“شرّحيه”.. فلسفة سينمائية في عالم الجريمة والعقوبات

د. أحمد القاسمي

يحدث أن نستعمل على سبيل المجاز العبارة “يحفر المخرج في قضايا المجتمع العميقة”، أو “هذا فيلم يُشرح الواقع، فالكاميرا أشبه بمشرط يغوص في اللحم الحي”، أو غير ذلك من العبارات الجاهزة منذ تبني “داريدا” فلسفة التفكيك، ومنذ أن ظهرت كتابات فلسفية بعنوان “حفريات المعرفة” أو “تشريح النص”، ولكن ماذا لو انبنى الفيلم بأسره على فكرة التشريح حقيقة؟

فلا تكاد الكاميرا تغادر طاولة التشريح، ولا تكاد الصورة تخلو من أعضاء مبتورة أو أمعاء مبقورة أو غير ذلك من الصور الفظيعة، ذلك شأن فيلم “شرّحيه” للمخرج الألماني “كريستيان ألفار” المقتبس من رواية “المشرح” للكاتبين “مايكل تسوكوس” و”سيباستيان فيتسيك”.

 

لعبة قلعة بويار.. تحرير الكنز من قبضة المجرم

لا شك أنّ من لم تسعفه أيامه بمعرفة اللعبة التلفزيونية الفرنسية قلعة بويار، فقد أسعفته بمعرفتها إحدى صيغها المقتبسة من هذا التلفزيون أو ذاك، تلك اللعبة التي تجعل رهانها أن يلتقط المشاركون أشياء معينة ويصطلح عليها بالمفاتيح، ولا يصل المشاركون إليها إلا بعد جهد، ويجعلونها علامات يتعيّن عليهم أن يفكوا شفراتها وأن يحلوا ما فيها من الألغاز تباعا، ومن يوفَّق في تخطي كل العقبات يظفر بالكنز في نهاية الحصة.

ينهض السرد السينمائي وفق هذا المنطق في فيلم “شرّحيه”، ولكن الغريب أن الكنز يتمثل في الفتاة “هانا” ابنة بروفيسور الطب الجنائي “بول هرتسفيلد”، فقد احتجزها قاتل متسلسل ووحش آدمي، وأما اللاعب فهو البروفيسور نفسه.

وهنا عليه أن يخوض اختبارات صعبة للوصول إلى الكنز وتحريره من قبضة المجرم، وأما المفاتيح فهي رسائل تزرع في أجساد ضحايا اختيروا بعناية، فإذا بالبروفيسور يتقمص دور اللاعب وطبيب التشريح والمحقق الجنائي الذي يلاحق عصابة ترفض الاعتراف بالمنظومة القضائية الألمانية وتعمل على الانتقام من رموزها في لعبة لا هزل فيها.

بروفيسور الطب الجنائي “بول هرتسفيلد”يكتشف رسالة ينس في كبسولة غرست في جمجمة الضحية، والتي تحمل رقم ابنته “هانا”

 

مفاتيح انطلاقة اللعبة.. لغز الانتقام من المنظومة القضائية

يتمثل المفتاح الأول الذي أعلن انطلاق اللعبة في كبسولة زرعت في جمجمة إحداهن، وعندما يفتحها “بول هرتسفيلد” يجد رقم هاتف ابنته “هانا” ثم يعلم أن “إيريك” يختطفها وأن حياتها رهن امتثاله لما يطلب منه.

ويتمثل المفتاح الثاني في صورة تحشر داخل كرة بلاستيكية التُقطت من حنجرة “إيريك” نفسه بعد أن وجد ميتا، إنها صورة القاضية “توفين” التي يتهمها طبيب التشريح “ينس” -زميله- بالتساهل في قضية ابنته أثناء محاكمة المجرم “سالدر” الذي اغتصبها وأمعن في تعذيبها، مما دفعها إلى الانتحار شنقا.

فبدل أن يُتعامل معه باعتباره قاتلا اقتصرت إدانة القاضية له على جريمة الاغتصاب مبررة الحكم بطفولته الصعبة، وحكمت عليه بالسجن لثلاث سنوات وثمانية أشهر.

وبعد النجاح في حل مختلف الألغاز يتأكد البروفسور “بول هرتسفيلد” من أن الأمر يتعلق بعصابة يقودها زميله “ينس” انتقاما من المنظومة القضائية التي يراها فاسدة تشجع القتلة والمجرمين على المزيد من إيذاء الأبرياء وانتقاما منه هو شخصيا لأنه رفض تزوير تقرير الطب الشرعي لتحميل “سالدر” المسؤولية المباشرة في مقتل الفتاة والتمهيد للحكم عليه بالإعدام.

