهذه القصة السينمائية ما لم نرصد الوحدات السردية الثلاث ونتابع أحداثها في الأمكنة المختلفة التي وقعت فيها على الرغم من تقنية التقديم والتأخير التي اتبعها كاتب السيناريو والمخرج لتكريس نوع من التوازن بين القصص الثلاث التي تشتمل على الصيد الجائر والهجرة واللجوء، وما يتشظى عنها من أفكار ثانوية لا تقل أهمية عن المواضيع الرئيسية.

تهريب الأطفال في عنبر الطائرة.. بوادر نهاية مفجعة

بعد مُداهمة الصيادين لمنزل “آدو” وشقيقته ليلا وقتْل أمهما يهربان إلى بيت العمة “ليكي” في قرية مجاورة، ثم تسلمهما العمّة إلى مُهرب مُخادع يخبرهما بالصعود إلى عنبر الطائرة من خلال فتحة العجلات التي تنسحب إلى الداخل أثناء الطيران.

الشاب الصومالي “مسار” الذي يساعد “آدو” في الهروب من سيارة الشرطة

نتيجة للبرد القارس وجلَبة محركات الطائرة، وما تنفثه من مواد ضارة بالصحة تفارق “آليكا” الحياة، وتسقط في الفضاء قبل أن تصل الطائرة إلى مدرج الهبوط، بينما ينجو شقيقها “آدو” الذي يهبط من العنبر إلى أرضية المطار فتتلقفه العناصر الأمنية ويدرك أنّ الطائرة لم تحمله إلى باريس كما وعد المهرب، بل إلى مطار “ليوبولد سيدار سنغور” في العاصمة السنغالية داكار.

رحلة الهروب من الشرطة.. غاية مختلفة وقدر واحد

قبل نقل “آدو” إلى سجن الأحداث يهرب بمساعدة “مسار”، وهو صبي صومالي يافع أكبر منه سنا يعامله معاملة الأخ الأصغر، فيهربان من سيارة الشرطة ويجدان طريقهما في العاصمة داكار، ومنها يواصلان الرحلة البريّة الشاقة مُتنقلين بسيارات مختلفة عبر الأراضي السنغالية والموريتانية حتى يصلا إلى الحُسيمة شمال المغرب.

وبما أن الصبيين مفلسان تماما فلا بد أن يلتجئا إلى الاحتيال تارة، والسرقة تارة أخرى، ويتعرض “مسار” إلى الضرب والتعنيف، بينما يتعرّض “آدو” إلى محاولة تحرش جنسي ينقذه منها “مسار” في اللحظات الأخيرة، ثم يتعارف الصبيان ببعضهما معرفة أعمق.

مسار وآدو يستريحان قليلا من عناء السفر البريّ الطويل من مدينة الحُسيمة ومنها إلى مليلية

تبدو قصة “آدو” واضحة لأنه يروم الوصول إلى إسبانيا والالتحاق بوالده، أما “مسار” فقد هرب من الصومال بجواز سفر مُزور بعد أن تعرض في بلده إلى تحرشات كثيرة حطمت طفولته، وشوهت كينونته الإنسانية، وعندما سنحت له أول فرصة هرب من بيئته الاجتماعية الموبوءة.

مركز استقبال الأطفال.. سحابة أمل في سماء كئيبة

وصل “مسار” مع “آدو” إلى مدينة الحُسيمة ومنها إلى مليلية حيث يقرران العبور إلى الضفة المقابلة مُستعينين بإطارين مطاطيين مربوطين معا بحبل من القنّب ينقطع قبل الوصول إلى الشاطئ الإسباني، وحينها تتلقفهما الشرطة لتُعيد “مسار” إلى نقطة الحدود المغربية بينما تأخذ “آدو” إلى مركز استقبال الأطفال في مليلية، وهناك فرصة كبيرة للقاء والده المهاجر.

وعلى الرغم من هيمنة المناخ التراجيدي على أجواء الفيلم فإن وصول “آدو” إلى مركز الأطفال واليافعين في إسبانيا يفتح نافذة صغيرة للأمل بلقاء والده الذي هاجر قبله واستقر في إحدى المدن الإسبانية، لكن العائلة قد خسرت الأم التي قُتلت على أيدي الصيادين، وفقدت الابنة “آليكا” في ميتة مأساوية يصعب أن تفارق ذاكرة المُشاهد.

