صناعة أفلام الرعب.. مطرقة المحظور وسندان المحاكاة في السينما المصرية

إسراء إمام

لطالما كان الفن المصري في حالة من عدم الوفاق مع صناعة الرعب، لدرجة اعتدنا فيها أن نستمع إلى الجمهور وهو يحكم بغير جدال “إحنا ماينفعش نعمل رعب”، إنها جملة متداولة بشكل شهير للغاية إن كنت بصدد التعرف على ردود فعل عمل فني يندرج تحت تصنيف الرعب، سواء اكتمل العمل عليه، أو حتى ما زال في طور الإنتاج.

والحقيقة أن الجمهور يملك كل الحق في تبني هذا الرأي، حتى وإن كان شائعا ومُعمما أكثر من اللازم. وقد شهدنا مؤخرا طفرة في إنتاج الرعب على مستوى السينما أو التليفزيون، وسنتعرض لعدد من الأمثلة تفصيلا في السطور القادمة.

لكن ما يسعنا قوله بخصوص معظم تلك التجارب بشكل عام إنها كانت مخيبة للآمال، وإنها هي وغيرها من الأعمال السابقة التي تنتمي لتجربة صناعة رعب مصري؛ تُعدّ السبب الرئيسي لانطباع الجمهور الذي قد يكون ظالما ومجحفا في بعض الأحيان، لكنه أيضا يكون معبرا وصائبا وحيا وملائما لمدى رداءة بعض الأعمال التي يقدمها الفن المصري تحت بند الرعب.

هذا الموضوع الشائك يتناول دوما بشكل عابر سطحي، ومن وجهة نظر واحدة جامدة، فلا يسعك من خلال رأي صاحبها فهم ما إذا كان الانطباع الذي يتبناه بالسلب في الأغلب أهو رأي تجاه تصنيف الرعب بحد ذاته، أم العمل الفني الذي ينتمي لذلك التصنيف. ولهذا فطالما كانت المناقشات حول تلك النقطة مُبلبلة تائهة ومغلوطة وشبه متفق عليها ضمنيا بنبذ العمل الفني المرعب، حتى وإن تضمنت أسباب هذا الرفض اتهامات للرعب نفسه كنوع من أنواع الفن.

 

فن صناعة الرعب.. خيال التعامل مع الوقائع منذ الأزل

يكمن جزء كبير من المشكلة في أن ثمة كثيرين لا يعترفون بتصنيف الرعب كفن، فيقللون من شأنه تارة، ويتساءلون عن الغرض منه تارة أخرى، هذا إن أعلنوا عن رأيهم صراحة فيه من الأساس، لأنه كما قلنا في الفترة السابقة يحدث في معظم الحالات أن شريحة كبيرة من الجمهور أو المتخصصين تخلط في آرائها بشأن رفضها للعمل الفني بين كونه مرعبا ورديئا في الوقت نفسه، وكأن انتماءه لتصنيف الرعب يدينه أيضا، خصوصا إن كان يتناول موضوعات ما ورائية تؤسس للاعتراف بهذه العوالم، وتتعامل معها باعتبارها واقعا يعيشه بعض الناس.

لذا دعونا نتفق أولا وقبل كل شيء أن صناعة الرعب لون مهم من الفن الذي يستمد قوته من الخيال في التعامل مع وقائع يقصها عدد من الناس منذ قديم الأزل إلى الآن، إذ يدّعون معايشتهم لها ويتشاركون في توصيفها، ودور الفن هنا هو رصدها، وليس التوعية الوصائية بشأن حقيقتها من عدمه، بينما يكون التعامل معها كمخزون يُحاكي أي مخزون ثري من الأساطير التي تتغذى بها الكتابة بكل تصنيفاتها، فصناعة الرعب تمثل قدرة ليست هينة في تهيئة حكاية وشخصيات وصراعات نفسية وروحانية كفيلة بأن تورطك بالشكل الكافي، وتحرر مخاوفك الخاصة، فيما يشبه التطهير الأرسطي الذي يفترض فيه أرسطو أن التعرض للدراما يمكنه أن يكون علاجا في بعض الأحيان.

من الضروري الاعتراف بهذه الجزئية وفهم ما يتعلق بها، لأن غيابها كان من الأسباب المهمة لذلك التضارب الحاصل في صناعة الرعب المصري وشكل استقباله والحديث عنه أيضا منذ بداية عهده حتى هذه اللحظة.