رسامة الكاريكاتير “ليندا” مع “أندر مولر” في غرفة التشريح، حيث يستعدان لتشريح جثة “إيريك”

 

حبكة الفيلم الأسود.. نمط الأفلام البوليسية الأمريكية

يمثل حل الألغاز إذن أكثر من لعبة، خاصة أن المخرج “كريستيان ألفار” لم يكن يستدرج المتفرج ليشارك المحقق في عملية البحث عن الجاني بعد أن كشف له بنفسه أطراف العصابة، فبدل أن يقحمه في ضرب من التنافس معه حول من يكتشف الجاني أولا فإنه أشركه في تحليل أسباب الجريمة ودوافعها العميقة، فيغوصان معا في قاع المجتمع وفي عمق شخصية المجرم العاجزة عن مقاومة نزعاتها الإجرامية وعن قمع البعد الحيواني فيها والسيطرة على دوافعها الجنسية، فتكون لظروفها الخاصة جانية وضحية في الآن نفسه.

انطلاقا من هذا الاختيار المنهجي يعتمد المخرج “كريستيان ألفار” حبكة الفيلم الأسود، ذلك النمط البوليسي المخصوص الذي ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية منتصف القرن الماضي بعد انتكاسة الحرب العالمية الثانية، ويكون البطل الرئيسي فيه محققا خاصا أو شرطيا متخفيا أو ملاكما مسنا أو مواطنا مطيعا للقانون يندس إلى عالم الإجرام، ويكون في نسختنا هذه طبيبا جنائيا، ويكون العمل هنا أو هناك فرصة للتفكير في الجريمة بدل العمل على اكتشاف منفذها.

ويقتضي سياق الفرجة منا أن نأخذ أحداث الفيلم مأخذ الجدّ رغم غرابتها، فـنتواطأ مع كاتبيه ونسلم بمنطقه الداخلي، فنسمح أن تكتشف رسامة الكاريكاتير “ليندا” جثة “إيريك” بالصدفة في تلك الجزيرة المعزولة التي تحاصرها الثلوج، ويمنع إعصار آنا البروفيسور “بول هرتسفيلد” من الوصول إليها، وأن يطلب منها أن تتولى تشريح الجثث بالنيابة عنه فتقبل بالمهمة ويساعدها “أندر مولر” المسؤول عن التقاط الجثث على شاطئ الجزيرة الخطير، وأن يتابع “بول” خطواتها عبر الهاتف.

كيف يقنعها بذلك، كيف تقبل بما طلب وتنجح في استعمال المشرط لتقطيع أوصال الأجساد وبتر أعضائها وهي الفنانة الرقيقة التي لا دراية لها بعلم التشريح؟ إنه المنطق نفسه الذي يجعلنا نسلم بوجود قاتل يحشو ألغازه في أجساد ضحاياه ويدعونا إلى حلها كما في لعبة البحث عن الكنز المفقود بعيدا عن مقولات الواقعية في الفن.

البروفيسور “بول” يُقايض عبر الهاتف على حياة ابنته “هانا” المُحتجزة لدى عصابة ينس

 

على طاولة التشريح.. تجريد فكرة الموت من جلالها

ورثت السينما الكلاسيكية من المسرح التراجيدي مبدأ اللياقة رغم نزعتها إلى المشهدية، ومداره على احترام الأخلاق السائدة والمواقف والأعراف واحترام ذائقة الجمهور، فلا يتخذ القائمون على العمل المسرحي أي إجراء على الخشبة يثير اشمئزاز المتفرج أو  يصدمه أو يخدش حياءه أو يثير رعبه وفزعه.

ويعتقد مُنظّرو هذا المسرح أن أشياء معينة لا يجب أن تقدم إلى الجمهور، وأن رنتها في الأذن تكون أفضل من وقوعها أمام العين كسمل “أوديب” لعينيه، ومن قواعد اللياقة أن يلائم تصرف البطل طبقته، فيتصرف النبيل تصرف النبلاء ويتصرف الخادم تصرف الخدم، وأن تكون اللغة مناسبة فتعبر الشخصيات عن نفسها وفقا لطبقتها الاجتماعية.

أما شأن نزعة فيلم “شرّحيه” الجمالية فقد كانت مغايرة، إذ اختار المخرج أن يوجه كاميرته صوب طاولة التشريح فلا يكاد يفارقها، وتظل الكاميرا ثابتة، وتحتفي اللقطة بالمشرط وهو يُعمل في الأجساد العارية المشوهة فتقطع الشرايين من الوريد إلى الوريد وتعرض تجويفات الجماجم وهي تنزف، وتبتر الأعضاء أمام أعين المتفرج وتوضع على الطاولة  وتنشر الأمعاء كحبل غسيل، وإذا لم يحدث ذلك في غرفة التشريح جادت به الصور أو الفيديوهات التي يصل إليها المحقق بعد أن يحل الألغاز.

