نجومية الجنس الناعم.. إبداع اللآلئ التي زينت السينما المصرية

الفنان المصري هشام عبد الحميد

هل الجنس الناعم بالسينما المصرية والعربية كان مجرد حِلية أو قطعة ماس تزين صدر العمل السينمائي والفني عموما؟ أم أن نساء السينما المصرية أثبتوا بحق أن النجومية لم تأت إليهم عبثا، وإنما جاءت على أساس موهبة عميقة بالأصل، وصقلها المران والخبرة والدراسة.

لكي نكون منصفين في إجابتنا، سنستعرض بعضا من الأمثلة لنثبت بالدليل الذي لا يدع مجالا للشك أن المسألة ليست كما يتصور البعض أن علم وفن التمثيل هو بالأساس ذكوري، ولا وجود للعنصر النسائي فيه.

الفنانة المصرية فاتن حمامة التي انتمت إلى المدرسة الحديثة في التمثيل

 

فاتن حمامة.. موهبة الطفلة التي نشأت في مهد السينما

بدأت فاتن حمامة مسيرتها كطفلة عندما مثلت أمام محمد عبد الوهاب في أكثر من فيلم، وقد كشفت بتلك الأفلام عن موهبة لا تُخطئها العين، لكن بداياتها الحقيقية كانت بالتحاقها بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وتحديدا في قسم التمثيل، لتتلمذ على يدي الأستاذ زكي طليمات الذي كانت تعتز بأستاذيته إلى أبعد الحدود. وبعد سنة من التحاقها بالمعهد تركته من أجل زواجها من المخرج الكبير عز الدين ذو الفقار، ومن هنا بدأت البداية الحقيقية لفاتن حمامة.

ومع ملاحظة أداء فاتن حمامة فإننا نجد أنها كانت لا تنتمي إلى مدرسة الاندماج، فلم نسمع في تاريخها الطويل أنها اندمجت إلى حد نسيان شخصيتها الحقيقية، ولم تتقمص دورها المنوط بها إلى درجة صعوبة الخروج منه بعد إنهاء المشهد.

وبمعنى أكثر وضوحا فإنها لو كانت تنتمي لمدرسة الاندماج وأرادت أن تمثل شخصية منهارة عصبيا وتصرخ بهستيريا، فإذا انتهى تصوير المشهد نجدها مستمرة في الصراخ والعويل فاقدة التحكم بنفسها، أو عاجزة تماما عن إيقاف جهازها العصبي عن ذلك النشاط الذي انتابها.

لم تنتم فاتن أبدا إلى تلك المدرسة، بل انتمت الى المدرسة الحديثة في التمثيل، وهي مدرسة التحكم في اللاوعي حتى لا يسيطر على الوعي، وكانت دوما تصنع مسافة بين عقلها الواعي واللاواعي، كما كانت لا تندمج كليا لحد الذوبان بالشخصية، لكنها تؤديها بوعي.

وبالطبع فهناك فرق كما ذكرنا بين الاندماج والأداء الواعي المتحكم في مجريات الأمور.

 

أداء الأدوار البعيدة عن الشخصية.. وعي التعبير الاحترافي

بنظرة بسيطة إلى بعض أعمال فاتن حمامة كفيلم “الحرام” و”دعاء الكروان” -على سبيل المثال لا الحصر- للمخرج الكبير بركات، حيث كانت فاتن في الفيلم الأول فلاحة، وفي الثاني خادمة من أقاصي الصعيد.

وإذا تأملنا لحظات التمثيل المختلفة لها في هذين الفيلمين فإننا نجد أنها تحتفظ بعامل العقل المسيطر على أدائها، بالرغم من أن الشخصيتين بعيدتين تماما عن شخصيتها الحقيقية، فهي في الدور الأول فلاحة وفي الثاني صعيدية، إلا أن نظرة عينيها في لحظات الدراما المختلفة كانت تعكس وعيا في التعبير الدقيق غير قابل للنقصان ولا للزيادة، بل بميزان حسّاس تقيس به التعبير عن الدور بدقة احترافية.

وبالتالي فقد جاء الأداء بعيدا عن الافتعال متخلصا من أي لازمات مُنمطة، كتلك الصورة النمطية المعروفة عن أداء مثل هذه الشخصيات، لكنه في الوقت نفسه كان صادقا وعميقا في دلالته.

 

“الخيط الرفيع”.. انفجار امرأة متزوجة بالسر

لو انتقلنا إلى فيلم “الخيط الرفيع” فالدور هو شخصية امرأة منبوذة اجتماعيا، إلا أن طريقة أداء فاتن حمامة الواعية أنقذت الدور من الميلودراما الزاعقة، وهناك كثير من المشاهد الرائعة بهذا الفيلم، مثل المشهد الشهير بين فاتن حمامة ومحمود ياسين -مع حفظ الألقاب- الذي أبدع في حواره كاتبنا الكبير إحسان عبد القدوس.

ويجسد هذا المشهد لحظة التكشف والمواجهة بينها وبين الذي صنعته، لحظة تأكدها أنها مجرد امرأة متزوجة في السر، وأن الزوج الذي من المُفترض أنه أحبها لا يستطيع أن يظهر بها أمام الناس بالزواج، فمصالحه ومظهره الاجتماعي لا يسمحان له بذلك.

كانت تلك اللحظة درامية بامتياز، وتحمل مفاجأة محمود ياسين وذهوله وارتباكه، مما أدى لحالة انفجار فاتن بوجهه، لتقول له إنها -أمام هذا الاكتشاف المذهل لحقيقة تناقضاته وانتهازيته- هي التي كانت سترفضه فعلا لو طلب منها الزواج.