 

رعب الماورائيات.. هاجس الشعوذة الذي قتل زهرة الإبداع

غياب الاعتراف بفن الرعب وخاصة رعب الماورائيات (وهو في رأيي أساس تصنيف الرعب، وما عاداه يدخل تحت بند الإثارة والتشويق) خلق على مرّ السنوات نوعا من التخوف من الخوض في تلك المنطقة، تجنبا لاتهامات نشر الدجل والشعوذة والتشجيع على انتشار الخرافات، وهو اتهام قاصر فكريا ومعدوم الخيال، إذ يتعامل مع الجمهور بسلطة أبوية غاشمة، ويتجاهل وجود عوالم عربية غنية وواسعة النطاق.

بات من المُحرج للمخرجين والكُتّاب نقل الماورائيات على الشاشة، وهذا بطبيعته قاد إلى اتجاه معظم صانعي الرعب للاستعانة بعوالم أخرى بديلة غريبة على البيئة المصرية والعربية عموما، فنجد فيلما ما يتجاهل التراث الثري من الأساطير الماورائية التي نمتلكها، ويؤثر أن يتناول قصة أمريكية مستهلكة لقاتل غامض يتصيد بالتتابع مجموعة من الشباب، كما رأينا في أفلام مثل “كامب” و”شارع 18″ عام 2008.

وطبعا تكرر الأمر بشكل غريب هذا العام في فيلمي “الحارث” و”خط الدم” من إنتاج منصة شاهد، فرغم محاولة الفيلم الأول ربط موضوعه بطبيعة واحة سيوة المصرية الخالصة، فإن هذا الربط جاء صوريا هزليا، وظلت الحبكة مجرد مسخ لحبكات الأفلام الأمريكية التي جسّدت التتبع الشيطاني لأنثى ما، من أجل إنجاب مولود بشري هجين.

أما فيلم “خط دم” فهو يُعد نموذجا صارخا لما أتحدث عنه، حيث رأينا في فيلم مصري مصاص دماء متأمركا في كل شيء، في الطريقة التي جعلته على هذا النحو مثلا، والملابسات التي نتجت عن وجوده في بيئة مصرية، وأيضا العقدة التي واجهها كعقبة لوجوده في تلك البيئة، فكل التساؤلات كانت غربية، وكل الإجابات أيضا، حيث تحول الفيلم لمحاكاة ليست شديدة الرداءة فحسب، بل مضحكة ومملة.

 

“أبواب الخوف”.. أعمال ثورية تكسر حاجز المحظور

كانت جميع الأفلام المصرية على اختلاف جودتها ومستوياتها الفنية مجرد محاكاة للأفلام الأجنبية تقريبا، حتى أن الجزء الثاني من فيلم “الفيل الأزرق” (2019) أيضا كان متأثرا في بعض المناطق من حبكته بخيالات الرعب الأمريكي، على عكس الجزء الأول منه (2014) الذي استند إلى معالجة مصرية مستقلة وجديدة من نوعها.

في المقابل يمكننا أن نتذكر الأعمال الفنية التي قدمت نفسها بجرأة ضاربة بعرض الحائط هذه الاتهامات المزعومة حول ترويج الشعوذة والدجل، ومنها مسلسل “أبواب الخوف” (2011)، وهو المسلسل الذي يلقى دوما تقديرا واحتفاء من قِبل هواة الرعب، حيث قدّم لهم في معظم حلقاته -على الرغم من تفاوت جودة هذه الحلقات فنيا- موضوعات تراثية خالصة طالما جرى تجاهلها، رغم أنها تُعدّ خامة جيدة جدا لصناعة الرعب، فنجد حلقات من المسلسل تتناول قصصا عن القرين والجن العاشق و”الندّاهة” والرفاعية، والسحرة نابشي القبور والجاثوم، وغيرها الكثير من الموضوعات المرتبطة بحكاياتنا العربية التي تتسم بشحنة موفورة لا تنضب أبدا من الرعب.

ورغم أن مسلسل “ما وراء الطبيعة” (2020) الذي عرض على منصة نتفليكس قد تناول موضوعات بعينها من التي جاءت في “أبواب الخوف” مثل “الجاثوم” و “الندّاهة”، فإنه تناولها بطريقة مكثفة أكثر في الرعب، حتى وهو يمتلك إمكانيات تنفيذ أقل.