يسلك المخرج مسلك القسوة ويختار ما أضحى يصطلح عليه اليوم بجمالية الفظيع والبشع ويتعمد استفزاز المتفرج ويمعن في القسوة عليه بلقطات التشريح الصادمة، ويعرض ما يربكه بصريا أو ما قد يصنف أخلاقيا ضمن خانة الاعتداء على حرمة الجسد وإن تعلّق الأمر بعمل تخييلي.

فهذا الطبيب المحقق أقرب ما يكون إلى فرانكانشتاين باعث الحياة في المسخ العجيب المخلوق من أعضاء الموتى، فيسعى عبر ذلك إلى تهميش فكرة الموت وتجريدها من جلالها الذي نعرف، ويدفعنا إلى أن نتعامل مع فكرة القتل بطريقة باردة محايدة لا عاطفة فيها ولا حرارة، فليس الجسد الممدد أمامنا غير موضوع للدراسة، يتيح لنا معالجة قضايا المنظومة القضائية معالجة نقدية بدل إثارة شفقتنا، فيقطع مع التصور الأرسطي للمحاكاة، ويجعلنا نعي بأننا نشاهد عملا فنيا يدفعنا إلى التفكير، لا أن نتابع فصلا من حياة نكتفي بالتعاطف معها أو الاحتراز منها.

المجرم سالدر الذي يتحمل المسؤولية المباشرة في مقتل “هانا” والتمهيد للحكم عليه بالإعدام

 

جدل في فلسفة القانون.. نظريات التأهيل والانتقام

ليس الفيلم محض حكاية عجيبة عن مختص في الطب الجنائي يفرض عليه اختطاف ابنته أن يتقمص دور قاضي التحقيق فيجعل الجسد البشري علامات يتتبع من خلالها الجناة، وليست الغاية أن يتخطى مختلف الحواجز بمهارة خبير ليحصل على الجائزة في نهاية المطاف فيحرر ابنته “هانا” من احتجاز المجرم المتوحش.

بل إن هذا كله يمثل الطبقة السطحية من خطاب مراوغ متعدد الدلالات، لأن المخرج يورطنا عبر جمالية الفظيع والبشع والقاسي لنخوض في أشد قضايا فلسفة القانون الجنائي تعقيدا، ويدفع بنا من حيث لا نشعر لنوازن بين تصورين لمفهوم العدالة ولوظيفة القضاء في المجتمع ولموقفين من حكم الإعدام.

تمثل هذا القطب القاضية التي تحكم على “سالدر” مغتصب الفتيات حكما مخففا وتلتمس له العذر والبروفيسور الذي يرفض تزوير تقرير الطب الشرعي لتحميل “سالدر” المسؤولية المباشرة في مقتل الفتاة، وفي جلية الأمر يختزل هذا القطب وجهة نظر النزعة الحديثة في فلسفة القانون الجنائي التي تربط مفهوم العدالة بالإصلاح من أجل مجتمع متوازن.

وترى أن دور العقوبة يتمثل في وقاية المجتمع من الجريمة ومن أخطارها، وتعتقد أن هذا الأمر لا يتحقق إلا بتأهيل الجناة بدل الانتقام منهم، وحتى يقنع أصحاب هذا الرأي بوجهة نظرهم يعودون إلى تاريخ عقوبة الإعدام ليقفوا عند البشاعة التي كانت تمارس باسم السلطة والشرعية وتطبيق العدالة، فمن منطلقها كان الحكام المستبدون يصفون معارضيهم.

هذا فضلا عن الأخطاء القضائية التي ارتكبت في حق الكثيرين واكتشفت بعد أن نُفذ حكم الإعدام في أبرياء حرموا من فرصة إظهار براءتهم، وعليه فقد كانوا يجدون فيه قتلا يتخفى برداء الشرعية، ومن ثمة عملوا على تخليص نظام العقوبات من النزعة الانتقامية ومن القسوة واعتبروا السياسة الجنائية معيارا لقياس درجة تطور المجتمعات.