“ساندرا” المراهقة العنيدة.. هذا الشبل من ذاك الأسد

يُعد “غونزالو” أصعب شخصيات الفيلم، ليس لكونه معقدا من الناحية النفسية بل لمزاجيته، فهو ينتمي لأسرة ثرية مُوسرة، وقد تزوج من امرأة لم تنسجم معه، لكنها أنجبت له ابنته الوحيدة “ساندرا” التي بلغت سن النضج وباتت تتصرف على هواها كأي فتاة أوروبية.

الناشط البيئي غونزالو مع ابنته ساندرا التي تقضي عطلتها في العاصمة الكاميرونية “ياوندي”، والتي تُعيده لاكتشاف حياته من جديد

لكن “غونزالو” كان يخشى عليها من الإدمان على المخدرات، وارتياد الملاهي الليلية التي تشجّع على اللقاءات العاطفية العابرة وتحقيق الملذات الخاطفة، خصوصا حين تركت مدريد وسافرت لوحدها إلى العاصمة الكاميرونية ياوندي، والتقت بشباب متعددين وأعربت عن إعجابها بوسامتهم وانجذابها إليهم.

نتعرف مليا من خلال زيارة “ساندرا” إلى الكاميرون على “غونزالو” الذي يملك دارا واسعة في مدريد وأخرى في لندن ومنزلا كبيرا في مدينة الحُسيمة المغربية، كما أنّ لديه زوجة ثانية غير والدة “ساندرا”، ولا يكف عن إقامة علاقات عاطفية عابرة كان آخرها الدكتورة “كارمن” التي التقت بابنته “ساندرا” وأخذت عيّنة من دمها بغية التأكد من نسبة المخدرّات في دمها لأنها تتناول الحشيش والإكستاسي كلما سنحت لها الفرصة.

ناب الفيل.. حصن الأبوة الذي يحف بنا

ترافق “ساندرا” والدها “غونزالو” إلى منزله في مدينة الحُسيمة ويجد في حقيبتها اليدوية نابا لأحد الأفيال فتثور ثائرته، لكنها تخبره بأنه ناب بلاستيكي مزّيف اقتنته من العاصمة ياوندي، وحينما فتح سدّادته المعدنية وجد فيه كمية من المخدرات فأخذها ووضع بدلا منها شعار محمية الفيَلة التي يشرف عليها.

حرّاس محمية “دجا” في الكاميرون يهددون الناشط الإسباني “غونزالو” بالقتل بسبب تباكيه على الحيوانات بينما لا يُحسن التعامل مع السكان المحليين

حينما وصلت ساندرا إلى النقطة الحدودية في مليلية طلبت منها الشرطية الإسبانية أن تفتح حقيبتها، ولعل الناب العاجي هو أول شيء لفت انتباهها ففتحت السدّادة، لكنها وجدت بدلا من المخدرات شعار المحمية فتنفست “ساندرا” الصعداء واتصلت بوالدها وكأنها تشكره على حرصه الدائم، فلولاه لدخلت إلى السجن.

أما “غونزالو” فقد عاد إلى منزله ولم يجد بُدا من الذهاب إلى محمية طبيعية في موزمبيق بعد أن رفض اقتراح موظفة الأمم المتحدة التي عرضت عليه أن يذهب إلى محميّة “سامبورو” في كينيا لمواصلة مشوار عمله الذي يحبه في القارة السمراء.

لطف مع الحيوان وفظاظة مع الإنسان.. ملامح الإسباني في الفيلم

يوحي الفيلم بأنّ غونزالو الإنسان الإسباني يعتني بالفيَلة أو الحيوانات عموما أكثر من اعتنائه بالإنسان الأفريقي، ويعامل الحُراس والعاملين في المحمية معاملة فظة وقاسية كانت السبب الأول في نفورهم منه واستيائهم من سلوكه المتغطرس الذي لا يحترم إنسانية الإنسان.