وهناك أمثلة أخرى لأعمال لم تخشَ تلك الاتهامات نحترمها ونضعها في الذاكرة بغض النظر عن مدى التمكن من صناعتها على المستوى الفني، وأهمها بالطبع فيلم “التعويذة” (1987) لمحمد شبل، و”الإنس والجن” لمحمد راضي (1985)، و”عاد لينتقم” لياسين إسماعيل ياسين (1988)، و”الرقص مع الشيطان” (1993) وغيرها.

 

مطامح الربح.. فلسفة صناعة الرعب العائلي

تعتبر نقطة الخوف من الوقوع في محظور الشعوذة والدجل وترويجهما من الأسباب التي تُكرِس لتناول الأعمال الفنية المصرية لموضوعات ضعيفة، ومن المهم ذكره أن النقطة نفسها تمتد وتتشكل في معضلة أخرى، حيث تظهر في تجنب صُنّاع الأعمال الفنية المرعبة تناول هذه الموضوعات الماورائية بإرادتهم، لغرض يخص السوق ولا يمت بصلة لوقوعهم تحت ضغط الاتهامات التي ذكرناها، إذ أنهم يضعون صوب أعينهم غرض عدم خسارة العائلات كجمهور، فيحاولون أن يصنعوا رعبا ماسخا يخلو من أي رعب، طامحين في جذب جميع الفئات لمشاهدته.

هذا التفكير التجاري الذي يبدو ساعيا للربح قبل كل شيء لا يحقق ولو ربع ما تمناه، لأنه يبدو كمن رقص على السلم، فلا يُرضي الجمهور المهتم بالرعب الجيد، ولا يحصل على ثناء جمهور العائلات أيضا باعتباره قدّم لهما فنا مرتبكا، فيخسر في كل الأحوال على مستوى كيفي ومادي، لأنه لم يؤمن منذ البداية بقيمة مبدأ التخصص الذي يعد وسيلة كافية في حد ذاتها لتحقيق الجانب المادي من الصناعة.

 

“الرقص مع الشيطان”.. خاتمة وعظية تفسد الحبكة

بخصوص فعل الرقص على السلم، والوقوف في المنتصف بين نيتين، تأتي أيضا الأعمال التي كانت جريئة كفاية لكي تتناول حبكة ما ورائية، لكنها لاعتبارات مبهمة قد تجمع بين التخوف من ردود فعل محاربي الشعوذة، وبين محاولة كسب كل فئات المشاهدة، فقد اكتفت بحبكة غير متجانسة تجمع ما بين القص الماورائي والمعضلات الاجتماعية، بل والخطابات الوعظية في بعض الأحيان، فبدت تلك الأعمال فاقدة لهويتها منقسمة في داخل نفسها، ومفتقرة إلى تناغم واضح، لتنتهي عند نفس الإخفاق الذي يؤدي إلى عدم إقبال الجمهور عليها، وذلك ما بدا جليا في مسلسلات مثل “الكبريت الأحمر” و”ساحرة الجنوب” وغيرها.

كما أن هذا المزيج المنفر قد يتكثف في نهايات بعض الأعمال فقط، فيقلل من وقع أثرها على الرغم من المجهود الذي بذلته لكي تحقق معادلة مرعبة مستقلة وجيدة، وفيلم “الرقص مع الشيطان” مثال ملائم تماما لهذه الحالة التي أحاول وصفها، لأن الفيلم في نهايته يبدو وكأنه يقدم اعتذارا عن افتراضاته الخيالية بخصوص السفر بالزمن، وبدلا من أن يركز في انتقاد شخصية بطله الانتهازية، فإنه يضع اللوم كله على فضول البطل العلمي تجاه افتراض السفر بالزمن، ولا يُفرّق بين مشروعية سعيه كعالِم وراء هذا الفضول في حد ذاته لتحقيق إنجازا علميا، وبين وقوعه الشخصي تحت غواية أزمته النفسية القديمة مع قلة المال التي تحوله لمسعور يسعى لأي اكتشاف علمي بحثا عن الثراء، بل ويستغل أي تجربة خارقة يتوصل إليها في البحث عن كنوز جده القديمة.

يبدو البطل في النهاية نادما على كل شيء، حتى على تطلعه العلمي نفسه، مما يوحي بأن تجربة سفره بالزمن برمتها كانت فعلا شيطانيا، والمشكلة أن الفيلم لم يُوضِح أنه يتحدث عن تجربة البطل الخاصة بعينها ليغدو الأمر مقبولا، لكن المزعج هو ما نشعر به من إيحاء بتبليغ رسالة وعظية تقول إن افتراضية السفر بالزمن مجرد وسواس شيطاني في العموم.