“هانا” ابنة بروفيسور الطب الجنائي “بول هرتسفيلد” التي تم احتجازها من قبل عصابة “ينس”

 

“إن الدم لا يغسل الدم”.. روح التشفي في عقوبة الإعدام

يؤثر عن “فكتور هوغو” قوله “إن الدم لا يغسل الدم” ناقدا روح التشفي في عقوبة الإعدام، وضمنه أيضا يطرح السؤال الفلسفي حول ماهية الدولة ووظائفها، فمن أعطاها الحق في مراقبة كل أنشطة الحياة الفردية والخاصة، ومن حوّلها إلى إله مادي يتمتع بالملكية الحصرية لأرواح الناس ويقرر إنهاء وجودها متى رأى ذلك ضروريا؟

ومما عمّق هذا الاتجاه الاختلاف في تقدير درجة مسؤولية مرتكب الجريمة، فعلم الإجرام يؤكد أن الجريمة تحدث لعوامل شتى أغلبها غير مباشر تعود المسؤولية فيه إلى المجتمع،  وأن الوقاية منها لا يمكن أن تختزل في الانتقام من الجاني أو إرهاب من يفكر في الإقدام عليها.

فقد أثبتت التجربة أن العقوبة لا تحقق الردع المرجو، وأن الإعدام قد أُنزل بمن سبق لهم أن عاينوا تنفيذ أحكام بالإعدام في الساحات العمومية أكثر من مرة، ومن ثمة تساءل أصحاب هذا الاتجاه عن الجدوى من معاقبة القاتل على وجه الخطأ، أو من قتل دون نية للقتل ودون ترصد لضحيته.

بوستر فيلم “شرّحيه” للمخرج الألماني “كريستيان ألفار”، والمقتبس من رواية “المشرّح” للكاتبين “مايكل” و”سيباستيان”

 

تسليط الشر المماثل.. عدالة التكافؤ بين العقاب والجريمة

انضم الطبيب الجنائي “ينس” بعد انتحار ابنته المغتصبة إلى عائلات أخرى كان أبناؤها ضحية لعمليات اغتصاب مماثلة، وأقنعهم بأن هذه الجرائم تقع نتيجة لمشكلة في المنظومة القضائية التي تتساهل مع المجرمين وتبحث لهم عن ظروف التخفيف، وشكل معهم وفاقا لاستهداف رموزها.

واستدرج المجرم “سالدر” لتنفيذ خططهم، وما احتجاز “هانا” واغتصابها وحثها على الانتحار شنقا إلا وجه من هذا الاستهداف، فيرمز “كريستيان ألفار” بالطبيب “ينس” وجماعته إلى اتجاه ضمن فلسفة القانون يميل إلى الردع عملا بمبدأ ربط العقوبة بفداحة الجريمة، ويرى في الإعدام ضمانا للحقوق وصيانة للمجتمع.

ويجعلهم يفسرون السلوك الإجرامي تفسير المجتمعات القديمة، فيؤمنون باختراق الأرواح الشريرة لجسد الجاني وتوظيفه لإيذاء الآخرين، أو بلعنة إلهية تحوّله إلى شيطان رجيم، ومن ثمة فقد كان الفكر الجنائي القديم يجد العدالة في تسليط  شر مماثل على الجناة وفي إنزال عقوبة متوحشة بهم بصرف النظر عن إرادتهم أو وعيهم بما يرتكبون.

كما يرى أن الانتقام والإيلام المضاد كفيلين بإخراج الأرواح الشريرة من جسد الجاني وتطهير نفسه من الإثم وتحريره من اللعنة، ومن الطبيعي أن العقوبة كلما كانت أشد كان التطهير أبلغ، ثم أخذت هذه المجتمعات تمسرح فعل الإعدام وتحوله إلى عرض مثير في الساحات العمومية، فتعلق الرؤوس الآدمية على أسوارها أو في مداخلها، وكانت النساء الارستقراطيات في انجلترا مثلا تجد في مشهد تنفيذ العقوبة احتفالا يقتضي الخروج في أبهى الحلل والزينة.

ويذهب بعض فلاسفة القانون في العصر الحديث مذهبا مشابها تقريبا من منطلق أن عدم معاقبة الجاني لبطلان الحرية والاختيار والبحث له عن ظروف التخفيف يفضي إلى القول بمذهب الجبر، وتبعات هذا الاعتقاد خطيرة جدا على مبدأ العدالة وعلى الأخلاق والأديان معا.