صورة ليلة لمدينة ميليلية التي قضمها الاستعمار الإسباني من الجسد المغربي

كما أن المخرج “سلف”آدو”ر كالفو” لم يقدم الشخصية الإسبانية على أكمل وجه، فـ”غونزالو” لم يكن مستقرا على الصعيدين العاطفي والاجتماعي، فقد فشل في حياته الزوجية مرتين، وظل يتنقّل بين عشيقاته ومحظياته الجديدات، وقد أورث ابنته الوحيدة “ساندرا” عناده وتمرده على الأعراف الاجتماعية، والأغرب من ذلك أن المخرج قدّمه لنا كمواطن يتهرب من دفع الضرائب في مدريد، ويفضل العيش والعمل في المحميات الأفريقية من دون أن يفكر في الاستقرار الاجتماعي أو إعادة بناء حياته الأسريّة من جديد.

مصرع على أسوار الحدود الإسبانية.. المستجير من الرمضاء بالنار

تتعلق القصة الثالثة في الفيلم بشخصية “تاتو”، وهو لاجئ سياسي من الكونغو خرج ضد قضية التعداد الانتخابي الجديد للكونغو الذي راح ضحيته أكثر من 42 قتيلا، فهرب ووصل إلى الحدود الإسبانية مع موجات اللاجئين لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية، وبينما هو يتسلق السور العالي الذي يبلغ ارتفاعه ستة أمتار علق في أعلى السور، وقد حاولت شرطة حرس الحدود إنقاذه، لكنه سقط مع الشرطي “ميغيل” وفارق الحياة في الحال.

لم تنتهِ قضية “تاتو” عند هذا الحد، بل وصلت إلى القضاء الإسباني الذي لم يكن عادلا ونزيها، فقد برهنت الشرطة على أن المهاجرين هم الذين اعتدوا على شرطة الحدود، وبالتالي فليست هناك أي قضية رغم أنّ محامية الدفاع قد بذلت قصارى جهدها من أجل تثبيت بعض الحقوق المادية والمعنوية لمصلحة “تاتو” الذي تبيّن أنه هارب من الظلم والاستبداد في الكونغو، لكن المحكمة الإسبانية قد ميّعت هذه القضية وحشرتها في مدارج النسيان.

“حلوا مشاكلكم بأنفسكم”.. لغة رافضة على لسان شرطة الحدود

لا يشجع فيلم “”آدو”” على الهجرة، ففي النقاش الذي يدور بين شرطة الحدود الثلاثة “ميغيل” و”ماتيو” و”خافي”، نفهم من خلاله أنهم يُدينون الهجرة ويقفون منها موقفا صارما، بل إنهم يتساءلون: إذا رحل المعلمون والسياسيون والممرضون فمن الذي سيُصلح وضع البلاد؟

كما أن رسالة هذا السور أو غيره من الأسوار التي تصد موجات اللاجئين تعني أن الأفارقة غير مُرحب بهم، وأنّ إسبانيا هي أرض محرمة ومحظورة عليهم، كما أنه يعني: حُلّوا مشاكلكم بأنفسكم، ولا تنافسونا في سوق العمل.

مصطفى عمرو.. تجسيد الشخصية الآسر

تنطوي بعض الأفلام على مفاجآت في الأداء المعبِّر وتقمص الشخصية إلى أبعد درجة، وقد نجح المخرج “كالفو” في اكتشاف الطفل الموهوب مصطفى عمرو الذي جسد شخصية “”آدو”” بإتقان مُبهر يُغبَط عليه حقا، ولا بد لهذا الطفل أن يتألق ويصبح نجما مشهورا واسما واضح المعالم إن واصل مسيرته الفنية وواظب عليها مُعززا إياها بالخبرة والدراسة والإخلاص لملكته الفنية التي أسر بها قلوب المشاهدين.

الطفل “آدو” الذي قام بدوره الكاميروني “مصطفى عمرو”، حيث قام بإتقان الدور بشكل مُبهر

بقي أن نقول إن المخرج الإسباني “سلف”آدو”ر كالفو” الذي ولد في مدريد عام 1970 قد أنجز ثلاثة أفلام من بينها “آخر رجالنا في الفلبين” الذي حصد العديد من الجوائز المحلية والعالمية، كما بلغ رصيده الإخراجي من المسلسلات التلفزيونية قرابة عشرين مسلسلا أهمها “الأطفال المسروقون” و”الإخوة” ومسلسل “الدوقة” و”حياة جديدة”، وهو يختار في الأعم الأغلب موضوعات كونية تتجاوز الأُطر والحدود المحلية الضيّ