 

“قاهر الزمن”.. هل يقهر العلم إرادة الله؟

إن الخلط في الأوراق التي ينتهجه صناع السينما مخيف وجبان للغاية، وهنا وجب علينا أن نتذكر جرأة المخرج كمال الشيخ في فيلم “قاهر الزمن” (1987)، وهو من أفلام الخيال العلمي المصرية الفريدة من نوعها ومدى جودتها، فقد دافع بشجاعة وعقلانية شديدة المنطق والنعومة عن فكرته العلمية، مراعيا الاعتبار الديني، ومُوضحا عدم التعارض فيما بينهما، ومحافظا على هوية الرواية المأخوذ عنها للكاتب نهاد الشريف، وتدعو الرواية لتأمل افتراضية تجميد جسد الإنسان المُحتضر من جراء مرض يعجز الطب عن علاجه، حتى أوان اكتشاف الدواء الذي يمكنه هزيمة ذلك المرض.

وقد شدد الفيلم في أكتر من مشهد حواري على أن أي اكتشاف علمي مثيل يمكن البشر من قدرات كهذه في التعامل مع أجسادهم لن يحدث إلا بمشيئة الله، فما المانع إن كان هذا الاكتشاف مجرد سبب لتحقيق إرادة الله في الأساس؟

سيظل كمال الشيخ مشكورا على شجاعته الأدبية والفنية تلك، وتحسب له محاولة فض ذلك الالتباس الشهير بين الدين والعلم في نقاط كهذه، رغم أنه دفع ثمن تلك الشجاعة وقتها، لأن الناس رغم كل ذلك المجهود في الفصل والشرح، لم تتقبل جرأة الفيلم.

 

“عاد لينتقم”.. روحاني حقيقي في طاقم الفيلم

هناك مثال آخر للجرأة لا بد أن نذكره بخصوص ضرب الحائط باتهامات ترويج الشعوذة، وهو ما فعله المخرج ياسين إسماعيل ياسين في فيلم “عاد لينتقم”، فقد استعان بالروحاني الحقيقي السيد الحسيني في مشهد من مشاهد الفيلم التي اضطر فيها البطل للجوء إلى أحد الروحانيين للتواصل مع روح الطفل المُعذَبة التي تسكن منزله وترغب في التواصل معه ليساعدها.

هنا يُحسب لهذا المخرج أنه اهتم بصنع أجواء صادقة لموقف كهذا، لدرجة الاستعانة بروحاني حقيقي ذائع الصيت وقتها، دون التوقف عند حسابات منافية للمنطق الفني حول كونه بفعلة كهذه يُساهم في التكريس لصحة هذه المعتقدات أم لا، فكان متفهما بالقدر الكافي أنه يجسد موقفا يحدث كثيرا حتى لو كان مجرد نوع من الأوهام التي تتشبث بها الناس للاعتقاد في عوالم أخرى، معتبرا أن حدود مهمته الفنية تقف عند تجسيد هذا الموقف بكافة مشاعره حيا، متسائلا بتكهن خيالي: ماذا لو نجح هذا التواصل؟

وفرضية “ماذا لو؟” هي من الافتراضات الفنية الرئيسية والمتفق عليها، أما الحكم عليها والبحث في شأن واقعيتها من عدمه والتضارب في الآراء عن مدى جدواها كتصرف في الحياة هو أمر متروك للناس في النهاية.

 

آفة الافتقار لحِسّ الرُعب.. سوسة تفسد المحصول الفني

هناك أسباب كثيرة يرجع إليها تواضع التنفيذ الفني لأي عمل مصري مرعب، وأول تلك الأسباب بالطبع افتقار معظم المخرجين الذين خاضوا تلك التجربة إلى امتلاك حسّ يخلق أجواء مرعبة، فهذا الحس هو بمثابة موهبة خاصة كحس الإخراج الكوميدي، فالمخرج المتمكن قد ينجح في إخراج فيلم كوميدي، لكن المخرج المتمكن الذي يمتلك حسا في صناعة الكوميديا لا ينجح فقط في إخراج فيلم كوميدي، بل يساهم في زيادة وقع آثار الدعابة في المَشاهد، ويعمل على تطويرها، ويضفي عليها خيالا يُحاوِطها، هذا الخيال قد يكون مضحكا أكثر من الدعابة نفسها.