لقطة عين الطائر للجزيرة المعزولة التي تحاصرها الثلوج والأعاصير والظلام التي توحي بالعزلة والخطر

 

“ستعيش الجزيرة العزلة لثلاثة أيام”.. مجازاة الأخيار ومعاقبة الأشرار

تصطدم في الفيلم رؤيتان مختلفتان، إحداهما تنتصر للمكافأة مثلا بمثل، والأخرى تفرض مبدأ التأهيل، ولكن السينما وجهة نظر في نهاية المطاف، ومغزى الحكاية أو الجانب الأخلاقي منها مهم جدا في تقييم أي عمل شرط أن نميز بين وجهة نظر شخصية ما ووجهة نظر الفيلم بأسره، وشرط أن لا يتحول الأثر إلى درس أخلاقي مباشر، وتُستقى وجهة النظر خاصة عند المقارنة بين بداية الفيلم ونهايته.

يبدأ الفيلم بلقطات غطس بما يطلق عليه فنيا مصطلح “عين الطائر”، فتعرض الجزيرة المعزولة التي تحاصرها الأعاصير والثلوج والظلام ضمن وظيفة مزدوجة تعرض الفضاء الذي ستجري فيه أهم الأحداث وتوحي بالتشنج والعزلة والخطر، فتجسّد الحلقة المفرغة التي يدور فيها التشدد في تطبيق القانون الجنائي مستفيدا من قول أحدهم “ستعيش الجزيرة العزلة لثلاثة أيام، فعليكم أن تسرعوا بإنقاذ أنفسكم”.

ولأن السينما تجازي الأخيار وتعاقب الأشرار ينتهي الفيلم بانتحار أصحاب نظرية “التكافؤ بين الجريمة والعقاب” جميعهم، وفي ذلك تعبير عن انتصار المخرج لأطروحة العدالة الإصلاحية.

وهي رسالة مدارها أن قدر أصحاب الأطروحة الثانية الفناء لأنهم غير قادرين على التأقلم مع روح العصر، كما ينتهي بوقوع المجرم “سالدر” في البحر ليلقى نحبه، وقد انضم إلى الفريق الثاني وأضحى أداتهم التي يستهدفون بها المنظومة القضائية، فلا يعدم من منطلق التشفي والانتقام، ولا يحظى في الآن نفسه بمحاكمة جديدة تبحث له عن ظروف التخفيف ثانية.

أبطال فيلم “شرّحيه” من اليمين البروفيسور “بول” ورسامة الكاريكاتير “ليندا” و”أندر مولر” و”سالدر”

 

طريق القسوة والفظاعة.. معالجة جمالية غير متناسبة مع الرسالة

يحق لنا وقد تبيّنا مختلف وجهات النظر في الفيلم ووجوه الصدام بينها أن نتساءل عن الدواعي التي جعلت المخرج يختار طريق القسوة والفظاعة في معالجته الجمالية، وعن مدى التناسب بين هذه المعالجة الجمالية والمقاربة العرفانية التي تتبنى مناهضة الإعدام والقسوة في التعاطي القضائي مع المجرمين وتؤمن بالوظيفة الإصلاحية للمنظومة القضائية.

فقد كان الفيلم يرمي إلى عرض القاسي والبشع ليثير اشمئزاز المتفرج من القسوة والبشاعة عامة، وليس أكثر بشاعة من أن نقرر نحن البشر أن ننتزع حق الحياة من أحدنا، خاصة أن السلوك المنحرف منتج اجتماعي يفضي إليه تفاعل معقد من خياراتنا القيمية والاقتصادية والتربوية والسياسية.

قد نكون نحن الأسوياء مسؤولين عنه بقدر مسؤولية المنحرفين، ولكن المعضلة أن مأتى القسوة في الخطاب البصري للفيلم من عمل التشريح الذي يمارسه البروفيسور وتمارسه مساعدته “ليندا” ممثلي قطب مفهوم العدالة الإصلاحية لا العدالة الانتقامية، ومن دعاة تفهم الجرائم لا من دعاة القسوة والتشدد والقتل.

كأنّ هذه المعالجة تدين البروفيسور “بول” وتحث المتفرج على الانتصار لوجهة “ينس” وتهون من فكرة الموت، وتعتبر الجسد مجرد شيء يقطع إن اقتضى الأمر ذلك أو يترك ملقى على طاولة التشريح بدل أن يكرم بالدفن.

فهذا الاختيار الجمالي في تقديرنا لم يكن متناسبا مع الرسالة التي كان الفيلم يعمل على تبليغها ولم يكن موفقا بالنتيجة ومن منطلق شخصي صرف، فنحن نجد تفسيرا الآن، وقد أدركنا نهاية هذه المقالة لذلك القلق الداخلي الذي خلفته فينا الفرجة رغم أهمية القضايا التي يطرحها الفيلم، ورغم ما ميّزه من توفيق تقني، فالشكل فيه يكاد يتحول إلى لعب مجاني يفقد العمل جانبا كبيرا من قيمته الفنية.