هذا المشهد برمته يحمل فعلا ملامح ميلودرامية عالية، ويغري أي ممثلة باللطم والنواح والصراخ، وما يستتبعه من مبالغة في تغييرات الوجه، لكن أداء فاتن جاء منضبطا دقيقا بقدر سخونة اللحظة وقسوتها، وكان وعيها بكتم انفعالها وتحويل المسألة برمتها إلى الاحتقار لموقف الرجل وظهور حالة الكبرياء عندها، لقد كان ذلك الانفعال الداخلي المنضبط الواعي لتأصيل اللحظة جيدا.

الفنانة المصرية سعاد حسني التي عُرفت بإتقانها الرقص والتمثيل والغناء في الوسط الفني المصري

 

سعاد حسني.. عبقرية مدرسة الاندماج ذات الحضور الطاغي

برغم موهبة سعاد حسني وحضورها الطاغي وتنوع موهبتها الغنية بتغيير أدوارها، ورغم أن هذه الممثلة الفاتنة ثرية المواهب سواء في التمثيل أو الرقص أو الغناء؛ إلا أنها كانت تميل في بعض الأدوار إلى مدرسة الاندماج وتقمص الشخصية.

فمثلا في فيلم “الكرنك” من قصة أديبنا الكبير نجيب محفوظ، وإخراج علي بدر خان -مع حفظ الألقاب- يظهر جنوحها لمدرسة الاندماج في مشهد الاغتصاب الشهير، وموقعه في سيناريو الفيلم كنوع من الضغط النفسي والإذلال لكرامتها، كطالبة معتزه بنفسها وبآرائها.

في هذا المشهد تنهار الشخصية وتنتابها حالة هستيرية تصرخ على إثرها، وبرغم جودة اللحظة وقوتها الدرامية، فإن سعاد ظلت تصرخ بشكل هستيري حتى بعدما انتهى المشهد، وقد استغرقت وقتا طويلا إلى أن هدأت، وبالطبع كانت لحظة مبهرة بامتياز، لكنها أيضا كانت تنتمي إلى مدرسة التقمص بامتياز.

وهناك أيضا هناك فيلم “موعد على العشاء” من إخراج محمد خان، ففي مشهد لحظة رؤية سعاد جثة حبيبها في المشرحة، وهو الحبيب الذي دبّر له زوجها حادثة لكي يتخلص منه، وكان قد طُلب من أحمد زكي أن يرقد في ثلاجة الموتى من أجل لقطة مجيء سعاد الحبيبة المكلومة، حيث فتحوا لها ثلاجة المشرحة، لكن سعاد لم تتوقف عن النحيب رغم تصفيق فريق العمل لها لأدائها المُبهر، إلا أن الجميع انخرط في حالة سعاد الهستيرية التي استمرت حتى بعد إعطاء إشارة توقف من المخرج، ونسي الجميع أحمد زكي في الثلاجة الذي بدأ يصرخ مستنجدا لإنقاذه من التجمد.

الفنانة المصرية هند رستم التي تُعتبر أشهر وجه سينمائي عربي للإغراء

 

هند رستم.. سحر المتمردة المبالغة في أدوارها

لا شك أن هند رستم تعتبر أشهر وجه سينمائي عربي للإغراء، فقد كانت بملامحها المتمردة وجسدها المثير نموذجا للأنثى الجميلة، لكنها حاولت بكل السبل أن تثبت أنها ليست فقط نموذجا للأنثى الجميلة، بل أيضا ممثلة قادرة على التباين والتنوع في الأداء.

وبالفعل وصلت هند لما أرادت، وساعدها في هذا المخرج الكبير حسن الإمام الذي أسند لها فرصا كبيرة كدورها في فيلم “الراهبة”، ودورها في فيلم “شفيقة القبطية”، لكن كان أداء هند نموذجا للميلودراما، حيث غلب على أدائها المبالغة في الانفعال الداخلي والخارجي والمبالغة في الإيماءة والإشارة والحركة، وكانت هند تعلم هذا، لكنها كانت صادقة في أدوارها.

أذكر أنها قالت مرة في أحد المقابلات “إن الجيل الجديد يمثل تمثيلا أفضل من جيلهم، ولكن جيلهم كان الأصدق”. تستطيع أن تلمح هذا الأداء الميلودرامي في الكثير من أعمالها، فمثلا في فيلم “صراع في النيل” للمخرج الكبير عاطف سالم كانت هند تمثل شخصية الفتاة الجميلة المنتقمة، لكنها كانت مُبالغة في إغرائها، ومبالغة في لحظات غضبها، ومبالغة في ثورتها وتمردها.

أعتقد أنه برغم كل هذا، تظل هند رمزا جميلا للسيدة المصرية “الجدعة” و”الحمشة” إذا جاز لنا هذا التعبير، لذلك أحبها القاصي والداني، وكانت حلما للكثيرين، وما زالت صورتها تجلب للكثيرين التساؤل، تُرى من أين أتت هند بكل هذا السحر في جمالها؟

هناك أمثلة كثيرة أخرى على أداء رائع للجنس الناعم، وبالذات في عنصر التمثيل، حيث كان ظهور الكثير من النجمات والممثلات المصريات والعربيات قوة داعمة حقيقية في إثراء الفن المصري والعربي، لكن في هذه العجالة، من الصعب أن نستعرض نماذج عربية أخرى، لتؤكد أن تفوق الجنس الناعم في التمثيل كان الأرقى والأرفع كداعم لباقي الفنون.