الوضع مماثل مع مخرج الرعب الجيد الذي يمتلك بالفطرة قدرة على تهيئة أجواء الرعب المكتوبة في السيناريو، ليعلو بها فوق قوتها، مُستخدما أدواته المعتادة كمخرج، كاختيار الموسيقى الملائمة تماما، بل وطريقة توظيفها في مكانها بالضبط، ومنهج المونتاج وخطة الإضاءة ورسم حركة الممثلين وأدائهم واختيار الزوايا، إضافة إلى اختيار الأماكن من بيوت وديكور، والوعي بقرارات حول ما يمكننا رؤيته، وما لا بد أن يُترك محجوبا عن أعيننا.

وبخصوص آخر نقطة، من منا لا يتذكر ما قرّره المخرج البولندي “رومان بولانسكي” في نهاية فيلم الرعب الرائع “طفل روزماري” (Rosemary’s Baby) عام 1968 حينما كانت البطلة “روزماري” ترى لأول مرة رضيعها الذي نعرف نحن كمتفرجين أنه ليس بشرا عاديا، لنجد حسم “بولانسكي” حينها في عدم معرفتنا أبدا لشكل الرضيع، بينما استوضح وجه الأم في لقطة كبيرة بنظرته المفزوعة الشهيرة التي كانت مرعبة أكثر مليون مرة من أي تخيل كانت ستراه الكاميرا لوجهه.

المخرج المصري كمال الشيخ الذي كان قادرا على إرعاب جمهور باستخدام التشويق والغموض غير المُبتذل

 

كمال الشيخ.. المخرج الذي أمسك بأطراف المعادلة

لم تكن أعمال الرعب المصرية محظوظة بما يكفي لترزق بمخرج شديد الحساسية تجاه خيال الرعب، لأن نصف من اشتغلوا في الرعب مجرد مخرجين عاديين أرادوا أن يثبتوا أنفسهم في السوق الفني كمخرجين غير متخصصين في لون معين، بينما النصف الآخر الذي كان يؤثر هذا النوع على وجه الخصوص، وقد امتلك مستوى معقولا من هذا الحِس؛ لم يكن متمكنا تماما من الشطر الثاني في تلك المعادلة الصعبة، وهو الحرفية الفنية، مثل ياسين إسماعيل ياسين بالرغم من محاولاته التي تحترم على مستوى الفكرة والإصرار والانتماء لهذا اللون المنبوذ وتقديره. ومثل المخرج محمد شبل، فرغم اعتبار فيلمه “التعويذة” من أفلام الرعب التي لا بد من الوقوف عندها في السينما المصرية، فإنه افتقر لجودة الصنعة الفنية على مستوى استخدام الأدوات الإخراجية التي ذكرناها سلفا بدرجة مُرضِية تماما.

وهنا سنعود للمخرج كمال الشيخ مجددا، فرغم أنه لم يُصنَّف كمخرج يقدم الرعب بل عُرف بتفضيله لأجواء التشويق والغموض؛ فإنه امتلك ذلك الحِس القادر على الإرعاب بلا ريب، وبهذا يمكننا أن نعتبره المخرج المصري الذي تمكن من تحقيق طرفي المعادلة بشكل كبير، فأجواء الغموض المرسومة بدقة التي قدمها في أفلام مثل “الليلة الأخيرة” و”قاهر الزمن” وغيرها، تساوت في مشاهد كثيرة منها مع أجواء الرعب، ولم تقف عند مشاعر التوتر والانقباض.

يكفيك أن تتذكر المشهد الذي أطلّ منه البطل من النافذة على البيت البعيد الغريب القابع فوق الجبل الذي يُعد سكنا لدكتور يخفي مرضى قسم العلاج المجاني في المستشفى التي يملكها لفترة زمنية ملحوظة، ثم يعودون ويظهرون مرة أخرى كموتى في المشرحة، دون أن ينقص منهم أي عضو من أعضاء جسدهم. فيتكاتف في ذلك المشهد مظهر البيت غير المألوف، وهي الطريقة التي يبدو فيها مسكنا وحيدا مُنتَقَى بقصد، ليكون وسط جبل موحش متوارٍ عن الأعين، وطريقة توظيف الموسيقى في تجسيد إحساس البطل المنقبض القلِق، وتصوراته الذهنية التي نتوحد مع كونها لا تمتلك سقفا واحدا من التأويل، بل تتوسع لعدد هائل من الاحتمالات المخيفة، كل ذلك يدفعك في لحظة لأن ترتعب تماما.